الأربعاء ٢٦ آذار (مارس) ٢٠١٤
بقلم عبد الجبار الحمدي

وريقات نسرين....

تغيرت كل معالم وجهها حين أرهفت مسامعها الى حفيف ورق الشجر وهو يصفق دخولها عالمه المغرورق شجدلا ليل نهار... فما كادت تلك الاغصان تهدأ من حسحسة استغراب سماعها عتاب احبة هنا وهناك تحت أغصانها الموثقة بورقها... قد تتساقط احيانا كثيرة، فقط لكي تشعر من رام الوقوف تحتها بأن لاشيء يبقى على حاله، قامت باسناد جسدها المرهق على احد جذوع الشجر... ثم دلفت تتلمس خشونة ملبسها الذي هرم مع تساؤلات كثيرة حملت وريقاتها اعمار ايام .. لا بل سنون انبرت واقفة رغم هزات ريح عاتية.

همست لجذع الشجرة.. أتراك أصلب مني ؟!

زمت بشفتيها كأنها تجيب بلا أدري؟ ثم اردفت لعلكِ بحفيفك هذا تقولين يا لها من مجنونة!؟ تريد ان تعرف واقع حالها من حالي رغم إن الفرق بيننا مؤكد... ولربما أدخِلُ في جدال معها، ولكن... ما فائدة ذلك؟؟

أوه... لا...يكفي، فقط دعوني انصت الى ما تريد قوله، لا تشغلوني بحراككم المستمر، اصمتوا كي نستمع الى ملف همومها كان ذلك حين طلبت الشجرة من اغصانها ووريقاتها ان تلزم الصمت... برغم استغرابها!! حاولت ذلك.
اخرجت من حقيبة يدها دفتر الذكريات، تطلعت الى الشجرة وهي تقول: هذا هو المشترك بيننا وريقات... وريقات ذكريات كنت قد اتخذتها يوميات من عمري، اسجل فيها اتراحي وافراحي بخطوط مستقيمة، وربما .. لا... غالبا ما أكتبها بخطوط مائلة، تلك التي تدل على ارتباكي وحزني، هاك انظري... فتحت الدفتر لتُرِيَ الشجرة بعض من صفحاته وهي تقلبها، بعضها مشوه السطور، والبعض الاخر ممزق، مُلَصَق.. فأردفت قائلة: لا تسألي عن حالها ولماذا؟ سأحكي لك قصتها... إن التي ترينها غير واضحة المعالم تلك هي سطور كتبتها بوجعي ودموعى المنهمرة ساعة رأيته ينزوي هناك في ذلك الجانب القريب منك مع فتاة غيري، زميلة لنا وصديقة كان ذلك حين اتصلت لأخبره بأني لا استطيع مقابلته لبعض ظروف طرأت فجأة، ولكن !! لا ادري لِمَ لم تأتى الظروف!؟ ألغيت فاتخذت من بعضي لهفة الى حيث مكان اللقاء به، كنت قد تأخرت ساعة او أكثر بقليل حيث كنا سنلتقي... فوجدته معها!!! صدمت بما رأيت!! وقفت أنظر ما يدور... لقد كانت انفاسهما قريبة من بعضها البعض، اعتقدت أن بقائي يعني الزيادة في وجعي وألمي... هرعت الى البيت، دخلت غرفتي باكية طوال اليوم، اخرجت دفتري هذا وكتبت ما رأيت، كانت دموعي تتساقط على سطوره، تناثر حبرها فتشوهت صورتها ببعثرة، مثلي كما تناثرت احاسيسي، حتى أني كتبت بسطور غير مستقيمة... بعدها قمت بتمزيقها... كما ترين..
وفي اليوم الثاني حين ذهبت للجامعة كان بانتظاري بنفس لهفته وابتسامته التي عهدت، أحس بنفوري، بالتغيير الذي طرأ، لقد تلاشت لهفتي وبريق عيناي متى رأيته، لم يُعَلِق سار الى جانبي وقد لمحت آلاف التساؤلات على قسمات وجهه، لا أدري؟! كنت قد عزمت على توبيخه على فعلته ومصارحته بأني رأيت كل شيء، بيد ان شجاعتي قد خانتني، دلفت الى الفصل وأنا شاردة في عالمي المليء بالتساؤلات والشك ، أنَبت نفسي على عدم الصراخ في وجهه، أو مصارحته بالحقيقة، اما هو فقد كان شاردا أيضا يختلس النظر في كل لحظة إلي، إنه اعتاد أن يجلس بالقرب مني لكني غيرت مكان جلوسي من جانبه، فجأة!! رأيته يخرج مسرعا دون ان يستأذن وسط استغراب الجميع!!! كانت لحظات صعبة، سحقت الحيرة والشك كل تساؤلاتي، حتى زميلتي شعرت بذلك، حاولت ان تعرف من خلال نظارتها لي سبب ما رأته، لكني لم اعرها أي اهتمام، وما ان انتهت المحاضرة حتى خرجت مسرعة متحاشية تساؤلاتها، ابتعدت عن الجميع حيث جلست وحيدة، اخرجت دفتر مذكراتي اليومية لأرى خيانته التي شهدت مشوهة المعالم، قرأتها عصرت وجعي عليها فمزقتها، بعدها رُمتُ بنفسي أنأى الوحدة طوال النهار، كان هو يحاول بشتى الطرق التقرب مني، الاستفسار عن سبب الجفاء هذا، حتى انه أرسل زميلتي تلك التي صَفَعت حضورها قائلة لها: أرجوك لا أريد التحدث معك فقط اتركيني وأذهبي بعيدا، كانت صدمة لها! لم تعي ردة فعلي فأنسلخت من قربي بخلسة وهي تحمل ابتسامة الفشل وشاحا تغطي فيه احراجها من رفضي للحديث معها خاصة ان هناك من سمع قولي ، أظنها هربت احراجا وخجلا فهي لم تكلف نفسها حتى بالرد عليَ، ربما خوفا من احراجها اكثر، مر الوقت عسيرا مملا عليَ، كم مرة حاولت الصراخ... توبيخه، لكن شيء ما بداخلني يردعني، بلعت أوجاعي مُرةً كالعلقم، دخلت الى غرفتي شعروا من كانوا أهلي بإنقباضي حاولوا معرفة الأمر لكني تداركته بسببٍ وهمي، خرجت بعد ان أوصدت كل منافذ الهواء التي ابحث لأستنشق حقيقة ما رأيت، دلني احساسي إليك أنتِ لقد شهدت لقاءهما معا، جئتك اليوم راجية منك قص ما تعرفين عنهما، ما سمعته؟ لابد أن بوحهما وصل إليك، ناهيك عن وريقاتك التي توثق كل شيء مع ساعي البريد .. الريح الذي يحمل أية همسة ليهز بها اغصانك كأجراس عاشقين مرفقة مع تراتيل ورق متطاير، أتراك تُنكرين ذكر الحقيقة لي، أقسم عليك ... أرجوك أهمسي لي بحقيقة الأمر...
سرت رعشة غريبة في جسدها مع تساقط أوراق على وجهها وحولها حتى كادت ان تغطي نصفها... أحست بالخوف، لقد امتزج حفيف الشجر مع بعضه البعض كأنه يتجاذب اطراف الحديث، أو يُنقل عبارات سمعها في ذلك الامس القريب، كاد وجعها يطلب العزوف عن كل شيء مما سبب لها التوتر، تثاقلت جفون عيناها غابت مع حلم، تخيلت نفسها ورقة تهتز بشدة، هلعت!! أمسكت ببرعمها بشدة حين كانت تنصت لحديثهما....
لا أدري يا أمل؟! إني احبها حد الجنون، الحد الذي يحطمني حين مصارحتها بالحقيقة ...
أمل : أجننت!!
عادل: ربما الجنون هو من يضفي صورة الحقيقة على علاقتي معها وإلا كيف أخدعها، إنها متعلقة بي فأنا لا استطيع الارتباط بها دون كشف حقيقة أمري لها، كيف أعيش معها وأنا احمل بداخلي سرا لابد لها ان تعرفه؟ وإلا كيف يمكن ان نبني عشا هادئا لا يكتنفه الغصة لوعة في صدري ونفسي او نفسها في كل لحظة أراها، لقد احببتها، عرضت الارتباط بها الى الابد... فوافقت، لكني اقسم يا أمل لم أكن أعلم؟ لقد علمت بالصدفة، إنها حياتي التي أريد ان أهدم بيدي لا بيد غيري..
أمسكت أمل به، هزته بعنف أقترب منها وهي تشعر بأنفاسه حارة ملتهبة عكست النار المشتعلة في داخله... وهي تقول: لا أريد ان اراها تتعذب بسببي ايضا عادل، فكما تعلم إنها صديقتي المفضلة التي احب، كيف أكون وسيلة هجرك لها، إنك بذلك تدمرها بل تدمرني أنا أيضا، فلا استطيع ان اريها وجهي مرة أخرى، دعنا من هذا اليوم، لنذهب لنفكر بوسيلة ربما ستكون أخف وطأة عليها، او ربما لا ترفضك متى ما علمت الحقيقة لأنها تحبك لذاتك..

عادل: لا أدري؟؟!!

نسرين فزعة تصارع طيفها رافضة ما تراه ... حتى سمعت صوتا ينادي عليها وأيدي تهزها ... نسرين.. نسرين حبيبتي استيقظي..فتحت عيناها وهي تقول يا الله هل هو حلم أم حقيقة؟ ثم نظرت إليهما وقالت: أنتما معا!! أمسكت بورق الشجر المتساقط كأنها تتصفح الخطوط البارزة عليها لتقرأ همسها، لم تعي أن الوقت قد نال قَرم يومها.. ودون شعور صاحت ابتعدا عني، فأنا لا أريد معرفتكما...

عادل: اهدئي أرجوك ... فقط أسمعيني للحظة ومن ثم أحكمي..

هزت رأسها أمل لها وهي تقول: أجل فقط انصتي ومن ثم قرري، فالمسألة ليست بالشكل الذي تتخيلين.. لقد كان عادل لا ينوي البوح لك بسره رغم أني ألححت أن يطلعك عليه، ذاك هو سبب لقائي به في نفس اليوم الذي اراد اخبارك بالحقيقة، لكنك اخبرته بأن ظرفا ما قد جد، فلم تتمكني من اللقاء به... عندها اتصل بي ليخبرنيه طالبا مني المساعدة كوني صديقتك المقربة لأخبارك به بدلا عنه... لكني رفضت، وجدته من الجنون ان يهدم حبكما بسبب ربما يكون فيه أمل بالمستقبل .. كما إنا رأيناك في آخر لحظة وأنت تدلفين بعيدنا تحملين حزنك هما دون إرادتنا، أظنه القدر..

كانت تنصت نسرين دون أن تعي اي شيء مما قالته أمل وهي تسند بنفسها المتهالكة على جذع الشجرة، تطلعت إليه وهي تقول: هيا أخبرني السر .. لقد تعودت على الصدمات مذ عاقبني الزمن بفراق كل من أحب حتى بت يتيمة، رغم أني أعيش في بيت خالتي إلا أني اتذوق اليتم في كل لحظة.. ويشهد علي هذا... إنه دفتر ذكرياتي الذي تصارعت سطوره هربا من احتوائها ألمي ودموعي.. لا أقول لكما سوى أني اتمنى السعادة لكما من كل قلبي...

عادل: لا شك أنك مجنونة نسرين... كيف تتخيلين أني سأتخلى عنك عمري، لكن بقدر فرحتي بالعيش معك في بيت يرومه الحب قناديل ملونة تضفي رونق سنين حبي لك، لكن الغصة التي علمت هي من أيقظت قراري بالابتعاد عنك.. لقد اكتشفت بالصدفة المحضة إني رجل عقيم لا يمكنني ان أكون أسرة مع من أحب.. تلك الصدفة قلبت موازين حياتي أياما طويلة السهر والسهد... فكرت كثيرا، وجدت ان اسلم طريقة هي الابتعاد عنك بصورة تريني خائنا لك، فكانت أمل هي وسيلتي، لكنها رفضت وبشدة..

صعقت نسرين!!!

دخلت عالم الصمت لوهلة، وهي تنظر الى وجهي عادل وأمل... كان الاثنان في وجوم وهما يريانها تعصر دفتر ذكرياتها بقوة تؤنب السطور التي كتبت والتي جعلتها تعاني وجع لا يحتمل... ثم قالت: يا لكما من غبيان إني أحبكما الى حد أن اجرع السم من أجلكما .. إن وفاءكما لي وحبكما هو بلسم لكل آلامي.. أما سرك يا حبيبي عادل هو الدافع الاكيد لأن اتمسك بك أكثر... فلا يمكنني ان أجد من يخاف علي اكثر منك..

وانت يا أمل سأحمل اسمك قبس نور لاعيش عليه مع من احب الى الابد.. او حتى يفرقنا الله.. ثم ضحكت وهي تحتضنهما بكلتا يدها قائلة يا لكما من مجنونين....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى