الأحد ٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤
صورة مبعثرة

من يوميات العدوان على غزة

الجزء الأول

لا شيء يتلو المكان إلا هم، أماكن تستصرخ الضمائر وتسأل أين من كانوا يفترشونها بأحلام الزنابق والبلابل...هي صور مبعثرة، مرت أمام عيون الملايين، ليس لأنها تريد الشهرة والأضواء... بل لأنهم رفضوا أن يرحلوا دونما أعراس.

الصورة الأولى

يحتضن أخاه بقوة... ما تزال الابتسامة على وجهي الصغيريين... من يدري كم لعبا قبل النوم! وكم من ضمة ضما بعضهما البعض! لتأتي صورايخ الغدر تخطف تلك الابتسامة وروحهما الطاهرتين.
تُرى هل التحفا الأحلام أم سبقتهما مرايا الطفولة إلى جنان الرحمن؟!

الصورة الثانية

يتسع الشاطئ لأحلامهم الصغيرة، يزورنه مع موج الأمل، يقفون مبتسمين.. يتلمسون رمله الدافئ برفق وحنان... يتراكضون بفرح...هذا مكانهم المفضل، وهذا ملعبهم ربما الوحيد! يسخرون من الصواريخ وهي تتطاير فوق مدينتهم... ولا يخافونها... وفي لحظة غدر تأتيهم مسرعة خائفة من طفولتهم الكبيرة، من ألعابهم، من أحلامهم الصغيرة بوطن محرر... تخطف حنانهم وسلامهم مخلفة وراءها قلوبا ثكلى، إلا أنها تهدي الوطن عمرها.

الصورة الثالثة

تهلل له... وكأنها تجهزه للنوم مساء، بعد لعب يوم طويل... تهزه برفق وهي تحتضنه خشية أن يزعجه هزها، تمرر يدها فوق جبينه داعية الله الرحمن أن يحميه، وأن تراه شابا يافعا وتفرح بتخرجه في الجامعة وزواجه. هو فلذة كبدها وبصوتها المخفوت تقول له:" نام يما الله يرضى عليك يا غالي" وتكمل" يلا ينام يلا ينام لدبحله طير الحمام روح يا حمام لا تصدق بضحك عالغالي تينام"....يأتيها صوت من بعيد:" يلا يا خالتي تأخرنا عليه خلينا ندفن الشهيد".
الصورة الرابعة
ويأتي الصباح حزينا على غير عادته، ومن بين الأنقاض يظهر وجه ذاك الطفل الصغير وهو يغط في سُبات عميق، وما تزال أمه تحضنه بقوة...تُرى هل كان نائما حقا أم أن الصواريخ القاتلة خطفت منه طفولته البريئة عمدا...؟!
أمه لن تبكيه، فهي حاولت جاهدة أن تحميه بصدرها الأعزل، وبحنانها وخوفها عليه، ودعائها له، ولكن الصاروخ هدّاف ماهر مبرمج لإبادة حي شيمته الشجاعة، فكيف ستحميه! وهي لا تملك إلا الدعاء والابتهال؟!

الصورة الخامسة

توضأت وحضّرت نفسها لآذان للصلاة، وجلست تنتظر موعد الإفطار، بينما هدير طائرات العدو يعلو خارجا. السماء تشتعل دخانا أسود، والأفق يختال ما بين الصاروخ والآخر بوابل من لهب وبارود، وهي تنظر إلى بريق حبات التمر والماء البارد، نظرة إمرأة سبعينية أعياها الصيام، وبالقرب من مائدتها المتواضعة، كيس الدواء الأبيض الذي يحتوى على أدويتها الشهرية من عيادة الأونروا للضغط والسكري ومرهم بلسم الآلم لوجع المفاصل
وصدح صوت المؤذن... حملت حبة تمر، ولسانها يلهج بالبسملة:" اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت وعليك توكلت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله يا واسع المغفرة اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات يوم يقوم الحساب"، لم تأكل تمرتها، فالقذائف كانت أسرع بالسقوط على منزلها، مصيبة هدفها، بينما في الخارج ما يزال المؤذن يكمل الآذان.

الصورة السادسة

وتتسابق النيران إلى غزة، ليل صارخ يطوقه موت من كل الجهات...في هذا البيت كانوا، يتقاسمون الأفراح والأحلام، ويتماسكون عند الألم...خمسة أطفال مع والديهما، رفضوا العيش منفصلين، وآثروا الموت سوية...
يا لقلب والديهما: هل حاولا إنقاذهم؟! وهل شفع لهم برج السلام أمام صواريخ وقذائف الموت العدوة...؟! هو العدو حتما لن يتركهم.
هنا كانوا، وهنا رحلوا... وهنا تبقى غزة صامدة صابرة، تضمد جراحها، وفي ثراها سينامون نومتهم الأخيرة.

الصورة السابعة

هرعوا إليها خوفا من نباح صواريخ العدو وقذائفه المرعبة لطفولتهم، هرعوا مع أهاليهم، وجيرانهم ظنا منهم أنهم سيرتاحون قليلا من تلك الأصوات واشتعال سماء مدينتهم بسمومها.

إلا أنها لم تتركهم، لحقت بهم إلى حيث مدرستهم وكتبهم ومقاعدهم وحلمهم بالمستقبل والحياة، فبدل أن ينطلقوا منها طلاب علم، باغتتهم بنيرانها الحاقدة. مشهد يتألف من ثلاثة شموع تشتعل فيخرجون منها شهداء...
نيام هم؛ ينتظرون الصباح كي يذهبوا إلى مدارسهم باكرا، باكرا، باكرا....

الصورة الثامنة

"خايف يما ولا معصب، يما مين مزعجك، يما مين مضايقك، يما، يما، يا عمر إمك ليش ساكت"...؟
ويغط في نومه، ويداه الصغيرتان ما تزالان مشدودتين بغضب، وعيناه مطبقتين بقوة... سيرحل اليوم، مخلفا وراءه سرا كبيرا. هل شكوت قادة العرب لله عندما طاردتكم وحاصرتكم الصواريخ والقدائف من كل الجهات، وهل دعوت الله أن يحمي مدينتكم، أما كنت تبكي جوعا وخوفا وقهرا، وهل وهل وهل...الخ؟!
لن نتكهن كثيرا... هي غزتك... ويحق لك حتى أن تشتم وتسب كل من كان له يد في جرحها، وبترها، وسلبها....

الصورة التاسعة

وركع القلب ألما، ودموعه تمتزج مع بقايا صمت منزلهم المدمر، وتوضأت الأرض العطشى من عبير دمهم... وهو يهز ابنه" يابا ما تبكيش... دمعاتك غاليات؛ دمروا علينا البيت بنبني غيره... استشهدت أختك وأخوك لازم نوفي دينهم... يابا، الرجال ما بتدمعش، اسمع نصيحتي، الحياة ما انتهتش، وربنا نجاك... وهادا المرعبهم... انه شبابنا ابطال وما بهابوا الموت وبلبوا ندا الوطن، يابا في بارودة بالبيت لساتها زي ما هي، ما تأثرتش بالقصف، يلا خوذها الشباب بستنوك لتحرروا الوطن...ما تتأخرش".

الصورة العاشرة

وتطير الأرجوحة... وتخفق قلوبهم معها، يركبون الهواء، ويحلقون في فضاء يتسع لأحلامهم بثياب جديدة، وكعك العيد، ورائحة شواء اللحم...إلا أن مدينتهم جريحة وأطفالها غادروا قبيل العيد... استعجلوا الرحيل قبل أن تكبر أجسادهم التي امتزجت بأديم الأرض
وتحلق الأرجوحة عاليا، وهم يتحدون صواريخ العدو الهائجة عديمة القلب والمشاعر...يواجهون قذائفه بإيمانهم وبقلوبهم الصغيرة التي حرمت من مظاهر العيد وعاداته، وبحقهم في اللعب رغم كل شيء... انتزعوا الخوف ورموه لجنود العدو... وتسلحوا بالقوة... ثوان وينقلب الفرح والسعادة إلى دماء، يتركون الحياة ويودعونها وهم يرددون: يا أطفال غزة، يا من سبقتمونا، انتظرونا نحن قادمون.

الصورة الحادية عشرة

وفي عتمة الردم والدمار، روح تقول:" أنا هنا، تعالوا اليّ"، ويشرق وجهه وهو ما يزال يمتص الحياة والحرية من ثدي أمه الشهيدة، التي فَدته بعمرها وروحها...ليحيا هو، ويكبر، ويصبح ثائرا فدائيا يحارب العدو الصهيوني..
ما أعظمك أيتها الأم الفلسطينية، تموتين أنت، ليشرق الوطن بأطفاله، ويغرد بأمل النصر والعودة والتحرير.

لم تنته الصور... ربما ما بعد العدوان... ستكون الصور أشد ألما.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى