الاثنين ٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
الفكر والمجتمع
بقلم تيسير الناشف

الانطلاق الفكري والإطلاق الفكري

إحدى سمات الفكر المنطلق أنه ليس فكرا مطلقا ولكنه فكر نسبي، فكر يُقرّ بالتعدد الفكري أو بتعدد البدائل الفكرية المتعلقة بمسألة من المسائل. ومن السمات التي يتسم بها المرء الأكثر تطورا أن للانطلاق من وجود التعدد الفكري أثرا أكبر في سلوكه.
ثمة أشياء لا تتسم بصفة مطلقة. إطلاق الصفة على شيء معناه عدم المعرفة الكافية بذلك الشيء. الإطلاق الفكري يكون على حساب التعدد الفكري والنسبية الفكرية؛ لا مكان فيه للتعدد الفكري والنسبية الفكرية. وفي الواقع أنه بين النقيضين الفكريين المطلقين، مثلا الجرأة الكاملة والجُبن الكامل، والتقدم الكامل والتخلف الكامل، والكمال والنقص، والحب والكره، درجات أو حالات فكرية عديدة. من هذا المنطلق من الخطأ نسبة السوء أو الطيبة إلى جميع القيم الغربية أو العربية. ومن نفس المنطلق من الخطأ القول إنه يوجد تناقض كامل بين جوانب الثقافة العربية والغربية، ومن الخطأ القول إن التيارات الفكرية من قبيل الليبرالية والقومية والقطرية يستبعد الواحد منها الآخر استبعادا تاما. من الغني عن البيان أن بعض طروح هذه التيارات متماثل أو متشابه وبعضها الآخر غير متماثل أو متشابه. تتماثل هذه التيارات مثلا في الدعوة إلى التحرر والمحافظة على البقاء.

الفكر المطلق هو الثنائية الفكرية. على سبيل المثال، نسبة صفة الجمال التام إلى شيء من الأشياء تعد من الفكر المطلق لأنها أطلقت صفة الجمال على ذلك الشيء. وهذه الفكرة ثنائية لأنه بنسبة الجمال المطلق إلى شيء، أو بإطلاق صفة الجمال على شيء، غُيِّبت صفة القبح فيه، أو بالعكس. ومن الأمثلة على الفكر الثنائي الشائع الخير والشر والفضيلة والرذيلة والعلوي والسفلي، والديمقراطية الكاملة وانعدام الديمقراطية، والصحافة الحرة والصحافة المقيدة، والعالم الحر والعالم الخالي من الحرية. فمن منطلق خطأ الإطلاق وخطأ الثنائية الفكرية ومن منطلق نسبية صفات الأشياء لا يوجد نظام ديمقراطي مئة بالمئة، ولا توجد صحافة حرة مئة بالمئة، ولا توجد موضوعية مئة بالمئة، ولا توجد حيدة علمية مئة بالمئة.

الحداثة وما بعد الحداثة

للحداثة صيغ ومفاهيم. ومما يسهم في تحديد هذه الصيغ والمفاهيم الظروف الاجتماعية النشيطة التي تمر الشعوب بها. وللحداثة سمات مشتركة، ومن هذه السمات الاعتماد على العلم والتأكيد على أهمية العقلانية والتخصص. ولم تبلغ الشعوب النامية المرحلة الاجتماعية التي يصفها الغربيون عموما وغيرهم – وهذا وصف يجري جدال عليه - بأنها حديثة. وعدم بلوغ المجتمعات النامية لمرحلة التطور التي تدعى حديثة لا يعني أنه لا شأن لهذه المجتمعات بتيار ما الحداثة الذي ينتقد كثيرا من المذاهب الفكرية الغربية ويحذر من اعتمادها. وفي السنوات التي دعيت سنوات الحداثة كانت مغالاة في تطبيق نظم أيديولوجية، منها النظام الرأسمالي، وزعم أنصار كل من هذه الأيديولوجيات أنها الطريقة المثلى لتحسين حالة الإنسان. وفي ظل تلك الأنظمة شاعت الشرور التي زعمت تلك المذاهب أنها ستزيلها: القمع والقهر والحرب والحرمان. والحقيقة أن قسما من فكر الحداثة – كما يرى تيار ما يعد الحداثة - فكر جامد.

وتجلى هذا الجمود في الافتراضات غير الصحيحة وفي صوغ الأنساق الفكرية التي من طبيعتها الجمود والانغلاق وعدم المرونة على الصعيد الفكري. واتخذت هذه الأنساق والافتراضات شكل المذاهب والأيديولوجيات السياسية والاقتصادية الجامدة من قبيل الفاشية والنازية والعنصرية والشيوعية. وفي ظل هذه الحداثة لم تستطع العقلانية أن تحل المشاكل العسيرة التي واجهتها البشرية ولا تزال تواجهها، ونشأ الغلو في النزعة الفردية والنزعة الأنانية وأسيء استخدام العلم والتكنولوجيا على حساب مصلحة المجموع. وقوت الرأسمالية المغالى فيها النزعة الفردية والنزعة المادية والنزعة الاستهلاكية المغالى فيها وأضعفت الجانب الروحي وهمشت قطاعات واسعة من أبناء الشعب. ولم يستطع الإنسان أن يلبي كثيرا من حاجاته الأساسية.

لقد أدى نشوء تيار ما بعد الحداثة إلى ردود فعل مختلفة في الفكر العربي. وأعرب بعض الناس عن الرأي في أن تيار ما بعد الحداثة – نظرا إلى أن العرب لم يحققوا الحداثة كما مورست في بلدان تدعى حديثة، وعلى وجه الخصوص في الغرب - لا يعني العرب في حياتهم وفي محاولة نهضتهم وفي محاولة صنع مستقبلهم. هذا الرأي فيه قدر من الخطأ. ليس من الضروري أن هذا التيار الفكري لا يعني العرب وسائر الشعوب النامية لمجرد أنه تيار يطلق عليه اسم ما بعد الحداثة والشعوب النامية شعوب لم تحقق الحداثة أو لم تحقق من الحداثة ما حققته شعوب غيرها. وعدم تحقيق الشعوب النامية للحداثة الغربية لا يعني أن الشعوب النامية ليس لها شأن بفكر ما بعد الحداثة.

عن طريق دراسة فكر ما بعد الحداثة تمكن معرفة عيوب بعض مراحل التطور الفكري الذي حصل في الغرب، ويمكننا بالتالي محاولة تفادي هذه العيوب. وعن طريق دراسة هذا الفكر تمكننا معرفة المناهج التي يتضمنها تيار ما بعد الحداثة والتي يمكنها أن تكون مفيدة في حياة الشعوب النامية وتطورها وتكون أكثر مناسبة من بعض المناهج التي يتضمنها تيار الحداثة، وبالتالي يمكن اعتماد تلك المناهج، مما من شأنه أن يوفر على الشعوب النامية الوقت الذي كانت ستنفقه على تجربة مناهج قد يتضح في وقت لاحق أنها غير مناسبة لتلك الشعوب.

من المجدي أن يُعنَى في المجتمعات النامية بفكر ما بعد الحداثة لأن لهذا الفكر صلة بالقضايا المطروحة في المجتمعات التي اصطلح على تسميتها بالمجتمعات النامية من قبيل التغير والتقدم والنهضة ووضع المرأة ومناهج التعليم بمختلف مراحله والتعددية الفكرية والأخذ بالنظام الديمقراطي. إن المُسلّمات الفكرية والأيديولوجيات والنظريات غير المتحقق منها – من قبيل رسالة الرجل الأبيض في إشاعة الحضارة في العالم أو البقاء للأصلح أو نظرية مالتوس المتعلقة بقدرة الأرض على إعالة البشر أو مقولة أن الجنس الآري يتفوق على الجنس غير الآري - أنساق فكرية أيديولوجية جامدة منغلقة. هذه الأنساق – غير المتفاعلة مع محيطها الفكري الخارجي والمنغلقة عليه – لا بد من أن تهم فكريا وعمليا الشعوب النامية. وتيار ما بعد الحداثة، برفضه للنسق الفكري الجامد، يناصر الانفتاح والتفاعل الفكريين.

تراكمية عملية التقدم

ويغيب عن أذهان الكثيرين الطبيعة التراكمية لعملية التطور والتقدم. ليس من اليسير على الشعوب النامية أن تستوعب وأن تهضم وتتمثل وتطور في وقت قصير جوانب التقدم استغرق نشوؤها وتطورها في الغرب قرونا. وعلى الرغم من أن قسما من تلك الجوانب دخلت في الدولة العثمانية التي شكلت أراض عربية جزءا منها فإن ذلك القسم كان محدودا ولم يكن استيعابه قويا ولا كان شاملا.

ويعبر بعض المحللين العرب وغير العرب عن دهشتهم من أن العرب لم يحققوا قدرا أكبر من التقدم على الرغم من انقضاء سنوات كثيرة نسبيا على ما يصفه هؤلاء ب "بداية النهضة العربية"، ومن أن شعوبا شرقية أخرى حققت نهضتها على الرغم من أن الشعب العربي بدأ محاولة النهضة قبل تلك الشعوب أو معها. وفي الحقيقة أن طول الوقت يمكن أن يكون عاملا في تحقيق النهضة وضامنا لها ولكنه ليس بالضرورة كذلك. إن طبيعة الحالة التي يمر بها شعب من الشعوب هي التي تحدد مدى سلبية أو إيجابية الدور الذي يؤديه طول الوقت في تحقيق النهضة، هي التي تحدد ما إذا كان طول الوقت مسهما في تحقيق النهضة أو مسهما في عرقلة التحقيق. وتتكون الحالة من العوامل الاجتماعية والنفسية والتاريخية المتفاعلة في إحداث هذه الحالة في المحيط المحلي والمحيطين الإقليمي والدولي. ويتكون العامل الاجتماعي من العاملين الثقافي والاقتصادي. وتفاعل هذه العوامل النشيط يمكن أن يفضي إلى إيقاف التحرك صوب تحقيق النهضة إو إلى إبطائه أو إلى زيادة سرعة التحرك صوب تحقيقها.

وبالنظر إلى تفاعل تلك العوامل رأينا أن من الأصح استعمال كلمة "حالة" التي تدل على التحول والتغير، وآثرنا استعمالها على استعمال كلمة "وضع" الذي قد يتضمن معنى السكون والثبات، وهو المعنى الذي يتناقض مع التحول الذي هو نتاج تفاعل عدد من العوامل.

وبالمنطق نفسه يمكن لشعوب اخرى، حتى الشعوب التي بدأت تطلع على مفاهيم ومؤسسات النهضة بعد اطلاع العرب عليها، أن تقطع شوطا في تحقيق النهضة أطول من الشوط الذي قطعه العرب

أثر الميثولوجيا في المجتمع

مما تؤثر في حياة الناس والمجتمع الأساطير والخرافات (الميثولوجيا). والسياق الاجتماعي ليس سياقا أيديولوجيا فحسيب ولكنه سياق ميثولوجي أيضا. والبشر عموما يفكرون بمجموعة من القيم والمبادئ وأيضا بمجموعة من الافتراضات والحكايات والأساطير والسِّيَر الخرافية. منذ ألوف السنين يجري التأثير المتبادل والتفاعل بين الميثولوجيا والأيديولوجيا والواقع. وهذا التفاعل والتأثير يسهمان إسهاما كبيرا في تشكيل الأيديولوجيا. وتكون الميثولوجيا على حساب فهم الواقع.

الأيديولوجيا والواقع

إن تعميم أي فكر أيديولوجي لا بد من أن يكون على حساب فهم الواقع، لأن الفكر الأيديولوجي أضيق من الواقع. البنى الأيديولوجية والتنظيرية للفكر والأنساق الفكرية تخفي إخفاء قليلا أو كبيرا الواقع البشري. وفي وقت مواجهة الحقائق على أرض الواقع يتضح عدم صلة تلك البنى والأنساق بالواقع.
عند التنظير – الذي هو التفسير عن طريق إقامة العلاقات السببية – يخطئ منظِّرون غربيون وغير غربيين في السلوك البشري خطأ جسيما حينما يحاولون تفسير السلوك البشري بعامل واحد بينما يتطلب التفسير لكل من هذه الظواهر، بسبب طبيعتها النشيطة (الدينامية) والمعقدة، أن يؤخذ في الحسبان أكثر من عامل واحد في إحداث الظاهرة. يعود نشوء ظاهرة من الظواهر الاجتماعية، بالمعنى الأعم للعبارة، أي الظواهر الاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية، إلى مختلف العوامل. حاول بعض المفسرين خطأ تفسير السلوك البشري والتاريخ البشري بعامل واحد. لم يكن سيغموند فرويد، على سبيل المثال، ناجحا في محاولته تفسير السلوك البشري بالحافز الجنسي، وحاول كارل ماركس خطأ تفسير السلوك البشري بالعامل الاقتصادي، أي عامل هوية الذين يتحكمون بوسائل الإنتاج أو يمتلكونها. العيب الأكبر الذي يعتور هذه الصيغ الفكرية وغيرها أنها أنساق فكرية تعميمية وجامدة. كل صيغة فكرية منغلقة على نفسها. وأصحاب كل مذهب فكري يعتقدون مخطئين بأن مذهبهم كاف لتفسير ظاهرة من الظواهر. غير أن هذه المذاهب لم تراع تعدد الأبعاد لمنشأ الظاهرة عموديا وأفقيا ولم تراع تعقد الفرد الإنسان، وهو التعقد المتمثل في كثرة أبعاده، ولم تراع دينامية هذا التعدد ودينامية ذلك الفرد المتمثلة في استمرار التفاعل بين تلك الأبعاد، ولم تراع تغير أثر الظروف نتيجة عن مرور الأزمنة في قوة العوامل الباعثة على الموقف والسلوك البشريين.

لقد أقصت هذه المذاهب العامل أو البُعد الروحي في تشكيل السلوك البشري وأبطأت ولا تزال تبطئ إبطاء شديدا تقدم العلوم الاجتماعية وأثرت تأثيرا سلبيا في فكر الذين قبلوا بهذه الطريقة في التفسير.

عدم موضوعية بعض الكتابات العلمية الاجتماعية

قسم كبير من الكتابات في العلوم الاجتماعية كتابات غير وافعية، بمعنى أن واضعي هذا القسم من الكتابات يظنون أو يعتقدون خطأ أن العلوم الاجتماعية والإنسانية موضوعية، وأن كتاباتهم العلمية، بالتالي، موضوعية. في هذه العلوم لا توجد ولا يمكن أن توجد كتابات موضوعية. الكتابة في هذه العلوم مزيج من الموضوعية والأيديولوجيا التي تتجسد الذات فيها. هذا الاعتقاد الخاطئ يوقعهم في مشاكل فكرية وعلمية كثيرة يدرون أو لا يدرون بها، منها تضييق هامش انفتاحهم الفكري.

تداخل التيارات الفكرية والخلافات بينها

في المجتمعات البشرية تدور خلافات بين التيارات الفكرية. وفي حالات غير قليلة يحدث استقطاب بعضها بين بعض. أحد الأسباب لهذه الخلافات هو انعدام المرجعية العليا أو انعدام سقف فكري خُلُقي أعلى أو عام يشمل الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد وتقبل به كل تلك التيارات رغم الاختلافات القائمة بينها في إطار تلك المرجعية أو ذلك السقف. ما تفتقر المجتمعات البشرية إليه هو الإطار المرجعي الفكري والعملي الذي يمكّن الشخص – من فرد أو مجموعة أو جماعة أو هيئة أو منظمة - من أن يعرب عن رأيه ومن أن يشيعه دون خوف على نفسه وحياته من غضب أصحاب تيارات أخرى.

وبسبب عدم وجود إطار مرجعي فكري مقبول على نحو عام أو عدم الوعي بوجود هذا الإطار تشيع في المجتمعات البشرية ثقافة إقصاء المخالف وأحيانا المختلف في شتى مناحي الحياة: الكتابة ومزاولة الحكم على سبيل المثال.

ولعل هذا الخلاف بين أصحاب التيارات يدل على قدر من جهلهم للتداخل الفكري والموضوعي لهذه التيارات. تشترك هذه التيارات في حيز فكري وعقلاني وأيديولوجي.

المُسمّيات قد لا تدل أسماؤها عليها

قد لا تدل الأسماء على مُسمّياتها. الاسم لا يدل دائما أو بالضرورة على مُسمّاه. أحيانا يوجد اختلاف بينهما. دلالة المُسمّى لا تنطيق تماما على الدلالة التي يشير الاسم إليها. وذلك بسبب النشاط الفكري والاجتماعي الذي يؤدي إلى تغيير مضمون المفهوم المقصود. ويكون تغيير الاسم تبعا لتغير مضمون المفهوم أبطأ. قد يجري تغيير الأسم بعد وقت طويل من تغير مضمون المفهوم الذي يطلق ذلك الاسم عليه. استقر في الأذهان، على سبيل المثال، أن للرأسمالية والديمقراطية والأرستقراطية والنظام الجمهوري والنظام الملكي معاني مختلفة. بالنظر إلى نشاط الأبعاد المتفاعلة للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والنفسي والتاريخي المعقد تكتسب هذه المُسمّيات معاني كان يفترض في البداية أنها لا تتضمنها وكان يفترض في البداية أن تلك المعاني تتضمنها مُسمّيات أخرى.

ويحدث أن يبقى أنصار مُسمّيات يخالف بعضهم بعضا، مشيرين إلى المضامين التي تضمنتها في البداية تلك المُسمّيات، دون أن يكونوا واعين أو آبهين بحقيقة التغير في مضامينها. ذلك يسهم في تفسير أن خدمات الرفاهة الاجتماعية والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي في بعض البلدان الرأسمالية قد تكون أكثر تطورا وشمولا من تلك الخدمات في بعض البلدان غير الرأسمالية، وأن السمات الديمقراطية في بعض الدول الملكية أكثر تطورا وممارسة من تلك السمات في بلدان جمهورية، وأن تركيز السلطة الحكومية في بعض البلدان الاشتراكية كان أشد منه في بعض البلدان الرأسمالية. وذلك يسهم أيضا في تفسير أن بعض الممارسات من قبيل العناية بإيجاد فرص العمالة وتحسين وضع المرأة ورفع مستوى المعيشة ونشر التعليم والقضاء على الفقر وإشاعة العلم يتشاطرها أصحاب كل التيارات.

الانتقائية

المرء انتقائي النزعة. والخلفية والضغوط الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمزاج النفسي والتظام القيمي والانتماء القيمي والديني، بما لها من تأثيرات في أولويات المرء، تعزز أيضا النزعة الانتقائية لدى المرء. ينبع من ذلك أن تناول المرء للمسائل انتقائي. وكلما كانت الضغوط أشد إلحاحا وأكثر مباشرة على المرء يحتمل احتمالا أكبر أن يكون لها أثر أكبر في تعزيز الموقف الانتقائي. وللفقر عموما، وعلى وجه الخصوص في العالم النامي، أثر أكبر في موقف المرء الانتقائي.

والانتقائية هي افتقار البشر والمجتمعات والمواقف إلى التوازن. وتتجلى الانتقائية في كيفية التناول للقضايا: هل التناول من قبيل الوصف أو التحليل جزئي أم كامل، وهل هو دقيق وجاد أم مفتقر إلى الدقة والجد. ومن وجوه الانتقائية انتقائية الإقصاح عن الآراء.

ومما يزيد من أثر الانتقائية أن المرء قد لا يكون واعيا بنزعته الانتقائية، أو قد لا يكون واعيا بما فيه الكفاية، أو قد يكون واعيا بتلك النزعة أحيانا وغير واع بها أحيانا أخرى، أو قد يكون واعيا بها بالنسبة إلى مسائل وغير واع بها بالنسبة إلى مسائل أخرى.

ويحتمل احتمالا أكبر أن تزداد النزعة الانتقائية ترسخا في المجتمعات التي يستفحل فيها القمع والقهر والمناورة في المجال السياسي، بسبب وجود ضغوط تضغط على المرء في هذه المجتمعات إلى اللجوء إلى الانتقائية في الإعراب عن المواقف وفي ترتيب الأولويات. وتزداد النزعة الانتقائية قوة في المجتمعات التي تطغى على مواقف أفرادها العقلية التي تنحو نحو الانغلاق والتي تكتفي بما تعيه ولا تُعنى بما لا تعيه والتي بتمثل موقفها في اعتبار الأشياء غير موجودة ما دامت ليست في نطاق الوعي.

ويشوب التعميمات خطأ فكري لأنها من عداد الثنائية الفكرية. التعميم نسق فكري مغلق. إنه طرف نقيض فكري، وهو بالتالي سلوك فكري مقيَّد بتطرفه الفكري، ومقيِّد بأنه لا يسمح بالفكاك من ذلك النطرف وبالتحرك صوب حالة فكرية تختلف عن ذلك التطرف. فمن ناحية طريقة التناول لا يصح القول، مثلا، إن أهل الريف متخلفون. فمن منطلق ذاتية الرؤى قد يكون ما يعتبره البعض جانب تخلف عند الريفيين جانب تقدم عند البعض الآخر.
ويشوب التعميم نقص آخر وهو عدم مراعاته للأبعاد الأصغر للظواهر. إن دينامية هذه الأبعاد لا تجيز التعميم لأن هذه الدينامية تُبطل التعميم على الظواهر التي تحدث دينامية بين أبعادها.

وبالنظر إلى خطأ ثنائية الفكر والإطلاق الفكري ونسبية الأشياء فمن السليم أن يتجنب المرء استعمال عبارات تنم عن تلك الثنائية والإطلاق في الحالات التي لا تستوجب استعمالها، من قبيل عبارة "إلا" و "سوى". على سبيل المثال، "لا ينهض بهذا الشعب إلا رجل" أو "لا يوجد على وجه ذلك البلد سوى الرذيلة".
ومن نفس المنطلق من السليم استعمال العبارات التي تتفق مع الانفتاح والتعددية والنسبية على الصعيد الفكري من قبيل "من هذه العوامل عوامل ..." و "قد لا أجافي الصواب إن قلت ..." و تفسير بعض الظواهر بعوامل منها ..." و "مما ورد في الإبانة عن ..." و "من الأفكار التي يتضمنها التقرير ...".
يصيبني الخوف حينما أسمع عبارات تبدو أنها ثنائية الفكر ومطلقة الفكر من قبيل "الفارس الذي لا يشق له غبار".

إضعاف نزعة الإطلاق الفكري والثنائية الفكرية

من الوسائل الهامة لإضعاف نزعة الإطلاق الفكري والثنائية الفكرية توفر عوامل تعمل على نحو متزامن وهي تخفيض نسبة الأمية وإشاعة قدر أكبر من الديمقراطية – والديمقراطية التامة مستحيلة – ورفع مستوى المعيشة وتطوير مفهوم المواطنة وتحقيق الأمن للمواطنين. ويمكن أن تحقق هذه العوامل على نحو تدريجي وفي أوقات متعاقبة ومتزامنة. ولكن ابتغاء تحقيق فعالية أكبر لهذه العوامل من الأفضل أن يكون لهذه العوامل أثر متزامن. يمكن أن يكون لكل عامل على انفراد أثر باتجاه إضعاف هذه النزعة، غير أن البيئات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية السائدة لديها قدرة أكبر على شل أثر هذا العامل المنفرد، ويصعب صعوبة أكبر على هذه البيئات شل أثر العوامل المذكورة مجتمعة.

التروي في إصدار الحكم

من السليم القيام بالدراسة الدقيقة لظاهرة من الظواهر الاجتماعية قبل إصدار الحكم عليها. وارتداع المرء عن إصدار الحكم دون تروّ – لأنه يعرف خطأ التسرع بإصدار الحكم – يدل على قدر أكبر من النضج الفكري لا يتوفر لدة المرء الذي يتسرع بإصدار الحكم. وإصدار الحكم المتسرع يحتمل احتمالا أكبر أن تكون حصة العوامل الأيديولوجية والذاتية فيه أكبر، بينما يحتمل احتمالا أكبر أن تكون حصة العوامل الموضوعية في الحكم الصادر بالتروي على ظاهرة أكبر. في التسرع بإصدار الحكم يكمن الخطر الأكبر، وهو خطر الانزلاق في عدم فهم الظاهرة التي يصدر الحكم عليها، وخطر عدم عرضها في سياقها الاجتماعي والثقافي السليم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى