السبت ٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

الأتراك في الأدب الفلسطيني

تعددت صورة الآخر في الأدب الفلسطيني وتنوعت أيضاً، وإذا ما نظر المرء في النصوص الأدبية التي كتبت في القرن العشرين وجد أنها تحفل بالكتابة عن غير العرب، ولا عجب في ذلك، فقد تعاقب على حكم فلسطين الأتراك والإنجليز واليهود، هذا إذا غضضنا الطرف عن المصريين والأردنيين باعتبار هؤلاء عرباً يشتركون مع أهل فلسطين في عوامل عديدة أبرزها اللغة والتاريخ والجغرافية أيضاً.

ويمكن القول أن الحضور الأكبر في النص الأدبي الفلسطيني كان لليهود، حيث شكل هؤلاء، وما زالوا، الوجه الآخر لفلسطين على امتداد مائة وعشرين عاماً أو يزيد قليلاً. ولعلني لا أبالغ إذا قلت إن حضورهم في النص الأدبي الفلسطيني يساوي حضورهم على أرض فلسطين، وربما أكثر. وحتى النصوص الأدبية الفلسطينية التي لا تذكرهم أو تبرز نماذج يهودية، حتى هذه النصوص، بناءً على مقولة الحضور والغياب، حيث يفترض كل نص نصاً آخر، حتى هذه النصوص تُحيلنا إلى اليهود، إن الكتابة، مثلاً، عن حياة أهل أي مخيم في الشتات سوف تجعل المرء، بعد أن يتساءل عن مأساة هؤلاء، يتذكر اليهود، وهكذا يشكل هؤلاء النص الغائب.

ويأتي حضور الإنجليز تالياً. كان الإنجليز سبباً رئيساً من أسباب مأساة أهل فلسطين، أصدروا وعد بلفور، وساعدوا اليهود على الهجرة، وضيقوا على أهل فلسطين العرب، وانصرفوا بعد أن أدركوا أن كفة الميزان العسكري لصالح اليهود، وحتى بعد انصرافهم وقفوا إلى جانب إسرائيل وخاضوا مع جيشها عدوانهم على مصر. ولكن حضور الإنجليز، قياساً إلى حضور اليهود، يظل حضوراً هامشياً، ويكاد يقتصر على الجندي الذي انتدب على فلسطين، ولم يكتب عن إنجليز غير جنود سوى أولئك الذين ذهبوا وعاشوا في لندن مثل جبرا إبراهيم جبرا، وفدوى طوقان.

ولم تخلُ الأعمال الأدبية الفلسطينية من الإتيان على الأتراك، ويشكل حضور هؤلاء في النص الأدبي الفلسطيني حضوراً مساوياً، وإن بدرجة أقل، لحضور الإنجليز. حكم الأتراك فلسطين حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكنهم عاشوا في ذاكرة الأديب الفلسطيني وما زالوا يعيشون أيضاً، وكتب الأدباء الفلسطينيون عنهم من خلال ما عرفوه من خلال الذاكرة، فمعظم النصوص التي قرأتها شخصياً، إن لم تكن كلها، وبخاصة النصوص التي كتبت بعد عام 1918، لا تأتي على ذكر الأتراك في تركيا، وإنما تأتي على ذكر الأتراك يوم كانوا يحكمون بلاد الشام، والذين كتبوا هذه النصوص إما أنهم عاصروا حكم الأتراك، أو أنهم ولدوا بعد عام 1918 وسمعوا من آبائهم وأجدادهم عن الأتراك. ولم تخل الدراسات التي تناولت رموزاً أدبية فلسطينية عاصرت الأتراك من تبيان صورة هؤلاء في نصوص الأدباء.

يدرس د. سمير شحادة التميمي سليم أبو الإقبال اليهودي "1880-1941" ويتناول في دراسته موقف الشاعر من الأتراك، ويرى أنه أبرز لهم، وتحديداً للسلطان عبد الحميد، صورة إيجابية، وظل اليعقوبي على موقفه من الأتراك حتى وفاته، ويخلص التميمي إلى ما يلي: "إن اليعقوبي كان عثماني الهوى إسلامي النزعة، أحب الأتراك أيام حكمهم للبلاد العربية وبعد رحيلهم عنها، ولم يجد غضاضة من إظهار هذا الحب على مرأى ومسمع من الإنجليز". (ص 12) ، وسبب ذلك كما يقول الدارس: "هو إدراكه ـ أي الشاعر ـ تمام الإدراك للطبيعة الاستعمارية الظالمة، من خلال تجاربه العديدة مع الإنجليز بعدم جدوى التعامل معهم"(ص 128).

وزمن الأتراك، في أشعار اليعقوبي، زمن عز حيث كان هؤلاء يخطبون ود العرب، وكان العرب يجلون رؤوسهم، في حين أنهم غدوا في زمن الإنجليز يكبرون الأذناب، لنر هذه الأبيات التي قالها، وقد أوردها الدكتور التميمي في كتابه:

الترك كانوا يخطبون ودادنا

أيام كنا منهــم أترابـــا

ما كان للأتراك في أيامهم

أن يجعلونا ثائرين غضابــا

من مبلغ الأحرار عنا أننا

لم نُبْقّ بعد الترك إلا الصابا

في عهدهم كنا نجل رؤوسنا

اليوم صرنا نكبر الأذنابـا

ويتمنى الشاعر، في زمن حكم الإنجليز، لو أن الله يرجع حكم الأتراك، لأن حكمهم حكم نعيم:

ليت عهد الأتراك يرجعه الله

فعهد الأتراك عهد نعيم

ما سمعنا لغاشم فيه ذكراً

إنما في سواه ذكر الغشوم

هذه الصورة الإيجابية للأتراك التي أبرزها اليعقوبي، تقابلها صورة سلبية أبرزها الشاعر إسكندر الخوري البيتجالي 1890-1973.

توقف الدكتور خليل محمد سالم في كتابه "إسكندر الخوري البيتجالي: حياته وأدبه" 1981 أمام موقف الشاعر من تركيا، ويتخلص موقفه منها في أنها دولة ظالمة بسبب سياسة القمع والإرهاب التي مارستها في حكم الأقطار العربية الخاضعة لها. (ص 57)، وكان إسكندر الخوري قد هرب إلى مصر، ولكن ألقي القبض عليه وسيق إلى ساحات القتال مرغماً، وتلخص الأبيات التالية التي أوردها خليل سالم في دراسته موقف الشاعر من الأتراك:

أو تعلمين بما بنا فعلوا وثقوا الرجال كمجرم وغد

ومشوا بنا نحو القطار كما

يمشي شقي سيق للحّد

من خلفنا وأمامنا حرس

بسلاحهم تحتاط بالجند

فاستكبرت نفسي الرضوخ لمن

بالذل يدعوها إلى اللحد

يا مرحبا بالموت نجرعه هو في سبيل المجد كالشهد

لكنه عار ومخزية إن كان هذا الموت بالغدر

ففررت من أيديهم وأنا

أعدو كظبي فرّ من فهد

وكان الشاعر، يوم دخل الإنجليز إلى فلسطين، فرحاً، فقد رحب بهم، ولكنه سرعان ما غير من موقفه لما رأى في هؤلاء استعماراً جديداً يقف إلى جانب اليهود ولئن كان قال ابتداءً:

بني التايمز قد فزتم

والإنقاذ قد جئتم

بلاد القدس شرفتم

فأهلاً أينما بتم

وسهلاً فيكم أجمع

لكن كان قال هذا ابتداءً، فإنه فاز وقال.

ليتنا لم نعرف الغرب ولم

يكن الغرب لنا يوماً طبيباً

لم نجد فيه سوى الظلم ولم

تلق من سواسه إلا الخطوبا

ويمكن القول، وهذا ما أبرزته دراسة الدكتور ياغي "حياة الأدب الفلسطيني الحديث من أول النهضة حتى النكبة" (1961، ط1، 1981 ط2) إن ما كتب عن الأتراك في زمن حكمهم كان يبرز لهم صورة إيجابية غالباً. كان النص الأدبي الذي يكتب في حينه هو الشعر وكانت القصائد غالباً، قصائد مديح يقولها الشاعر في الخليفة وتتطلب هذه أن يبرز صاحبها للخليفة صورة إيجابية، وأن يقول فيه ما يحب الخليفة أن يسره حتى لو كان هذا غير صحيح. يقف الدكتور ياغي أمام بعض قصائد المديح ويبرز الصورة التي أبرزتها للخليفة، ولكنه لا يكتفي بهذا بل يعقب على هذا اللون من الشعر كاتباً: "ومن شعراء هذه المرحلة الإقطاعية في حياة البلاد الأستاذ اليعقوبي ـ الشيخ سليم أبو الإقبال ـ للعلوم الشرعية، وفنون الآداب في سوريا القائل في عصر مولاه الخليفة الأعظم. فيقول عن السلطان عبد الحميد:

عصر علم به تجلى يراع

خط للناس هذه الحسنات

فلئن كان عصر عبد الحميد عصر علم، فماذا يكون لون الظلام والجهل إذن؟!".(ص 127)

يجدر بالمرء وهو ينظر في الصورة التي أبرزت، حتى يتأكد من صدقها، ألا يقارن بينها في الأدب وما كانت عليه في الواقع. ولكن ماذا إذا ما كانت للحقيقة وجهان أو عدة وجوه..؟ وليس هناك من شك في كون الدارس وهو يبحث عن صورة شعب ما في أدب شعب آخر، مضطر لأن يبحث عن تكوين صاحب الصورة وثقافته وفكره السياسي والديني وموقعه أيضاً، وربما تظهر لنا هذه كلها بسبب ظهور هذه الصورة أو تلك، إذ ما السبب الذي جعل شاعراً يبرز للأتراك صورة إيجابية، وشاعراً آخر يبرز لهم صورة سلبية، وكلا الشاعرين ينتميان إلى البيئة نفسها؟

على أية حال لقد أبرزت النصوص التي أنجزت في زمن حكم الأتراك وتلك التي أنجزت بعد حكمهم بقليل، تلك الصورة التي لاحظناها، فما هي الصورة التي أنجزت لهم في النصف الثاني من القرن العشرين؟

إن النظرة على النصوص التي أنجزت، في هذه الفترة، وبخاصة النصوص القصصية، ترينا أن أصحابها ما زالوا يكتبون عن الأتراك أيام كانوا يحكمون البلدان العربية، وفي ضوء ما قرأته من نصوص لم أقرأ نصاً يكتب عن أتراك عرفوا في تركيا أو في خارجها بعد عام 1918، هكذا يجد المرء، وهو يقرأ هذه النصوص، أن زمنها القصصي يفارق زمنها الكتابي، وهنا لابد من مُساءلة الزمن الكتابي أيضاً، بالإضافة إلى مساءلة ثقافة الكاتب وتوجهه الفكري وانتمائه السياسي، فمما لا شك فيه أن الزمن الكتابي يترك بصمات واضحة على الزمن القصصي.

أنجز توفيق فياض في عام 1978 قصة عنوانها "الشيخ لافي الملك" وقد نشرها في مجموعته "البهلول"، وفيها أتى على الأتراك، وأنجز عبد الكريم السبعاوي ثلاثية هي "العنقاء" 1989، و "الخل الوفي" 1997، و"الغول" 1999 ط2. وفيها ذكر للأتراك، بل وإبراز نماذج فردية تركية، وقلما تحفل النصوص الأخرى بهذا، وأتى كتاب آخرون كثيرون على ذكر الأتراك، ومنهم، على سبيل المثال، لا الحصر، حنا إبراهيم في روايته "موسى الفلسطيني" 1998.

أنجز توفيق فياض "الشيخ لافي الملك" بعد خروجه من الأرض المحتلة عام 1974، وكان أصدر قبلها رواية هي "المشوهون" 1964، ومجموعة قصص قصيرة هي "الشارع الأصغر" 1968، ونصاً مسرحياً هو "بيت الجنون" 1965، ثم أصدر بعد "البهلول" 1978، وهي التي تضم قصة "الشيخ لافي الملك"، رواية "راوي الحوادث" 1994، وتحفل نصوصه هذه بصورة الآخرين: اليهود والإنجليز والأتراك، بل وبعض الشعوب العربية وحكامها، وتُلفت صورة الذات وصورة الآخر المتعدد في نصوصه أنظار قارئها، وغالباً ما تبدو الذات الفلسطينية إيجابية، في حين يبدو الآخر، إلا ما ندر، سلبياً.

ينتمي فياض نفسه إلى الريف الفلسطيني، فهو ابن قرية المقيبلة، وهو أيضاً ذو نزعة وطنية قومية، وقد أعجب بشخصية الزعيم المصري جمال عبد الناصر، ثم انضم إلى المقاومة الفلسطينية، وتأثر بذلك بالصعود القومي في الستينيات، ثم بالمد الوطني على الساحة الفلسطينية في السبعينات والثمانينات، وقد ترك هذا كله أثره عليه في أثناء تشكيله صورة الذات والآخر. وعليه فقد أبرز صورة الفلسطيني الريفي المقاوم، وأتى على صوت الإقطاعي الفلسطيني المتحالف مع الحكام الأجانب. ورأى في الأتراك والإنجليز واليهود والعرب، باستثناء عبد الناصر، مستعمرين قساة أساءوا لأهل فلسطين.

ولئن كانت الصورة التي تهمنا هنا هي صورة الأتراك، وهذا ما سأقف أمامه، فإن الإشارة السابقة للآخرين وللذات تبدو مهمة لأنها كانت في نصوصه لافتة للنظر، وهذا ما دفعني، من قبل، أتوقف أمامها. (انظر كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني، القدس، 1992"، ودراستي "الإنجليز في الأدب الفلسطيني، مجلة جامعة النجاح للأبحاث، عدد 13، 1999").

يختار فياض في "الشيخ لافي الملك" ريفياً فلسطينياً ليكون الشخصية المحورية في قصته، ويقاوم هذا الريفي الأتراك والإقطاع الفلسطيني والإنجليز، ويرى في الإقطاع الفلسطيني متعاوناً مع الحكام الأتراك أولاً والمستعمرين الإنجليز ثانياً، وتبدو صورة الأتراك، كما يقصها السارد من خلال "رؤية الشيخ لافي" سلبية جداً. يقف الأتراك إلى جانب الإقطاع الفلسطيني، وهكذا يقتادون رجال القرية إلى مدينة جنين كي يؤدوا ولاء الطاعة إلى حافظ باشا علناً.(ص 16) ولا يكتفون بذلك، إنهم يشحنون مئات الشباب الفلسطينيين إلى جبال اليمن، كي يقاتل "الشيخ لافي" الثوار اليمنيين الذين شقوا عصا الطاعة على السلطان التركي تحت راية الإمام حميد(ص 18)، بل إن الأتراك لا يسوقون رجال القرية وحسب، وإنما يسوقون أيضاً كل من صادفوه من شيوخ القرية ونسائها (ص 24)، ولم يخلف الأتراك وراءهم إلا المجاعات والفقر والأمراض والظلم.(ص 27)

هنا يمكن التوقف أمام رواية حنا إبراهيم "موسى الفلسطيني". وحنا إبراهيم ابن البعنة يكتب منذ خمسين عاماً تقريباً، وهو من مواليد 1927، وقد أصدر حنا حتى الآن أربع مجموعات قصصية وروايتين ومجموعتين شعريتين وسيرة ذاتية. وقد أنجز أكثر كتاباته وهو منضو تحت راية الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح، وعليه فإنه كان، وهو يكتب، يكتب من منطلق ماركسي، ويعني هذا أن الكتابة عن الذات والآخر تخضع للموقع الطبقي الذي يكون عليه الشخص المتصور، لا للموقع الجغرافي أو للرؤية الإثنية أو الدينية. ليس ثمة عرب أنقياء وآخرون شياطين، وإنما هناك مصالح وتحالفات اقتصادية وسياسية هي التي تجعل من أفراد شياطين ومن آخرين ملائكة. وتقول لنا روح نصوصه هذا، وقد بدا هذا جلياً في مجموعته الأولى "أزهار برية" 1972، وقد أنجز أحد طلبة الدراسات العليا في جامعة النجاح، وهو أحمد أبو بكر، رسالة ماجستير 2001، عن أدب حنا إبراهيم، وأفرد فيها فصلاً خاصاً لصورة الآخر.

تتحاور شخصيات "موسى الفلسطيني" وتناقش ما هي عليه من أوضاع، وفي أثناء النقاش يؤتى على ذكر الأتراك حكاماً لبلاد الشام. لا يكتب حنا إبراهيم عن نماذج فردية تركية، وإنما يتكلم شخوصه عنهم بصورة إجمالية. تقول إحدى الشخصيات في الرواية: "شيء يطير النعاس، سمعنا أن الحكومة تأخذ ضرائب مش أرض. تركيا كانت تجبرنا ناخذ أرض حتى نفلحها. إيش معنى تيجي حكومة تصادر أرضنا".(ص 48)

ويعلق آخر على هذا الكلام: "كلها حكومات عاطلة، والله ما خرب بيوتنا أكثر من حكومة تركيا. والإسلام اللي تقنعت فيه ما هو إلا نفاق ورماد في العيون". (ص 48)، ويعكس القولان آراء الناس في تركيا. يفصح الأول عن مديح لتركيا قياساً لما فعله الإنجليز واليهود، ويظهر الثاني أن تركيا لم تكن بأفضل حالاً. وليس هناك من شك في أن هذه وجهات نظر تصدر عن الفكر الذي ينتمي إليه الشخص، وهو ما نلحظه عموماً في الواقع، فبينما يدافع أصحاب الفكر الإسلامي، وبخاصة التحريريون، عن تركيا وعن السلطان عبد الحميد، نجد أن اليساريين يرون في تركيا سابقاً دولة رجعية متخلفة، وقد أبرز اليساريون، عموماً، صورة سلبية للأتراك في حكمهم. وكنا لاحظنا، من قبل، تعقيب الدكتور عبد الرحمن ياغي على الأبيات التي مدح فيها سليم اليعقوبي الخليفة العثماني.

هنا يمكن أن أتوقف، بإيجاز، أمام نص روائي لم يحقق انتشاراً واسعاً، وإن صدرت بعض أجزائه باللغة الإنجليزية في استراليا. وهذا النص الروائي هو ثلاثية "أرض كنعان" للكاتب الغزي عبد الكريم السبعاوي، تتكون "أرض كنعان" من ثلاثة أجزاء هي "العنقاء" و"الخل الوفي" و"الغول"، وترصد الرواية الظروف التي صاحبت قيام أول دولة عربية في التاريخ الحديث حين استطاع محمد علي وولده إبراهيم باشا توحيد الجزيرة العربية وبلاد الشام. انتهت العنقاء، باندحار نابليون وانسحاب الفرنسيين من غزة إلى مصر، ودارت أحداث الخل الوفي بعد ثلاثين عاماً من الانتصار العظيم، وتوقف الغول بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى.

وكما يلاحظ فإن الزمن الكتابي والزمن الروائي لا يتطابقان، يستحضر الكاتب الماضي ليكتب عنه، وهذا الاستحضار، ولا شك، سيقع تحت تأثير اللحظة الراهنة، لحظة الكتابة. والصورة التي امتلأت بها الروايات التي أنجزت في زمن الدولة العربية الوطنية، للأتراك، كانت غالباً سلبية، وهو ما لاحظناه في "البهلول" وفي "موسى الفلسطيني"، وهو ما بدا في الروايات التي كتبت في بلاد الشام، ومن هذه الروايات رواية توفيق يوسف عواد "الرغيف" 1939، التي طبعت غير طبعة ومثلت وعرضت مراراً على شاشة التلفزيون، ورواية "الزوبعة" 1994 لزياد قاسم. وصورة الأتراك في ثلاثية عبد الكريم السبعاوي لا تختلف. ولئن كانت بيروت المكان الذي دارت فيه أحداث رواية "الرغيف"، وبلاد الشام المكان الذي جرت فيه أحداث "الزوبعة"، فإن السبعاوي يكتب عن غزة خلال مائتي عام.

ويأتي في أثناء كتابته على نماذج تركية، وبذلك تختلف روايته عن قصة "الشيخ لافي الملك" ورواية "موسى الفلسطيني". ثمة شخصيات عربية في روايته وأخرى تركية وثالثة ألمانية...الخ.

يعيش الأتراك في قصورهم حياة بذخ وترف ويفخرون بهذا، ويعشقون النساء ويهتمون بالغلمان، وقد شعروا، نظراً لانتصارات دولتهم وامتدادها بضرب من التعالي، وتحضر شخصية جمال باشا أيضاً في هذه الرواية، وهي شخصية لها حضورها في "الرغيف" وفي "الشيخ لافي الملك" وفي "الزوبعة" إنها شخصية مركزية، على ما يبدو، في أدبيات بلاد الشام عموماً. لنرِ المقطع التالي الذي ورد في "الخل الوفي": "اعتدل عزت بيك في مجلسه.. وتناول نفساً عميقاً من أرجيلته.. فقد تعود ألا يجود بأخبار السلطان إلا لذوي المكانة والخطوة.. من أمثال صديقه نظمي بيك، بالأمس رأى السلطان من شرفته في قصر يلدز رجلين وامرأة يتنزهون على الجياد، سألني عنهم.. قلت لجلالته هذا هو الوزير الروسي المفوض بوتينيف وزوجته وخادمهمها.. قال السلطان: شاكوزال.. لو أن واحداً من أحقر خدمي خرج للنزهة.. شراب آميني مثلاً.. لجر وراءه ذيلا من عشرين خادماً على الأقل.. وأغلق شوارع اسطنبول.. آسف والله.. لا نفع فيكم". (ص 52)

ونظمي بك يقضي ليالٍ مع جوزال في بيت القهرمانة، ليالي أنس (ص 95)، ونظمي هذا ابن رجل كان يبيع الفخار بالملاليم، وغدا غنياً حتى أن السلطان الذي كان يجلس على العرش في اسطنبول أخذ يستدين منه المال بعد أن كان سلفه من السلاطين يهز العالم بإشارة من سبابته." (ص 20)

ويترك الروائي في روايته، وهذه ميزة لها، الشخصيات التركية تعبر عن ذاتها. إننا نصغي إليها تتكلم، وإن كان كلامها في النهاية هو من تصور الروائي نفسه، وقد يكون بعض الكلام مقتبساً من كتب، وبخاصة حين تكون الشخصيات حقيقية مثل شخصية جمال باشا والتي برزت في الجزء الثالث "الغول". يتكلم جمال باشا عن العرب والأتراك داعياً إلى وحدة الشعبين والوقوف معاً أمام المحاولات الشيطانية التي تدعو إلى التفريق بينهما. (ص 67) وكلامه هذا يعجب بعض الناس فيم يعقب عليها آخرون "يعطيك من طرف اللسان حلاوة.. ويروغ منك كما يروغ الثعلب". (ص 67)

ولعل تتبع صورة الذات والآخر في رواية السبعاوي، ومقارنة هذه الصورة بصورتهم في "الرغيف" للبناني عواد و"الزوبعة" للأردني زياد قاسم، يبدو أمراً يستحق دراسة مفصلة. ولعلني، في هذه المقالة، أكون أعطيت تصوراً عن صورة الأتراك في الأدب الفلسطيني، الأدب الذي كتب في زمن حكمهم والنصوص التي أنجزت بعد زوال حكمهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى