الجمعة ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٣
لك من الكتاب والتلفاز والكمبيوتر
بقلم عثمان آيت مهدي

أصدقاء دائمون

لقد ضاقت بي الأرض بما رحبت، لا خوفا من عدوّ ظاهر أو خفي، ولا حبّا في خلوة وانعزال، وإنما هو شعور بانقياد وطاعة لطاقة تسكن داخلي، قوّة تنفّرني من الناس وتبعدني عنهم كلّما ازددت من العمر عتيّا. أصبحت غريب الدّار والدّيار، من زوجتي وأبنائي رغم قربي منهم وعطفي عليهم، من أصدقائي وأحبائي، وما أشدّ قلتهم! ومن زملائي ورفاقي، وما أكثر عددهم وانتشارهم! أنا حبيس أربعة جدران، لا أفارقها إلا لحاجة أو ضرورة، ولا أتأخّر عنها إلا لتأدية عملي. أعيش أحلى أوقاتي بين كتبي القليلة والقنوات التلفزيونية العديدة والمختلفة، وبين عالمي الافتراضي الذي أحياه متجولا، مترددا، مساهما ببعض المقالات والقصص القصيرة في المواقع الصديقة التي فتحت لي صدرها للتعبير والتنفيس عن مكبوتات نغّصت حياتي وساهمت في سجني.

في شبابي كنت مفحما بأشعار ابن الرومي وأبي العلاء المعري وأبي الطيب المتنبي، كانت مسحة التشاؤم تجذبني وتستميلني، فأقرأ كلّ ما يشتم الدهر والناس، كنت أرى أصدقائي وزملائي من خلال عيون هؤلاء الشعراء. كم يعجبني قول الإمام الشافعي:

من رآني بعين نقصٍ
رأيته بالتي رآني
ومن رآني بعين تمٍّ
رأيته كامل المعاني

فمفهوم الصداقة عند الشافعي يحمل معنى الاحترام والمودة والأخوة الدائمة، وإلا فلا خيرَ فيها، لكن، قلّما تجد شاعرا راضيا عن صداقاته، أو ساعيا من أجل اكتسابها، فالمصالح المتبادلة الدائمة بحسب رأي "ونستن تشرشل" هي السائدة والمتحكمة في علاقاتنا اليومية: "ليس هناك صديق دائم، ولا عدوّ دائم، هناك مصالح دائمة." وإذا حاولنا استعراض رأي الشعراء منذ العصر القديم إلى يومنا هذا، وجدنا الشعراء لا يختلفون في صعوبة إيجاد صديق وفيّ، وكلّ من يدب على الأرض من البشر تجمعهم وتشتتهم المصلحة لا غير؟
ما أعيشه من قلّة الأصدقاء وكثرة الزملاء والرفاق، عاشه قبلي الكثير من الناس، وتبرم الكثير منهم، من غدر الصديق وعدم ثبات الزميل أو الرفيق على المودة والإخلاص، وقد عبّر علي بن أبي طالب عن هذه الحالة تعبيرا حسنا، يقول:

تغيرتِ المـــودة ُ والإخـــــاءُ
وقلَّ الصدقُ وانقطعَ الرجاءُ
وأسلمني الزمانُ إلى صديقٍ
كثيرِ الغدرِ ليس له رعــاءُ

وفي نفس المعنى، تجود قريحة حسان بن ثابت الأنصاري متألمة، حزينة من كذب الأصدقاء ونفاقهم:

أخلاءُ الرخاءِ همُ كثيرٌ
وَلكنْ في البَلاءِ هُمُ قَلِيلُ
فلا يغرركَ خلةُ من تؤاخي
فما لك عندَ نائبَةٍ خليلُ
وكُلُّ أخٍ يقولُ: أنا وَفيٌّ
ولكنْ ليسَ يفعَلُ ما يَقُولُ
سوى خلٍّ لهُ حسبٌ ودينٌ
فذاكَ لما يقولُ هو الفعولُ

أمّا ابن الرومي الشاعر الذي غرّد خارج سربه فهو يرى في الصديق عدوا فاحذره، يقول:

عدوُّكَ من صديقك مستفاد
فلا تستكثرنَّ من الصِّحاب
فإن الـــدّاءَ أكثــــــر ما تراهُ
يحولُ من الطعام أو الشرابِ

ونظرة المتنبي إلى الناس والأصدقاء أشدّ عنفا وأقوى شكيمة، يقول:

ومَنْ عَرَفَ الأيّامَ مَعرِفتي بها
وبالنّاسِ رَوّى رُمحَهُ غيرَ راحِمِ
فَلَيسَ بمَرْحُومٍ إذا ظَفِروا بهِ
ولا في الرّدى الجاري عَلَيهم بآثِمِ

هل بقي للصديق مكان في قلوب الأصدقاء؟ وهل للصداقة معنى غير المصلحة المتبادلة في الزمان والمكان، وبانتهائها تنتهي معها الصداقة؟ إذا كنت من المؤمنين بالصداقة الحقة التي تربطك بصديق لأنك أهلٌ لها وأجدر، فانعزل في بيتك، واتخذ من الكتاب والتلفاز والكمبيوتر أصدقاء لك صداقة خالصة ودائمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى