الجمعة ٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤

قراءة في رواية عازفة الناي

عبدالله دعيس

صدرت رواية "عازفة الناي" للأديب المقدسي عيسى القواسمي عن دار الشروق في رام الله وعمّان، وتقع في 384 صفحة من الحجم المتوسط.

هل محكوم على من يتخلى عن القدس بالشقاء والضياع؟ وهل من أحب القدس عاشت روحه فيها واندمجت مع جدرانها ولو هلك ومرت عليه الدهور والعصور؟

تحكي "عازفة الناي" حكاية القدس، حكاية من أحب القدس فأصبح جزءا منها، غالب الزمن وانتصر على الموت ليعيش في أكنافها، وحكاية من تخلى عن القدس وتنكر لها، فلفظته بعيدا، وتحولت حياته إلى حيرة وشقاء.

عازفة الناي فتاة عاشت في الزمن الغابر، لكن روحها أبت أن تغادر المدينة التي أحبتها، فسكنت أحد جدرانها، وما فتأت تظهر لأولئك الذين يتخلون عنها، تعزف بنايها، تدعوهم إليها، تدعوهم ليعودوا. لكن أولئك يظنون أنها تنازعهم رغباتهم وأهواءهم التي باعوا القدس من أجلها.

تخلى ربحي عن القدس، وباع بيت والده الذي يربض في قلب المدينة قريبا من مسجدها الأقصى لأولئك الغرباء، مقابل أن يشبع نزواته، باع القداسة على طاولة القمار، فكان قدره أن يموت مشنوقا في الصحراء. تبعته عازفة الناي بنايها المشروخ تدعوه لأن يعود. خرجت من جدارها الذي أقامت فيه لمّا أدركت أن الجدار سيصبح بيد الأعداء، لكنه تمادى في ضلاله، واسترسل في غيه، وتزوج من يهودية ولم ينتبه إلى عِظَم خطيئته إلا عندما قرر أن يترك الحياة منتحرا. فالقدس لا تغفر لمن يخونها.

عادت عازفة الناي إلى كوَتها، تناجي بهاء، عندما أحست فيه نزعة إلى هجر مدينته. طُرد بهاء من بيته، واستباحه المستوطنون. لم يخرج بهاء من مدينته وإنما سكن أحد فنادقها، رافقته عازفة الناي، التي هي روح المدينة، تؤجج في نفسه مشاعر الغضب، وتثير فيه القدرة على الصمود والنضال من أجل استرجاع بيته ومدينته. لكن بهاء، أو الفتى كما يلقبه الكاتب، سقط عند أول نزوة، انشغل عن صوت الناي بصوت الجيتار الذي كانت تعزفه غانية ألمانية في الغرفة المجاورة. تخلى عن حلم العودة إلى بيته ليصبح همه في الحياة حب هذه الغريبة، وبدل أن تكون عازفة الناي هي الروح التي تقوده إلى الانعتاق من أصفاد الاحتلال، وتقوده كي يعود إلى بيته الذي اغتصبه المستوطنون، أصبح نايها، في نظره، هو الذي يحول بينه وبين الاستمتاع بجيتار هيلينا الألمانية، وأصبح طيفها هو الذي يمنعه أن يتلذذ بجسد هيلينا. أصبح عشق هيلينا هو ما يؤرقه، وانساق وراءها لكي يبعد عازفة الناي عن روحه وقلبه. فكان مصيره شبيها بمصير عمّه ربحي، تنتهي الرواية وهو ثمل وملقى في صقيع جبال الألب. هذا قدر من يتخلى عن القدس.

رواية "عازفة الناي" هي مزيج بين الحقيقة والخيال. مزيج بين العالم المادي المحسوس وبين الأخيلة والأحلام والوساوس وهذيان السكارى. يظن القارئ في البداية أن الكاتب سيتناول موضوع القدس، سيقود صراعا من أجل أن تستعاد بيوتها من أيدي المستوطنين، لكنه سرعان ما يدرك أن الكاتب يقوده بعيدا عن القدس وصراعها مع الاستيطان، إلى قصة عشق عادية بين شاب من هذه المدينة وفتاة غريبة عنها، وتصبح أحداث الرواية تدور حول هذا العشق والصراع مع ذلك الطيف الذي جاء من أعماق التاريخ ليفسد هذا العشق. لكن القارئ لا يستطيع أن يتعاطف مع بطل الرواية، بهاء، الذي ما عاد يذكر بيته الذي اغتصبه المستوطنون، والذي بدأ مشواره يبحث عن الحقيقة، حقيقة تسرب بيته للأعداء واختفاء جده واستشهاد والده، ثم أصبح بحثه لأجل أن يستطيع أن يستمر في حب هيلينا. ثم يهجر القدس ليعيش في ألمانيا بالقرب من عشيقته.

يبدع الكاتب في وصف الأماكن بلغة جميلة أنيقة، فيرسم صورة جميلة لمدينة القدس، يأخذك في أحيائها وأزقتها، فتزور كنائسها وتجوب أسواقها وكأنها صورة ماثلة أمامك، ثم يقودك في رحلة صحراوية إلى وادي القلط، يصف طرقها ومغرها وأديرتها بدقة بالغة، ويرسمها بريشة فنان مبدع. ثم يصطحبنا في نهاية الرواية في رحلة عبر ألمانيا إلى الغابة السوداء التي تحتضنها جبال الألب بقممها البيضاء في رحلة جميلة مشوقة.

ويدير الكاتب حوارا بين الشخصيات بأسلوب جميل، لكنه أحيانا يعمد إلى شرح حقائق تاريخية وجغرافية أثناء الحوار، فيتحول الحوار إلى ما يشبه درسا يلقيه معلم حاذق. أعتقد أن هذا الاستطراد في وصف الأماكن والحكايات التاريخية قد أضعف الحوار وأخرجه عن سياقه، وربما كان من الأفضل أن يذكر الكاتب هذه المعلومات المهمة، والتي تنم عن سعة اطلاعه وثقافته، خلال السرد لا ضمن الحوار.

هل القدس هي مدينة الفضيلة والصلاة والجهاد والصبر والرباط أم هي مدينة السكر والقمار والعشق الحرام؟ عندما تبحر في رواية "عازفة الناي" وتعيش أحداثها، تعيش بين مجموعة من السكارى والواهمين. تنتقل من نوح السكير وأوهامه وتنبؤاته، إلى هيلينا التي تعاقر الخمر وبهاء الذي يتمنع عنها في البداية، لكن الرواية لا تنتهي حتى يعاقرها. ولا نلمح خلالها طهر عازفة الناي وعفة أبناء القدس وتضحياتهم. يبعدنا الكاتب عن جوّ القدس الروحاني المتصل بالسماء ليجعلنا نعيش في لحظات الخطيئة التي يقترفها بعض أبنائها.

وأتساءل، لِمَ يصرَ الكاتب على تلقيب بهاء بالفتى، أليست الفتوة تحمل معاني القوة والأنفة والتضحية والحماس؟ لكن بهاء لم يكن كذلك أبدا، بل كان عنوانا للضياع والانكسار والهزيمة والضعف؛ كان ضعيفا أمام أعدائه ثم كان ضعيفا أمام نزواته وعشقه. ولا أعلم لماذا جعل الكاتب بهاء يزور بيته وهو في يد المستوطنين، ويرى تلك الفتاة اليهودية المذعورة التي تسكن غرفته. هل يريدنا الكاتب أن نتعاطف مع المغتصب؟ أنا لا أعتقد أن هذه الزيارة واقعية أو يمكن أن تحدث في الحقيقة؟ ولا أعتقد أنها أضافت شيئا إلى الرواية.

ربما تاه بهاء في صقيع الغربة في ألمانيا، وربما ينجح الغجر في سلخ عازفة الناي من روحه ليعيش في نعيم عشق هيلينا، أو ربما يموت سكرانا هناك على شاطئ تلك البحيرة البعيدة. إلا أن عازفة الناي ستعود حتما لتسكن في كوّتها هناك في ذاك الجدار في مدينة القدس، تؤرق ليل المغتصبين وتعزف بنايها لحنا رقراقا يلهب مشاعر الصامدين، ويدغدغ شعورا روحانيا شفيفا في أنفسهم، بعيدا عن هذرات السكارى والخائنين.

عبدالله دعيس

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى