الجمعة ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
المسرح الوطني الفلسطيني

ندوة اليوم السابع

نسب أديب حسين

من يُحرم من مكانٍ يعشقه يُصاب بعلة الشوق المزمن إليه، هذا الشوق الذي لا يشفي غليله العودة الى المكان والاطلالة عليه كل يوم، فيبقى المرء يسعى ويطوف في المكان غير مصدق حقيقة وجوده فيه، فهو يخشى لوعة فراق جديد قد يلوح مصادفة. هذا الشوق الذي أصاب الكاتب محمود شقير وهذه اللوعة بفراق القدس طيلة ثمانية عشرة عامًا بعد الحكم عليه بالنفي من قبل سلطات الاحتلال، يدفعانه للبحث عن المدينة والكتابة عنها أكثر فأكثر.

يطلّ علينا محمود شقير في إصداره الجديد "القدس مدينتي الأولى" ليحدثنا عن قصته مع المدينة، مقدمًا سيرته الذاتية موجهًا إياها الى فئة الفتيان والفتيات، بعد أن كتب سيرته أو قسمًا منها تحت عنوان "ظل آخر للمدينة" وصدرت عام 1998. هنا في هذا الاصدار نرى القدس تعود وتتربع على عرش كتابات محمود شقير الصادرة مؤخرًا، فقد صدرت يومياته بعنوان "مرايا البلاد"، وكتاب "قالت لنا القدس"، "فرس العائلة" رواية، وجميعها تدور أحداثها أو تتحدث عن القدس. وها نحن نقف اليوم أمام كتاب السيرة لهذا الكاتب الفلسطيني الكبير صاحب السيرة الغنية، الصادرة عن منشورات الزيزفونة 2014.

نلحظ في هذه السيرة أنّ الكاتب منح مساحة كبيرة لطفولته ومرحلة شبابه وبداية تفتح مداركه ومعارفه الثقافية، فهو يحدثنا عن دراسته في مدرسة الرشيدية وبداية لقائه بالمدينة، وتعرفه على مراكزها الثقافية، يذكر السينما في فصل "أنا والسينما" ومتابعاته لأفلام كثيرة واهتمامه بها، وتحت فصل "أنا والكتب" يُطلعنا على الفترة التي بدأ فيها يهتم بالمطالعة وهي في مرحلة الثانوية، ويحدثنا عن ادّخاره وشرائه للكتب، وكتابته للقصص الأولى والنشر في صحيفة الأفق الجديد والنفس الطويل الذي تمتع به والصبر حتى نشرت له الصحيفة القصة الأولى. والكاتب يرمي من خلال هذه الأحداث دفع القارئ الشاب للاهتمام بالأجواء الثقافية حوله، وتطوير مواهبه وعدم الرضوخ أو اليأس، ونرى انّه بنى نفسه وتقدم باستحقاقه الذاتي دون مساعدة أحد.

حاول الكاتب من خلال هذه المرحلة وذكر مشاكساته أيضًا التقرب من نفسية الناشئ وأخذه الى جانبه وهذا توجه مهم وذكي من قبله.

لكن بتوجيه محمود شقير سيرته الى فئة معينة اختصر الكثير ورأينا قفزات مهمة ما بين مرحلة وأخرى، فأمر زواجه وأطفال لم نعرفه الا صدفة بعد نفيه من فلسطين.. كذلك نشهد قفزة زمنية عند مرحلة النفي بذكر مشاركته في مؤتمر في هلسنكي ص 72، ليترك 18 عامًا من المنفى معلقة ضبابية في ذاكرة القارئ.. يعود محمود الى فلسطين الى القدس.. يصرّ على اصطحاب القارئ واستعادة ذاكرته في المكان برفقته من خلال جولة في المدينة. ويعود ليبعث بعض النور على مرحلة المنفى والتي تشكل ربع عمره تقريبا عبر الذكريات، وتعاوده ذكريات أخرى ما قبل النفي.

الفصل الذي جعلني أقف مستغربة جدًا أمام شخصية محمود شقير التي أعرفها منذ سنوات عديدة هو فصل "أختي أمينة" ص28، فقد رأيتُ شخصيته في الفصل تختلف كثيرًا عن شخصية محمود شقير التي أعرف. تفاجأت من رفضه بأن تتلقى شقيقته الدراسة الثانوية، خاصة أنّه هو الشاب الذي توسعت آفاقه ومداركه ولم يعد عالمه محصور بعالم قريته أو قبيلته، فها هو يطالع روايات عربية وعالمية ويشاهد السينما ويستمع للمذياع ويختلط بالمجتمع المدني، إلا أنّه ورغم ذلك جاء رافضًا لاستكمال شقيقته الدراسة واستعد جيدًا ليخيب أمل مدرساتها.

في الواقع كانت ردة فعلي على هذا الفصل كتابة علامة تعجب على صفحته. إذ حتى لو كان رأي الكاتب بهذا الشكل آنذاك إلا أنّه يوجه سيرته لفئة معينة، وهذه الرواية يقف من خلفها هدف تربوي، ولم يحاول الكاتب في هذا الفصل أن يقدم تبريرًا لسبب رفضه لدراسة شقيقته، على الأقل لأجل القارئ الناشئ ولكي لا يدفعه لتبني هذا الرأي، بل ختمه بعبارة جافة "قلنا لها: تكفيك مدرسة القرية الابتدائية". ربما وبسبب تأنيب الضمير الذي داخل محمود بعد سنوات حين وافت شقيقته المنية بعد الإنجاب، أراد ان يذكر حقيقة ما جرى دون تغيير أو تبرير ما، ربما سيرضى بغضب القارئ عليه واستغرابه كجزء من التأنيب الذاتي، وربما لم يصل الى مصالحة داخلية بعد فاختار أن يذكر الحقيقة دون اضافات.

أثار انتباهي أيضًا محاولة الكاتب عدم التشديد أو الذكر التام لوسائل التعذيب وما لاقاه في السجن من مرار، حماية لنفسية الناشئ. باستثناء فصل "أختي أمينة" أرى أنّ هذا الكتاب يحمل هدفًا تربويًا ويلائم الفئة التي وُجه اليها.
لغة السيرة قوية وسلسة ومفهومة للفئة الموجهة اليها، تمَ تقسيمها الى فصول وجاء هذا التقسيم صائبًا في الانتقال ما بين المراحل والمشاهد.

أخيرًا استمتعتُ كثيرًا بقراءة سيرة هذا الكاتب الفلسطيني الكبير، صاحب القلب الكبير الطيب والذي لا يمكن لمن يعرفه إلا أن يشعر اتجاهه بالحب والاحترام الشديدين، سيرته التي سمعتُ بعض أجزائها منه، خلال لقاءات وأمسيات جمعتنا، جعلتني بعد قراءتها أشعر بقرب أكبر من عالمه، ولكنني أنتظر أن أراها مقدمة الى القارئ بتفاصيل أغنى موجهة الى الفئة العمرية البالغة، لننهل أكثر من تجربة محمود شقير الغنية.

نسب أديب حسين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى