الاثنين ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٤
بقلم هيثم نافل والي

الملعون

ترى لماذا خلق الإنسان هكذا؟ يدق الأرض بقدميه بقوة لعله يجد المبررات أو يستخرج منها العيوب والموبقات التي تجعله يكره ما لا يريد أو يطيق، في حين نراه يذوب في هوى محبوبته، يتغنى ويترنم بذكرها ويعبد حسن تصويرها وجمالها، كأن سر الله متمثل بها، دون سبب معقول واضح!!

جلست أتذكر الملعون ابن السائبة الذي لم أجد له اسماً مرادفاً بالعربية.
ذلك الذي خلع قلبي من مكانه دون أن أفقه لماذا؟ وأضحك خجلاً من تصرفاتي الطفولية غير المشرفة لرجل مثلي، وأنا أستذكره...

أصرَّ ابني الصغير على اقتنائه وتربيته والاعتناء به؛ لكن كفة ميزاني كانت دائماً إلى الرفض تميل. حتى استغلَّ يوماً ساعة نجاحه في صفه، فسد علي منافذ الرفض، وفتح لي أبواب القبول على مصراعيها، فأذعنت لطلبه، واصطحبته إلى حيث يبيعونه...

ما أن وصلنا المكان، حتى شعرت بالغثيان، وأردت أن أرجع قافلاً من حيث أتيت... لولا أنه ذكرني بوعدي وقسمي، فخجلت منه ومن نفسي وقررت البقاء، حيثما ينوي الشراء...

كان ولدي الصغير عفريتاً لا يروض بسهولة، وكم من أيام حاولت أن أقنعه أو عن رأيه أعدله، لكن إصراره كان كبيراً، وعناده يذيب الحديد إن لامسه. ولم يفد معه رجاء، ولا تبريراتي الصادقة:

خوفي منه، عدم استطاعتي أن أكون معه تحت سقف واحد، لا يمكن النوم بقربه أو حتى بجانب غرفته، يا إلهي، ما هذه الورطة؟ لقد كنا صغاراً نصنع ألعابنا بأنفسنا من نفايات الأشياء، ونتسلى بها ونحافظ عليها أكثر من ثيابنا التي علينا، وأولادنا ما كنا نفعله لا يصدقون! ولا يقتنعون إلا بالملاعين المتمردة التي لا يروضها شيطان ولا إنسان.
ركب رأسه حتى جاءت ساعة الصفر بالنتيجة المدرسية المشرفة، فلم أستطع الممانعة بعد؛ وها أنا معه نبحث عن الملعون قصير الرقبة... والروائح تعط من كل ركن كغاز مسموم...

قادني من يدي اليمنى، وكأنه يعرف المكان كساحر لا يصعب عليه شيء، وأنا أضع يدي اليسرى على أنفي بقوة تجنباً تلك السموم المتطايرة التي اعتقدت أن لها ألوان الموت الأزرق.

صاح بفرح غامر وبصوت عميق، حيث خرجت الكلمات من حنجرته كبيرة لا تعود لصبي في عمره:
ها هو... أخيراً قد وجدته!

 يا حفيظ، يا رحمة الله، ما هذا يا بني؟! ثم برصانة أقرب إلى الحكمة عقبت:
يا حبيبي، اقتنِ شيئاً آخر، أو دعنا ننظر في المتجر من جزئه الآخر، لعلنا نجد شيئاً أجمل وأنظف وربما يروق لي كما يروق لكَ، وتابعت مناكداً:

ها... ماذا تقول؟

 زمَّ شفتيه، قطب حاجبيه، وعلق كمعلم محنك:

أنا لم أحلم إلا به، ويجب أن أقتنيه، فأنا لا أحب من بعدكما- أنت وأمي – غيره( قال ذلك وهو يصلب يديه على صدره )
 حسنناً يا بني، لكن انظر إلى أنفه!! سبحان الله، يجفف العقل في الرأس!! انظر... كيف يلتهم الأكل، يا له من زنديق مارد!! لا يستحي ولا يخجل كخنزير بري صغير.

 برنة أقرب إلى التشويش:

لا تقل هذا بحق من أحب، وإلا خاصمتك!! ثم رجع إلى لهجته الوادعة، الماكرة بعد أن صقل صوته وأضاف موارباً:
هيا يا بابا لنشتريه ونذهب من هنا، فأمي مشتاقة ومتلهفة جداً لرؤيته، هيا...

رجعنا قافلين، والملعون ابن الخائبة يجول ويصول في قفصه في صندوق السيارة بلا وجل أو خجل، وابني يهتز جسمه بحمية لكل وقع منه يسمعه، مأخوذاً، طائراً من الفرح وهو يضحك... فطالت ضحكته وتحولت إلى قهقهات مدمرة كانت بالنسبة لأعصابي... وأنا ألعن الزمن والأيام والساعة التي جعلتني أوافقه على اقتناء لعنته، تلك التي أحملها في سيارتي وأنا صاغر لا أريد.

لم يكن له ولأمه من شاغل غير قضيته، كيف يأكل، كيف يشرب، كيف ينام، ومتى يذهب إلى الحمام... وهكذا تغيرت حياتي ساعة وجوده.

انقلب نظام الهدوء في البيت، وأصبحت الفوضى تعم المكان خاصة في الليل، لازمتني عادة سيئة حديثة الولادة، هي الاكتئاب كلما نظرت إليه، وفي حسنه الجذاب تمعنت!! يا لها من صورة يمتلكها:

له شعر قصير كجلد الجمل، خشن وقذر، ذو سحنه كالحة رمادية بلون السخام الفاتح، لا يتعدى حجمه حجم الفأر أو أصغر بقليل، أنفه ينافس فيه أنف الشيطان، أطمس، ويشم ويتحسس كل شيء يراه أمامه، ككلب جائع مذعور، سلاحه الوحيد للدفاع عن نفسه هو العض، له يدين قاتلتان، فتاكتان، كملاقط صغيرة لجذب الشعر عن الوجه، عينان زائغتان، مضطربتان لا يستحقان الراحة ولا يخلدان للنوم إلا في النهار، رجلاه كقطعتين صغيرتين من الجزر غير مستقيمتين؛ له طبع فيه الكثير من الكبرياء، حيث لا يمكن للمرء من كسب ثقته إلا في أيام طويلة، فكيف الحال لو حاولت ترويض عواطفه والسيطرة على تصرفاته؟!

ابن المدللة لا يهمه ولا يلهمه شيء، له عناد يفتت الحجر؛ نقطة ضعفه اكتشفتها بالصدفة، فما أن تغير مكانه حتى يصاب بضغط نفسي وإجهاد عصبي، وفرحت للنتيجة المرضية الخطيرة التي توصلت إليها وأضمرتها بحقد في قلبي كالذكرى التي حرصت على عدم نسيانها!! لا يشعر بالأمان إلا إذا قذفت له الطعام، وهذه كانت صفة ذا فائدة كبيرة لو أردت الانتقام!! فوضعتها بحساباتي.

لكن يبقى الأكثر نفورا ودمارا عندما يحب اللعب، وأي لعب وفي أي وقت؟ يا الله... لا يحب المرح والرقص إلا في الليل! فأقلق المسحوق ابن الداهية قراءاتي الليلة التي كنت متعودا عليها.

فما أن يجن الظلام حتى يخرج من بيته ويرتقي دولابه الخشبي فيقرقر كماء فائر في قدر على النار، ببلاهة وغباء شديدين ويركض فيه مثل فأر تجارب، أرعن ومرعوص دون غاية أو هدف، وهو يوصوص بوقاحة قاتلة لا تحتمل في ساعة من سكون الليل، فيفض بصوته الكريه ورائحته التي لا تطاق بكارة هدوء الليل بوحشية لم تخلق لبيت كبيتنا، لقد كان اللئيم كل لياليه أعياد، أي والله... حتى استمر الحال هكذا وأنا أنصب له العداء وقلبي يضمر البلاء، أتوعد به شراً، وأنتظر الساعة التي منه أنتقم.

وما أن سافرت العائلة يوماً للسياحة والزيارة... حتى قفزت من مكاني مسروراً وكأنه يوم زفافي المنتظر، فأعددت خطه محكمة لا يعلم بها إلا الله وكانت:

تجويعه لحد ما قبل مرحلة الموت، ثم دفع الأكل إليه بكمية تجعله يسمن بسرعة لا تمكنه من الحركة والتنطيط والرقص في دولابه الذي أتلف أعصابي وأرقني كلما ارتقاه، ثم حرمانه من النوم في ساعات النهار التي يركن إليها بعد أن درست حركاته كلها، ودققت في برامج استراحاته، ترفيهه، نومه، شربه وأكله، وعندما حانت ساعة الصفر بدأت العمل بحزم لا يعرف سوى العناد وأخذ الثار...

فما أن خلى البيت لنا، حتى جذبت صندوقه الحديدي المشبك بحذر وكأني أرفع ثعباناً كبيراً متمرداً فوضعته تحت مصباح شديد الحرارة والضوء، لأنني عرفت من متابعاتي له، لا يحلو له اللعب والرقص وارتقاء الدولاب إلا في ساعات الظلام الدامس، فكان عليّ إلا أن أحرمه من متعة الظلمة، فتعمدت أن يكون كل أيامه نهاراً، كي يقبع في بيته لا يستطيع مواجهة النور، لكنه كان عفريتاً كابني، لم يستسلم بسهولة، وبقي ثابتاً في قراره كالجدار، وعناده كعناد الحمار، وهو يرفض محاولاتي المستميتة في تغيير نظام حياته!!

آه يا ربي، لقد كان الخبيث السلطان ابن الشيطان كالمياه الساكنة التي لا تعرف مدى عمقها الحقيقي بسهولة، أو كالسور العالي الذي يحجب ما وراءه!!

لكنه لم يصمد طويلاً... انهار الملعون ابن المصعوقة بعد يومين طويلين كانا بالنسبة لي...
فتخلصت من أول إزعاجاته اللعينة وأصواته المقززة اللئيمة التي كان يطلقها في كل مرة يخرج فيها للترفيه عن نفسه في الليل، الذي جعل ليالي كلها سلسة من العذاب والشقاء وها هي الفرصة التي آخذ منه ثأري الذي أضمرته في قلبي ساعة حصوله على الإقامة معنا...

بدأت أكثر من أكله، بل لم يكن لي من هم سوى الاعتناء بغذائه وتزييد كمياته وهو يلتهم كل ما أقدمه له بفرح مريض أرعن، لعلي أستطيع أن أجعله بسرعة يسمن، فتقل بذلك حركته ودبيبه...

نجحت في هذا أيما نجاح، فلم يعد يستطيع الوقوف أو الجلوس، وأصبح ككرة التنس، لم تخلق إلا للتدحرج!!
هدأت الليالي التي تلت نضالي وكفاحي الذي أجهدني من متابعتي له ومراقبتي لتصرفاته والتغيرات التي تطرأ عليه!!
وما أن مضى علينا بعض الزمن، حتى شعرت بالشوق والحنين إلى ابني وزوجتي، بدأت أستذكرهما وهما معه يستمتعان، واللعب بجانبه يمرحان، وبنشوة ساحرة يضحكان...

اكتشفت بالصدفة صفات وأنا أتابعه لم أكتشفها فيه من قبل!! لقد رأيته يضحك، ومرة يمد لي يده للقائي كلما اقتربت من صندوقه وهو يتعلق ويتشبث بجدار المشبك الحديدي كالقرد وينظر لي بعينين صغيرتين كحبتي رمان، شهلاوين لم ينضجا أو يصطبغا بالحمرة بعد كعيني يربوع؛ حتى سرت رعشة خفيفة في جسدي، وجعلني أحن عليه ثم فجأة ودون إرادة بعطف اتجاهه غير محدود، كاد يبكيني!!

أطفت المصباح الذي كنت قد وضعته فوقه منذ أيام خلت! أخرجته من مكانه بحذر شديد، ووضعته في كرتون صغير أعده ابني لهذا الغرض قبل سفره، فوجدته لطيفاً، ناعم الملمس كالحرير، ولم أشم فيه تلك الرائحة الكريهة التي كنت أشمها فيه من قبل!! تعجبت لذلك... وقلت في نفسي أخاطبها مستغرباً:

ترى لماذا خلق الإنسان هكذا؟ يدق الأرض بقدميه بقوة لعله يجد المبررات أو يستخرج منها العيوب والموبقات التي تجعله يكره ما لا يريد أو يطيق، في حين نراه يذوب في هوى محبوبته، يتغنى ويترنم بذكرها ويعبد حسن تصويرها وجمالها، كأن سر الله متمثل بها، دون سبب معقول واضح!! وتذكرت حينها قول الشاعر العراقي الكبير* الذي قال:

لا تسأل المرء عن شيء يحيره
فقد يعلل لكن يختفي السبب
إذا حسبت الذي يبدو بمظهره
حقيقة فلقد حلت بك الريب

غيرت أرضية بيته التي تتكون من نشارة الخشب في الغالب، نظفت بيته وأنا أشعر بسعادة حقيقية غريبة، ألهبتني، ألهتني وألهمتني وأنا اعتني به برفق حتى غرقت في عالم حبه؛ جددت له وعاء مائه، وما هي إلا يومين أو ثلاثة حتى استعاد المغضوب عليه عافيته، قل وزنه بسرعة فائقة لم أتصورها، إذ خفت في بعض الأحيان التي كنت أدفع له الطعام كيفما اتفق وبشتى أنواعه، من أنه سينفق أو يطق لا محال... لكنه كان ابن جنية، جلداً ولم يصب إلا بداء السمنة التي تخلص منها بخفة، كالساحر؛ ثم بدأت عافيته وصحته تتعافى، زاد نشاطه وتحسنت لياقته، وأصبح أكثر قوة وحركة عن ذي قبل كغزال فتي لا يتعب من الركض.

ولم أشعر إلا وأنا لا أفارقه، بل لم يعد لي من هم سوى اللعب معه وعنايته والحرص على راحته وسعادته والوقوف على طلباته، بعد أن استهواني وجذبني؛ فوجدت نفسي أتأمله، أسامره واغني له وأردد على مسامعه كلمات لم أحلم أو أتوقع يوماً من النطق بها على مسامع هذا الملعون الذي قتلني وأحياني دون أن أدري كيف أو لماذا؟! واستغربت جداً عندما وقعت على سره الذي لم أكتشفه من قبل:

كان أكثر شيء يجيده هو الصمت!!

استمرت مطالعاتي المعتادة دون منغصات، ولم يعد يعجبني القراءة إلا بقربه وهو يضحك ويرقص ويدور، وكأنه يريد تسليتي حتى أستمتع وأنا أتابع قرءاتي!! فأصبح تأثيره عليّ لا يقاوم ولا ينسى، يترك أثراً في الذاكرة وعلى الوجه والتصرفات كرياح الصحراء الرملية...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى