الثلاثاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠١٤
بقلم أسامة جودة

شجرة الولي

مل من حياته عندما فشل في إيجاد لقمة عيشه بطريقة كريمة فلم يعلمه أبوه كيف يسرق أو ينصب ؟!!

هام على وجهه في الأرض لعله يجد ما يحلم به، ترك نفسه للقطارات تحمله كيف تشاء فطاف على مدن وقرى، ركن إلى المقاهي واحداً تلو الآخر يشرب ما يشاء ثم يقول لصاحب المقهى: " معيش فلوس وغريب ".

نام في المساجد والزوايا وتسكع في الشوارع،استمتع بالموالد كثيراً ووجد فيها بعضا مما يطلبه، سكينة وطعام ونساء وسمع فيها حكايات الأولياء وعجائبهم، تنقل معهم فترة في رحلاتهم لكنه مل منهم أيضا ً فتركهم،وكان مما سمعه حكاية ولى ترك الدنيا وزينتها وترك الناس وخرج إلى الصحراء ليخلو بربه ويخلص العبادة، عاش هناك على حشيش الأرض وماء البئر القديم يعبد الله بحق و يخلص البكاء والدعاء حتى صار له مع الله عمار كبير وعندما مرت عليه قافلة بالليل الحالك ورأت النور يصعد من خيمته إلى عنان السماء ركنت إليه وكل من فيها يرنو لنيل البركة من الولي وفعلا كان لهم ما يريدون ومضوا وأتى غيرهم كثير حتى صارت خيمة الولي مقام عامر يقصده المحرومون، يتمسحون به ويدعونه ويوقدون الشموع من أجله ولكرامته وكرمه كان ولازال لا يرد سائلا ً خالي اليدين أبدا.

  هل لي أن أصل إلى ما وصل إليه ؟ ! هههه.

قالها باستهزاء ثم استطرد قائلا ً:
  ومن أكون أنا لأشبه الأولياء ؟!!
مضى طويلا ً وهو يحدث نفسه بهذه الأفكار المتضاربة حتى شعر بمرارة في حلقه فمضغ ريقه و ابتلعه وقال:
  من سار على الدرب وصل
قالها وقد عزم أن يخرج ليواجه المجهول.

خرج من المدينة التي كان بها إلى الطريق السريع الذي يشرف على الصحراء وكاد يصدم من سيارة مسرعة فحمد الله كثيرا ً أن أفسح له في العمر برهة لعله يصل إلى ما يرنو إليه، مضى بخط سير يوازى الطريق السريع تحت وطأة شمس حارقة وبين حين وآخر يخترقه أزيز سيارة مارقة وكأنما مسته شرارة كهربائية يرتعش على أثرها جسده النحيل، مضى لا يدرى إلى متى سيظل يستأنس بالطريق ويخشى الغوص في الصحراء بعد فترة يشعر بإجهاد فيستريح على حجر وسط الرمال ولا يلبس أن يشعر بجوع يفترس معدته فيزداد إجهاده،يرفع زجاجه الماء الصغيرة التي تقبع في جيبه إلى فاه فيبتل ريقه الجاف وتهدأ ناره الموقدة،يعاود المسير مرة ثانية حتى يجد شجرة عجوز ضخمة تبدو غريبة مثيرة،يحمل حجرا ً نظيف يضعه تحتها يجلس عليه،يعاود رفع نظره للشجرة مرة أخرى ويتخيلها شجرة برتقال مثمرة وقبل أن ينزل نظره عنها يأتيه صوت فرملة سيارة نقل كبيرة مملوءة بالبرتقال عن أخرها كانت مسرعة توقفت فجأة أمام مطب صناعي مرتفع فيسقط من صندوقها حبات برتقال عديدة وتأتيه منها حبات تستقر تحت قدميه يتناول إحداها ويأكلها بنهم وبسرعة،ثم وعند نصفها يتفكر فجأة في الأمر وكيف تخيل شيئاً وحدث بهذه السرعة ثم لا يلبس أن يكمل أكله مرة أخرى بعد أن ألقى بأفكاره خلف ظهره،يفكر في إكمال السير ولكنه يفضل الراحة بعض الوقت فيفرد ظهره على الرمال الساخنة كالجمر وتتعامد على عينيه أشعة ضوء الشمس المستعرة فيتقلب على جانبيه ويغمض عينيه فيذهب فى نوم عميق، فى المنام أتاه من يرتدى الأبيض فى الأبيض ويشع وجهه نورا ً وتحيطه هالة ضوء شفافة وتفوح من حركاته نسائم عطرة تملأ الأجواء،اقترب منه كثيرا حتى دنا من رأسه ووضع يده اليمنى على صدره واليسرى على جذع الشجرة التى وراءه ثم تمتم بكلمات غير معلومات لم يفهمها صاحبنا حتى سطع نور من صدر الرجل ومن جذع الشجرة ثم تساقطت من الشجرة عملات فضية غزيرة ملأت الأرض من تحت قدميه استيقظ على أثر الجلبة التى صنعها صوت سقوطها واصطدامها بعضها ببعض،عندما فتح عينيه بيسر بالغ وقد ارتدت السماء رداءها المظلم اخذ ينظر حوله وخيل له للحظة أن طيف الرجل مازال هناك عند اقصى المدى آخذ فى الابتعاد الأمر الذى جعل صدره يمتلئ بسكينة لا مثيل لها.

عندما استفاقت مداركه جمع بعض الأغصان الجافة وجعل منها جذوة من نار ثم قام ينظر للشجرة بدهشة ويتحسس جذعها وملمسه الخشن وتموجات اغصانها العجيبة وهو يفكر فى العملات التى تساقطت منها فى المنام ثم تركها وتيمم وصلى طويلا ً حيث جعل من الشجرة قبلته حتى تعب، قبل شروق شمس الصباح توقفت سيارة نقل كبيرة ونزل منها رجل تبدو ملامحه طيبة وعليه سمت الايمان اتجه نحوه وسأله عن حاله وهل يريد أى مساعدة فتمنع الرجل عن كل شيء اللهم إلا الماء فاحضر له الرجل عبوة كبيرة مملؤة عن آخرها فشكره صاحبنا فمضى.

عندما نوى اكمال رحلته راوده حلم الشجرة من جديد فحن اليها ولم يستطع مفارقتها وقام واحتضن جذعها الكبير بكلتا يديه كمن يضم حبيبه بشوق ولهفة ثم تركها ورجع للوراء ثم اخذ يلف حولها وفى عينيه وجل كمن يطوف بالبيت العتيق حتى انحنى وامسك بحجر حاد واقترب منها ثانية ونحت فى جذعها عبارة:
( لا إله إلا الله، محمد رسول الله ) ليشعر وكأن الشجرة ترتجف فى موضعها للشوق لمن يغازلها ويداعب مكنوناتها.
ما لبثت الشجرة أن جعلت من تلك اللمسات وهذا النحت متنفسا ً لها لتخرج صمغا ً عسلياً غزيرا ًيسيل على جذعها ليصنع مشهداً بديعا ً ويزيد من غرابة المشهد كثيرا ً وعندما انتبه الرجل للمشهد مد يده نحو الصمغ ليأخذ منه قدرا ً يسيراً ليشتم رائحته العطرة ولينعم بملمسه الناعم الندى وحينما مسح على وجهه بيديه شعر وكأنما انتقل من الدنيا الى الفردوس الأعلى فى برهة.

عندما تعطلت سيارة ميكروباص كبيرة بالقرب منه ونزل ركابها يتنفسون الصعداء وذهب البعض يجلسون بجواره تحت ظل الشجرة ليأكلون ادهشهم مشهد الشجرة العجيبة وصاحبها ذو الوجود الغامض والرائحة العطرة التى تحف المكان، وعندما انتبهوا للنقش المحفور على جذع الشجرة والذى اكسبه سيلان الصمغ صفة صنع الطبيعة ذاتها، سأله البعض عن وجوده وعن الشجرة لكن لم يكن له رغبة فى الحديث مع أحد فلم يجب على أحد وظل صامتا ً حتى وضع الطعام بجواره ودعوه فأرغمه الجوع والعطش على تلبية الدعوة ولكن بصمت وبلا نظرات رغم تبادل الجمع لنظرات تعجب من حوله،وحينما انتهت عملية اصلاح السيارة وبينما بدء الجمع فى توديعه والانصراف لا يدرى ما الذى جعله يقول لهم بتلقائية: (تبركوا من الشجرة ففى عسلها العجيب دواء من كل داء ).

الأمر الذى جعلهم يهرولون للتمسح بصمغ الشجرة حتى وقف أحدهم وطلب من صديقه ان يلتقط له صورة أمام الشجرة ويتضح بها النقش العجيب ثم اتجه نحو الرجل ووضع بجيبه ورقة نقدية كبيرة ثم انصرف.

لم يشغل الرجل عقله بما حدث وقضى ليلته يتعبد،وفى الصباح ومع اول شعاع للشمس فوجئ الرجل بموكب ضخم من السيارات يتوقف بالقرب منه وحشود غفيرة تتجه نحوه تطلب البركة من الولى وشجرته المباركة،يتمسحون بالشجرة ويمسحون وجوههم وايديهم من صمغها العسلى وهو جالس امامهم يتعجب وقبل الرحيل يلقون له بأموال كثيرةثم يذهبون ويأتى غيرهم كثيرون،لم يكن يدرى ما صنعه صاحب الصورة عندما نشر الصورة على الانترنت وقال عنها ( شجرة مباركة تشفى من كل داء ).

يتذكر الرجل رؤياه التى تتحقق عندما جلس يعد النقود فيسعد قلبه ويشكر ربه،وبين ليلة وضحاها اصبح خبر الشجرة يملأ الصحف وجاءت فضائيات لتصور الولى والشجرة ولكنه آثر الصمت.
عندما صرح فريق وزارة الزراعة الذى زار الشجرة أن نقوش الشجرة نقوش حديثة ومن صناعة يدوية سرعان ما خرج أحد مشايخ فضائيات الفكر التكفيرى بكفر الولى وكفر من يزور الشجرة وفى مساء ليلة توقفت سيارة قرب الشجرة وانطلقت منها رصاصات سفكت دماء الرجل ثم نزل من يسكب بنزين على جذع الشجرة ويشعل النار بها.
تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى