الثلاثاء ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٣

شعيب حليفي: أرض ومبدع

د. شميسة غربي، سيدي بلعباس

تتحرك مشاعر المبدع مدرارة في أبجديات الحنيـــن الدائم، إلـى المحضن الممتد علـى ربوع بلاد الجمـال، المتسلل من ملكوت رب السماوات والأرض والموزع على المـعمورة فـي هندسة فنيـة تحكـي عن ربوع امتلكت قلـب المبدع وأسالـت مداده علـى ضفـاف البوح فـي أزمنة الحنـيـن المتناثر عبر صفحات الوجدان في سرود أرض الشاوية بِيَرَاعِ ابنها البار «شعيب حليفي».

ما بين دَفَقِ الحنـيـن، واشتغال الحـرف، تتشكل حيرة الكـاتب، فيتساءل «هل الفنية تعني إقصاء التاريخي واليومي والإيديولوجي لِحِسَابِ مَنْ؟»( لا أحد، ص 71) يتسربل جواب هذه الحيرة في تواليف نصية مضَمخَة بعشق الأرض حين يستيقظ تاريخـها علـى طبول الذكـرى في وجـدان شعيب حلـيفـي فيلاحق المشهد أو يلاحقه المشهد في خِضم يوميات تعانق القلم على إيقاع التعبير الحالم.

هي نصوص لافتة، تستقيم مقاربتها، في عفوية تنهل من منبع مشاركة القارئ للكاتب مشاركة وجدانية جلية.

من النصوص المختارة، ما تضمن التوثيق للأصل والمنبت وتحرك الأجداد نحو فضاءات-بما-أقل غبنا، من غيرهـا علـى مستوى الشعـور وحمـايـة الكبريـاء من عنت الدخيـل الغاشـم:

« ولما تمادت الإقامة الفرنسية العامة في استعباد الأهالي، باع جدي الحسين اثني عشر قنطارا من القمح وبقرتين ثم حمل ما خف من أثاث على حمار وشق الطريق من دِمْنَات في اتجاه مراكش ثم واصل السير إلى مدينة تسمى سطات و ذلك سنة أربع وعشرين وتسعمائة وألف » (لا أحد، ص47و48).

كانت هذه الانطلاقة الأولى والأزلية لاختيار بقعة من بقاع الله، ستعرف – فيما بعد – حكاية تأسيس متين لِعاصمة الشاوية في حلتها الأمازيغية المنسوجة بتاريخ أبطالها في مدونة المحكي بنوعيْه، الشفهي والمكتوب.

حكاية مدينة سطات يبسطها الكاتب في وصف أولي: «عبارة عن عراصي و نوايل... شَعَر- كما سيبوح لأبنائه بعد سنوات، بعدما أصبح واحدا من رجالات المدينة – بالراحة والطمأنينة التـي أشعر بهما الآن، فقال جدي لزوجته حليمة وهي لم تتجاوزالخامسة عشرة من عمرها بعد: « هنا سنضرب الأوتاد ونخلف الأولاد.»( لا أحد، ص 48)

ويواصل الكاتب حكاية الجد بعد استقراره في مدينة سطات: « أصبح فلاحا في العراصي التي كانت تنتج الخضر والفواكه عن طريق السقي، ثم ملّاكا لعدد منها... عاش جدي راعا سعيدا ويُتوفى إلى رحمة ربي في أواسط السبعينات بعدما خلف خمسة أبناء: ولدان وثلاث بنات، بينهن أمي...» ( لا أحد، ص 48).

يستهـويـه التذكـر للمجـد التلـيد، فيبحـر الكـاتب في اعترافـات حميمية تشمل الأصل والأصدقاء: «الآن،وجدت شيئا أتشبث به عند أجدادي وجداتي وأصدقائي الذين أحبهم أكثر من نفسي... ووجدت شيئا أكتب عنه وأفخر به، يقومني وأمشي على هديه.» ( لا أحد، ص 62).

سرعان ما يكدر صفو هذا الإحساس، تساؤل الكاتب عما يمكن أن يتمخض عنه الغيب:
« ماذا سنترك نحن لأبنائنا و حفدتنا؟ بعد مائة سنة – في تقديري – سيكون أصغر حفيد لي في السبعين من عمره، هل سيجد شيئا جميلا من أثرنا يحميه و يعتز به؟ »( لا أحد، ص 62).

تتعمق فكرة الدفاع عن الأصل للحفاظ على الفرع، في اعتراف آخر، يتوسع إلى ترسيخ مقولة الحلم الخاص للكاتب، ثم تحقيقه، على مستوى أعلى و أسمى من المناصب الاعتيادية إنه حلم القضية في أقصى تجلياتها: «بين هوية العائلة وهوية المكان، تختلط ثقافات شتى عروبية وأمازيغية وإفريقية، تعبر عنها أنظمة و أنساق دائمة التشكل. لذلك ليست لي-بتاتا- طموحات في المجال المهني أو أني أبحث عن سبل، كيفما كانت لأصبح مثلما يحلم الكثيرون، قناصلة في الداخل وفي الخارج. يكفيني فقط أني سليل أنبياء هذه الأرض وأوليائها، ومفوض للدفاع عن رسالاتهم وأحلامهم، ونشر نبضات أرواحهم التي لا تتوقف أبدا.»( لا أحد، ص 58).

بهذه الحرارة و القوة، في الدفاع عن القضية، يفتح شعيب حليفي ملف السلالة والانتماء، معبرا عن ذلك التدفق: «أحس بأن دمي نهر شاوي جارف يجري بلا توقف، ترفده بقوة دماء صحراوية إفريقية و أخرى أمازيغية... تنوع وحياة في لقاء بويا بن عبد السلام بأمي بنت الحاج راعا خلال زواجهما سنة ثمانية وأربعين وتسعمائة و ألف. » ( لا أحد، ص 48) والحديث عن السلالة، يفضي إلى تقصي قيمتـها فـي حيـاة الكـاتب بشكل عـام، فيعلـن: «... لأن دم السلالـة حصـن عـال للنفـس والروح و القيم، سلالتي القريبة جدا من أنفاسي أو سلالتي التي يربطني بها المكان و الأرض والجهة بكل التراب الظاهر و الغابر. »( لا أحد، ص 54).

ويتقاطع موضوع الأرض في كلام الكاتب مع عنصر السلالة فإذا هي العودة إلى التاريخ الجميل حيـث تشتغـل الذاكـرة فتقلـب تلك الصفحـات المثقلـة بالرمـوز:« أجد في الأرض التي أنتمي إليها، في تاريخها وتاريخ رجالها و نسائها، مادة ثرية لأيقونات كونية، و لخصوصية أعبر بها عن رموز تنطلق من الحدثي والشخصي لتصبح شيئا كليا و مركزيا و جمعيا.»(لا أحد، ص 81).
تتكــرر الإشـارة إلى مدينة " سطات " في الكثير من صفحات المتن، على مستويات عدة: المناجاة، الوصف، التأريخ، البحث عن الدلالة المفترضة لاسم العَلَم سطات حيث صرح الكاتب: « يتمدد الخيال في البحث عن الجذر الضائع لاسـم سطـات بيـن رقم و اسـم علـم، واحتمال ثالث غير مستكنـه بعـد. بالنسبـة للرقـم 16 (سـادس عشـر) والذي ينطـق فـي الدارجـة المغربيـة (سطاش)، يقـال إنه تحول إلى سطـات تخفيفـا لنسيـان الموت الذي طال الستة عشر عالما في ظروف ما خلال القرن السادس عشر، (فنحن نسمي التَذَكُرَات الجارحة كي ننساها ؟).وقد يكون اسـم سطـات أيضـا من اسـم العلـم زَطّاطْ، وهـو لقـب كـان يطلـق علـى الشخـص النبيل والشجاع، المشتغل بحماية الركب والقوافل من مكان لآخر بِمُقابل.» (لا أحد، ص 82).

ويتعمق الكاتب في الروايتين المتعلقتين بدلالة اسم العلم سطات فيجنح إلى احتمالات نسجتها أذهان قبائل المزامزة في تاريخ حافل بالروحيات، تاريخ مؤسس على نفحات الصوفية الملهِمة يقول الكاتب موضحا: «روايتان... الأولى للموت تأكيدا، والثانية نفيا، بالإضافة إلى احتمالات أخرى في أذهان قبائل المزامزة الذين يزرعون الحكايات و يحصدونها، وهي ليست بعيدة عن عمق و قدسية كرامات بويا حجاج شيخ الوقار وحارس العلوة، وسيدي محمد البهلول العزري الزهواني المؤسس لفضاء الحياة وسط موت الأشياء.»( لا أحد، ص 82).

وتنجرف به الذكرى إلى عهود خلت، فيقرع ناقوس البطولة حين يروي حادثة:«... كان لا بد أن يقف بويا الغليمي، كبير أولياء المنطقة منذ القرن الثامن عشر، لمفاجأة كل ذلك الضيم الذي على يمينه يتمدد وقد عرّش على سحنات المَزمَزيين، والمتقطر سائلا أحمر من الرؤوس المعلقة على سور القصبة، حتى إن حمرة السور اليوم، لا يمكن لأحد أن يشك في كونها فعلا هي لون الدماء التي تشربها التراب و اصطبغ بها. ويعتقد كل أهالينا الذين لهم تاريخ بالمنطقة أن ذلك الحائط الإسماعيلي بلونه القاني هو دم سلالتهم من شهداء تلك المرحلة. »( لا أحد، ص 83).

في خضم مرجعية البطولة، يلتفت الكاتب الى معالم أرض البطولة، فيصف المدينة، منتشياً بطبيعتها وخيراتها: « سطات مدينة ليس لها مثيل في العالم، صورة بالأبيض و الأسود، ولو وَجَدَتْ من يعتني بها لأصبحت مشهدا من الجنة التي وعدنا الله بها. مكان ذو هواء صحي، لا رطوبة فيه، محاط بأجود الأراضي الفلاحية، مناخها ممطر شتاء و صاهد صيفا يتوسطها نهر ويسكنها أناس يجسدون التعددية الكاملة لكافة القبائل المغربية من الشمال إلى الجنوب.»(لا أحد، ص 82 و83).

ويشتد الوجد بالمبدع، فيمزج بين المناجاة والوصف في رومانسية حالمة: «سطات... أيتها النفس، ليست مدينة، بل شلال من الخيالات ورواية أزلية، أبطالها من كل الطبقات والفئات... من كبار الثوار والفقهاء والأولياء(...)وأنا أحب هذه المدينة مثلما أحب أهلها وتاريخها الذي يأسرني.رواية مفتوحة تتجدد فصولها كل يوم، أبطالها من البسطاء الذين يتحولون إلى ملاحم وأساطير وأغان...»(لا أحد، ص 83) حَفَرَتْ مكانها في الذاكرة، فجرى السياق مستأنسا بعرض نماذج من معالم الحياة اليومية في مدينة سطات القديمة، العائمة في مشاهد الحركة الدؤوب بتفاصيل أناسها و انشغالاتهم بأمـور معاشهـم و أحلامهـم المعلقـة على طاولات المقاهي، وضجيج الأسواق، وروائح الأطعمة وحوارات الأخذ و العطاء، يقول الكاتب فاتحا سجل جوهرة الشاوية: « منذ منتصف السبعينات لم يعد لأحد شيء ما يتحدث عنه، لهذا فكل حديث حميمي بهذه المدينة ينطلق من الماضي ومن النسيان... الكورس و الفانتازيا، السوق القديم و الشناقة وبائع القطران المنزوي في الأقصى، أسفله قليلا حيث كان يقف عمر العيار يروي الأزلية كل مساء.المحطة القديمة والخبازات والمارشي وأصحاب الشواية، وفي الجهة الأخرى الأقواس حيث باعة الحريرة والتقلية والشاي وذلك الحائط العجائبي الذي رسم عليه البُراق بالألوان. السويقة بعزها الكلاسيكي، وحوانيت الأثواب. كافي كوميرس و مقهى بودراع..الملاح والمقاهي الصغرى التي تأوي المنفيين وهي لا تختلف أبدا عن الرصيف الذي كان يأوي الحصادين بالمناجل وتْبَانْدَا...» ( لا أحد، ص 84).

وتستهوي الكاتب لوحة المدينة بمرافقها العتيقة، فيعرض مسحًا شاملا لمرافق المدينة الأزلية في قلب الشاوية أزلية روايات عمر العيار: « الحديقة التي كانت بحيواناتها، البوسْطة و مدرسة التوحيد، البلدية التي كانت أول بلدية تُبنى في المغرب كما قيل لنا بفخر. ملعب التنس، تيران الحلفة، ووادي بنموسى الذي جفت عيونه، والعراصي التي اشترتها البلدية في إطار نزع الملكية بأربعة دراهم للمتر.» (لا أحد، ص 85). ويستمر العرض في تقصي مشهد الحركة الملحاح على وجدان الكاتب:«في زنقة القائد علي المسماة الذهايبية (...) نساء وفتيات يبعن البغرير والمسمن إلى جانب بضاعة الشمال المتراكمة أمام العطارين و باعة الذهب (...) في سوق حرة تؤشر على تحولات جديدة في التجارة و تجار جُدد يؤمنون بقانون آخر غير أعراف تجار السويقة القديمة، لهم خطاب وأحلام، لكن الواقع أكبر منهم ومن زيف الصورة الملونة المكتوبة بخط آخر على تراب "بويا الغليمي".»(لا أحد، ص 85).

ويتسع الوصف، ليستضيف شارع " عبد الرحمن سكيرج " بكل خصوصياته: بنكهة أطعمته «...وهو عامر بالحوانيـت والمقاهـي الشعبيـة التـي تبيـع الحريـرة وأطبـاق الكـرعيـن بالحمـص واللوبياء والتقلية... كما أن هناك محلات مفتوحة باستمرار لبيع السمك المقلي والكفتة...» (لا أحد، ص 86) وبأخبار الوافدين عليه « الروائح المتصاعدة، حرائق الرغبة تستجلب البدو القادمين من جهات أولاد سعيد و العراعير و موالين الواد، وأولاد سليمان.. ولم لا من امزاب وأولاد احريز العظمى.» (لا أحد، ص 86) وبصفقات شاحناته وسياراته في غياب الترخيص بين أقواس الانتظار، وتداعيات الأحوال، في قصص أعلام سكنوا قلب المشهد، وحبكوا أطرافه، فتشكلت الحكاية، حكاية مكان، شغل البال، واستقطب الاهتمام، اهتمام البسطاء، الذين إذا أحبوا صدقوا وإذا تكلفوا استعدوا وإذا أخلصوا قدموا أرواحهم قربانا على منبر التضحية «وقد شغل هذا المكان البال حتى إن بعض المراقبين صاروا من سكان فضائه يحرسون سهوه وفراغه... وهم عادة ما ينتمون إلى البسطاء ممن يلتقطون أرزاقهم هناك، كما أنهم تعاقبوا باستمرار على هذه المهمة بدءًا من "الحاج بلحاج" الذي مات ذات صباح غامض، إلى "باخا" الذي ودع هذه الحياة في صمت...فلم يبق بعدهما غير علي الشواف و جامايكا بعد الجيل الأخير لشيكي والطوبيس وحمو زيا و حمو لعجل وتقهقر عبد الله المسطي مع أخته الروحانية. » ( لا أحد، ص 86) ويسترسل الكاتب في تصنيف أعلام سطات القديمة بعجائبيتهم: « أكلة الأفاعي وعيساوة والسّبَاعيين والجمال المكّارية والصّاروخ و شكارة الضريسة (...) زاكورا المسكون بالكتابة على الحائط،ولد البلدي صاحب الخيال المنفجر في اختراع بطولات وهمية (...) مسيرة أثرية في التنفيس عن المواطنين.» (لا أحد، ص 89). وهو ما سيتحقق بصورة أدق مع شخصية "الربيب" «رجل قصير القامة بمزماره المصنوع من قرن الثور..و طاقيته الحمراء البالية تناسب رداء الفرجة في حلقته و مسرحه الذي كانت تجتمع حوله أكثر مما يجتمع الآن بمسرح محمد الخامس (...) قادرٌ على تحريك الكوميديا بالقلوب من خلال النظر إليه ثم بالاستماع إلى مسرحياته الجميلة» ( لا أحد، ص 89)، وهناك شخصية المجذوب « الذي يغرز السلك في خده دون أن تسيل الدماء...و شارب النار ونافخها... والذي يشرب الماء الساخن و يمضغ الزجاج...والذي يحكي عن الموت و جماله (...) إنهم أسياد الحقيقة وصناع الحياة الجميلة. »( لا أحد، ص90).

كل هذه الزركشة المتناثرة عبر أرض سطات تستميل الكاتب لتقصي المزيد من حكايات أبناء الأرض الجميلة «البطوار القديم، ذبائح فائرة و كلاب الكرنة. خياطون عراة وخرازون حفاة ونجارون يتحدثون عن مسامير المائدة (...) السبوت و الآحاد وكل المساءات المطلية بالحنين، حنين المحارب، في السوق، هناك احتفال بالنسيان والتذكر...وخطوات (فاطنة الجلايدية) تقف في رحبة الجلود، تقلب و تساوم على الأرخص، ومن حين لآخر تتوقف لتسحب أنفاسها و أنفاس سيجارة الكازاسبور. فاطنة الجلايدية: اثنان في واحد...رجل و امرأة ثالثهما وهْم مركب...» (لا أحد، ص90و91). ويذكر شعيـب حليفـي منطقـة الكنانط الموجودة بالقرب من السـوق القديـم حيث عاش السباعـي« ينتظر قدوم الجِمال للفصد عن طريق غرز مسمار طويل وحاد، يسمى الشفا، في عرق الدم الخاسر لينفجر معينه فائرا متعاليا.» (لا أحد، ص91و 92).هذه حرفة السباعي الأول، أما السباعي الثاني فيقول شعيب حليفي عنه: «...مختص في الكي، (...) يخصص صباح السبت في كيِّ الرجال، أما زوال يوم الأحد فيخصصه للنساء والأطفال الرضع. يجلس السباعي، بجلبابه الساركة قرب عتبة البراكة، ومن حين لآخر تمتد يد الشريف السباعي إلى القضيب الحديدي من كانونه اللاهب، في حركة مدربة لكيّ كل الأمراض.» (لا أحد، ص 92).

لن تكتمل الحلقة إلاّ بالحديث عن "خربوش "« الذي كان يصطاد الكلاب الضالة بالمدينة، حينما كان يقود عربة البلدية الاستثنائية بحصانها المعتوه، وذات الطلاء الأخضر، حاملا " السلبة" من القنب مربوطة في عصاه الطويلة، وبيده الأخرى قطعة من اللحم (...) يغري بها الكلاب الضالة بالمدينة، وكلما اقترب كلب يكون "خربوش" جاهزا لرمي السلبة على عنقه، ثم يجره بعد ذلك ويرميه في عربة الموت البلدي.»(لا أحد، ص 93).

بالإضافة إلى أهالي " سطات " الأصليين يذكر الكاتب أنه « عاش بسطات، في الملاح، يهود كانت لهـم علاقـات حميميـة مـع السكان، فأسلم منهم من أسلم وسافر أغلبهم إلى فرنسا وأمريكا وكـنـدا وفلسطيـن. وفـي العقديـن الأخيريـن، أصبـح أبنـاء اليهود السطاتييـن في مراكز سياسية واقتصاديـة استراتيجيـة داخـل حكوماتهم و مؤسساتهم.. ومازالوا حتى الآن يزورون حيهم القديم و مزاراتهم " المقدسة"»( لا أحد، ص 39).

وكأني بالكاتب، يقطع شريط ساكنة الملاح ليعود إلى التحليق في روضة أعلام زاهرة، خلدوا البصمة، ورسموا الغُرة على جبين سطات رغم تفاوت الأحلام وتنوع مسالك الحياة... « في سطات تتعايش الأحلام حتى لا تنسى كل أبنائها، لا تنسى ولد التركية والحاج قاسم وقد ساهما من خلال مكتبتيهما لبيع الدفاتر والأقلام والقصص، في تعليم أجيال. كما لا تنسى بويا الغليمي ولالة ميمونة وسيدي عبد الكريم وسيدي المختار الزكاني وباقي الأولياء والعلماء والفقهاء، حراس خيالنا.» ( لا أحد، ص 159).

هذه كانت قصة "شعيب حليفي " مع أرضه، وأنتَ تلاحقها تستشعر قوة الانتماء، وحرارة الانفعال، و عمق التفاني في الدفاع عن منبت الأجداد...

وإذا كان المبدع قد تساءل يوما في أحد نصوصه: «هل تعكس الكتابة مَن نكون ؟»(أسفار، ص 115).

فإن الجواب يكون في هذه الشاعرية المترقرقة في نهر الحب الجارف حين يصدح صاحبه بما في السويداء، عازفاعلى وتر الحقيقة مقطوعته الحالمة:

«الأمازيغي، ربما!والذي أخذوه عن طريق ترتيب رباني عظيم،بديلا عن السيد عيسى بن مريم، نحو الصلب.

الأمازيغي، ربما! والذي كان قريبا، في مثل هذا اليوم من سنة 67 ميلادية بروما،لحظة قطع رأس بولس، فطلعت منه أبخرة ساخنة نحو السماء.

الأمازيغي، ربما !والذي عاش و ترعرع في ظل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، واستمر محاربا وغازيا متعطشا لدخول كل الجنات الموعود بها، وقبلها دخول المدائن والبلدان.» (أسفار، ص 183).

ويبلغ به الانفعال مداه، حتى وهو خارج من مدينته الحبيبة "سطات"والتي لا تفارق ذاكرته، إنها نواة الحنين الدائم إلى الدم.. إلى الأصل.. «من أكون؟ وكيف لهذا الدم الساخن الذي ألهب وجداني وهز مشاعر أمتي كلها أن يجري كل هذه السنون في دمي، طاهرا عفيا.»(أسفار، ص 147).

وهو في فيض الوجدان، تهتف روحه بذكرى مولده و طفولته فيسترجع:«شعيب: إنا نراك في بطن أمك وهي جالسة بفناء الدار ذات الزليج الناصع الألوان، في ظهيرة يوم غائم، تستكمل في استعجال، نسج بطانية بألوان زرقاء وحمراء وبيضاء، ومن حين لآخر تستل خيطا أخضر اللون من كبــة خلف صينيــة، عليها براد شاي و كأسان. إنه الأسبوع الذي سأولد فيه. قلبت الصفحات والصـور بسرعـة، فرأيتنـي طفـلا يحـب الحقـول والحيوانـات، "ويمـوت " فـي صيـد العصافير وركوب الفرس.عيناه يلمع منهما الشرّ البريء، كما البراءة الشريرة.»(لا أحد، ص ص 159 و160).

ويرتسم الحنين المقرون بهاجس القضية «... لو خَيَّرَنِي ربي بعد أن يعيدني إلى بطن تلك الأمازيغية أمي، لاخترتُ نفس طريقي بكل أخطائي الكثيرة.. وبزمننا الذي لم نستطع حتى الآن أن نجعله يقودنا نحو الأفضل ولكننا على الأقل نعرف ماذا نريد ونضرب صفحًا و صفحًا وصفحًا عما لا نحب. نسير برؤوس عالية و عارية ليس لدينا ما نخفيه أو نخجل منه.» (أسفار، ص55 و56).

تتشبع دلالات الانصهار العميق بالقرار الحاسم عن تساؤلات المبدع في الذي سبق، فَيُلَخِصُ القرار في تجاويف سياق بديع ينْهل من جمالية الطرح قدْرَ ما يستطيع: «.. فالشاوية (وهي بلدي الأول والأخير، وكم تمنيت أن أكون حاكما مطلقا عليها، أوَرِث عرشي من بعدي لسلالتي الطهرانية، من الذكور و الإناث)، لها غروب خرافي شبيه بالدهشة الأزلية الرابضة في أرواحنا.»
طوبى لمدينة "سطات" الجميلة، بوشاحها الملون بأهازيج الشاوية والذي عزفته نصوص شعيب حليفي، في قصة: الولع بالجذور..التألق في الشاعرية..الإيمان بالقضية..

الإحالات:

ـ شعيب حليفي، لا أحد يقفز فوق ظله، دار الهلال، القاهرة، العدد 759، شهر أبريل 2012.

ـ شعيب حليفي، أسفار لا تخشى الخيال، منشورات القلم المغربي، الطبعة الأولى يونيو 2012.

د. شميسة غربي، سيدي بلعباس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى