الأربعاء ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٣
بقلم مهند النابلسي

الثقب الأسود «3»!

"أفضل وسيلة لتحقيق أحلامك هي ان تستيقظ"*

فكر في "فتاة الحاسوب"، كان فيها شيء من الجاذبية الساحقة كالثقب الأسود، أشعرته برغبة في ان يحيا في مجالها، احس وكأنها تسربت خلسة الى مشاعره، فانهكته وجعلته يبحث عن مكان سري في اعماقه يختلي فيه ! ليبحث عن وجوده الحقيقي، فقد شعر انه في وضع زائف...فقد اوقعته تلك الحسناء في حالة فريدة من " فقدان الجاذبية"...فأصبح كرواد الفضاء داخل سجن مركبتهم، يتطايرون هنا وهناك، وأصابه الرعب من فكرة ان تتدلى حياته الى لا حياة على الاطلاق تقريبا!

غادر المبنى، وركب سيارته ورأسه يدور من صداع شديد، ولكن الهواء النقي البارد قليلا المندفع بلطف عبر نافذة السيارة أنعشه، وفتح المذياع ليسمع اغنية قديمة جميلة ذات حنين عتيق ذكرته بطفولته وامه وابيه واخوته، ولمعت في ذهنه ذكريات حديقة تعج بالورود والزهور وفيها بركة صغيرة تسبح فيها أسماك صغيرة ملونة، وتذكر روائح الياسمين، وبرق في ذهنه المكدود حنين جارف لزمن جميل مضى كله براءة وجمال وطهارة...نام عميقا بدون احلام، لقد افتقد حتى الحلم الذي كان يعتقد بأنه سيفسر له ما حدث.

ولكن ما أن دخل مكتبه في صبيحة اليوم التالي، حتى قرر ان لا يفت ما حدث في عضده، وعليه أن يتمالك اعصابه وان يواجه العالم بأقصى قدر من الثقة بالنفس : الآن لا مزيد من الخوف، لا مزيد من الرعدة وانقباض البطن، لا شيء الا الثقة الهادئة. ثم فضل ان لا يفكر بشيء مرتبط بما حدث حتى يستعيد توازنه، وسره أن يعبق المكان على نحو بهيج برائحة سيجار معطر وقهوة طازجة (وان كان لا يدخن !)...واستوحى من ذلك ومن ذكريات طفولته طاقة مؤقتة عززت ثقته بنفسه مرة ثانية، ثم لاحظ او هكذا بدا له أن المسطرة الفولاذية لم تكن "منحنية" كما توقع!

رن جرس الهاتف على مكتبه، وكان رئيسه على الخط :

*هل تستطيع أن تأتي لمكتبي لأعرفك على مساعدتك الجديدة!

بدأت نبضات قلبه بالتسارع، وما ان دخل المكتب حتى حتى اصيب بالذهول من وقع المفاجاة:

*اعرفك على مساعدتك الجديدة...المهندسة نورا...خبيرة البرمجة التي ساهمت سابقا بتطوير الحاسوب الضوئي، لقد طورت عدة برامج رائعة، انها بالحق مكسب لشركتنا!
كان مديره يتحدث بطريقة تقريرية بحيث تفقد الكلمات وظيفتها الدلالية...واستطرد بنفس الاسلوب:

*أعتقد انكما ستعملان معا بشكل جيد ومتوافق...

لكنه لم يعد يصغي، كان ذهوله وارتباكه باديا، وهي تنظر اليه بنفس الابتسامة التي لم ينساها بعد، انها نفس الفتاة التي شاهدها بالامس على شاشة الحاسوب وحدثته عن التقمص وتحريك الأشياء عن بعد، نفس عقد الزمرد! لقد ظهرت الآن بشكل آدمي تفيض حيوية، كان جمالها يأخذ بالألباب، وأثارت احاسيسه بنظراتها المعبرة و بشذى عطرها الباريسي الذي غزا كيانه...لقد حركت تلك الجميلة مراكز البهجة الروحية في "لاوعيه"...وتخيل لوهلة شواطىء بحرية منعشة واريج غابات خريفية، وتضمن سيناريو "حلم اليقظة" حصانا جميلا ينطلق الى دغل ساحر، واستفسر بغرابة :هل هذه هي لحظات السعادة المركزة في الحياة؟ ام انه الوهم بالسعادة!

أفاق من حلمه مرهقا، وفرح لأنه خرج من متاهة حلم سريالي مركب، واندهش من قدرات العقل البشري الكامنة وطريقة تركيبه للأحداث، واعتقد أن حلمه ربما يشبه شريط سينمائي رائع، وفرح لمخزون الخيال المتدفق، ثم تفاءل من قصة "فتاة الحاسوب"، واستغرب من وجود حلم داخل حلم! ثم جر قدميه للحمام، فتأمل وجها متجهم وغير حليق، فأصابه ذعر مؤقت وبدا له وكأنه يشيخ بتسارع، وتذكر ان يجب أن يستعجل بالذهاب لعمله المتواضع كمدخل بيانات! تذكر الاحباطات التي تواجهه في حياته وعمله، متمنيا لو يعود مرة ثانية للنوم والحلم هروبا من الواقع، وقد قرأ مرة أن الواقع لا يكون مثيرا الا لثلاثة انماط من الناس : الطفل والساذج والشاعر، مستدركا عبثية الحياة نفسها وقد تذكر مقولة حكيمة "افدح سخريات الحياة ان لا يخرج احد منها حيا"!

• المقولة للكاتب والشاعر الفرنسي بول فاليري


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى