الجمعة ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
بقلم فيصل سليم التلاوي

جارنا الأنيق...

كان أكثر ما يلفت النظر في جارنا «محفوظ» أناقته الزائدة، و محاولته الظهور بمظهر الشباب، مع أنه ليس في مقتبل العمر، بل تخطى منتصفه، يشهد على ذلك هذا الحشد الكبير من البنين والبنات الذين تمتليء بهم شقته المقابلة لنا في نفس الطابق، وهم من مختلف الأعمار. فيهم من تلحظه يحبو على أربع محاولا الانفلات والخروج كلما فُتح باب الشقة، وفيهم من تدل هيئته ونوعية الكتب التي يحملها، أنه قد خطا خطواته الأولى نحو الجامعة، وبين هذا و ذاك حشد ما أحصيت لهم عدا.

كان حريصا على موعد خروجه وعودته بدقة متناهية. في السابعة صباحا بالضبط ينفرج باب الشقة المقابلة، كأنما يضبط نفسه على ساعة «بيج بن»، وإذا ما خرجت في نفس اللحظة مصادفة أو متعمدا، فستقابل السيد " محفوظ " وجها لوجه، بطوله الفارع وبدلته الرمادية أو السوداء المقلمة أو البنية الداكنة. إن له ذوقا رفيعا في لبسه، يحسن اختيار الألوان القاتمة والوقورة التي تناسب الكهول من أمثاله. قميصه الأبيض الناصع، وربطة عنقه الأنيقة التي اختيرت بعناية لتتناسب مع لون البدلة، وهيئة ياقة المعطف عن يمينها و يسارها. فالربطة عريضة إن كانت ياقة المعطف عريضة خلفت وراءها مساحة واسعة مكشوفة من الصدر، والربطة دقيقة قليلة العرض إن كانت ياقة المعطف ضيقة، أو كان من النوع الذي له صفان من الأزرار. و في كلتا الحالتين لا يغادر ذلك الدبوس الذهبي موقعه عند منتصف الربطة أو أعلى من ذلك بقليل. ذقنه الحليقة لساعتها، شارباه الأسودان وقد قصا بعناية فائقة، كأنه يمر عليهما بمقصه كل صباح فيشذب ما طال أو نفر منهما. سنه الذهبية التي تلمع عندما يرد عليك تحية الصباح أو المساء .

كان وجهه الطويل مائلا إلى النحافة، ليتناسب مع رشاقة بدنه التي يحتفظ بها رغم تقدم العمر به، بما يوحي أنه كان رياضيا في شبابه. وكان شعره لا يزال غزيرا أسود لم يغزه الشيب بعد، أو أنه كان يحرص على صبغه فلا يبدو منه إلا سواده الفاحم . لقد صفف هذا الشعر بعناية فائقة، أحسن اختيار موضع مفرقه. ثلث شعره ينسدل على يمين رأسه مع ميلة خفيفة نحو الخلف، وثلثاه يتجه صوب اليسار، مع بروز لخصلة من الشعر في مقدمة الرأس على هيئة قوس، رتبت باهتمام زائد وتدلت منها بعض شعرات على ميسرة جبهته، تذكر السيد محفوظ بشبابه الذي لا يريد أن ينساه أو يعترف بأنه قد تجاوزه منذ أمد بعيد .

حذاؤه الأسود اللامع المدبب عند مقدمته، إنها أناقة كاملة من القمة إلى القاعدة. كانت حقيبة يده الدبلوماسية الفاخرة السوداء تكمل المشهد، وتضع اللمسة الأخيرة على هذا العرض الشائق للأناقة، وكنت إذا تقايلنا وجها لوجه أبدأ جارنا بتحية الصباح، فهو أكبر مني سنا، ثم أفسح له الطريق بعد أن أملأ ناظري من هذه الأناقة وهذا الوقار.أتركه يسبقني في نزول الدرج .

لولا أنني لم ألحظ في يوم من الأيام الكثيرة التي متعت عيني فيها بمتابعة السيد محفوظ عند مغادرته سيارة سوداء فارهة في انتظاره عند مدخل العمارة، لجزمت بأنه دبلوماسي مرموق. لكنني مع عدم وجود السيارة المنتظرة، رجحت أنه محام جهبذ يسارع مع أنفاس الصباح الأولى إلى مكتبه في إحدى البنايات الشاهقة المصطفة حول الميدان الرئيسي بوسط العاصمة. يراجع أوراقا أعدتها له سكرتيرة
دؤوب بهية الطلعة، رتبتها له ترتيبا دقيقا يتناسب مع هذا التناسق البادي على هيئته، فيلقي عليها النظرة الأخيرة استعدادا لمرافعة اليوم .

كان مشهد السيد محفوظ - وأنا ألاحظه كل صباح - وهو يسير بخطى واثقة سريعة، وقد أطبقت يمناه على مقبـض حقيبته، فركنت إلى جانبه بثبات واطمئنان. أراه طويل القامة، يشق الزحام ويبتعد عن ناظري، حتى لا يبدو منه سوى رأسه، مثل سارية سفينة تمخر عباب الموج حتى يغيبه منعطف الشارع عن عيني .

كان هذا المشهد الصباحي واحدا من المعالم الرئيسية التي أبدا بها يومي، إلى جانب زرافات الأطفال من الفتيان و الفتيات وقد توجهوا لمدارسهم القريبة سيرا على الأقدام، وجموع العمال المحتشدين في موقف الحافلات القريب، و التي تمر مكتظة بركابها في بداية النهار، إلى جانب الصبايا الأنيقات وقد توجهن إلى أعمالهن المكتبية والإدارية على مهل .
ما كنت أحرص على لقاء جارنا محفوظ، وتأمل طلعته وهيئته عند عودته في المساء، لأن ذلك لم يكن يتوافق مع عودتي المبكرة في الثانية بعد الظهر، وفي المرات القليلة التي قابلته فيها مصادفة أثناء عودته مساء، كانت الساعة تشير إلى السابعة مساء. إنه يعود في مثل موعد خروجه، يغيب اثنتي عشرة ساعة كاملة.

تمعن النظر في هيئته، فتطالعك نفس الأناقة التي ودعتها فيه صباحا عندما غاب عن عينيك عند منعطف الشارع . نفس تسريحة الشعر واصطفافه، ما يزال مبتلا لامعا لم تجففه حرارة الشمس وكأنه قد سُرّح لتوه. بريق حذائه ولمعانه لم يخب منهما شيء، ولم يعلق به من غبار الشارع أثر . يا لهذه الأناقة الساحرة الدائمة!

مضت شهور و أنا أبدأ نهاري فيها على هذا المنظر المألوف الذي اعتدته كل صباح . لا أعرف عن جارنا إلا طلعته المهيبة وهندامه الأنيق، وغدوه و رواحه في موعد لا يتقدم عنه ولا يتأخر. ما تبادلت معه الحديث يوما، وما كان بيننا أكثر من التحية العابرة المقتضبة إذا التقينا وجها لوجه عند باب الشقة .

ذات يوم عاد زميلي أحمد، الذي يشاركني السكن من عمله، وقد بدت علامات الدهشة والحيرة على محياه. لم يكن طبيعيا بشوشا مرحا كما أعهده، و لا سأل عن غدائنا لهذا اليوم كعادته. جلس صاحبي واجما كأن على رأسه الطير، ثبت مرفقيه على طاولة أمامه، وأسند رأسه بكلتا يديه، وراح في ذهول عميق .

راعني منظره، وحدثت نفسي:

 لا شك أن طامة كبرى قد حلت به، فسألته متلهفا :

 ما بك يا أحمد ؟ هل أنت مريض ؟

لم يرفع صديقي رأسه ولم يفق من ذهوله، ولم ينبس ببنت شفة. كان يوميء لي برأسه بالنفي كلما سألته عن شيء .
أحضرت له كوب ماء وجلسـت بجانبه أنتظر ريثما يلتقط أنفاسه، ولم أعد ألح عليه في السؤال. تركته حتى يبدأ الكلام بنفسه، فهو لن يطيق صبرا على الصمت إلا ريثما تتجمع لديه الكلمات، ويلتقط طرف الخيط، ولم يخيب صاحبي ظني، فما هي إلا لحظات حتى نطق قائلا :

 اسمعني جيدا، هل تعرف شخصا فيه العلامات البدنية الثـلاث التالية:

أولاها: اعوجاج في خنصر يده اليمنى مــن أثر ضربة أو كسر قديم، يجعله ناتئا عن مستوى باقي أصابعه إن مد يده .
وثانيتهما: علامة على يمين جبهته عند مقدمة مفرق شعره من أثر جرح قديم على هيئة هلال طرفاه يتجهان إلى أعلى .
وثالثتهما : ثألول أحمر دقيق في مَأق عينه اليمنى.

وكرر صديقي سؤاله :

 هل تعرف شخصا يحمل هذه العلامات الثلاث مجتمعة؟

 هل مات و تريدون التعرف عليه ؟

 لم يصب بسوء أبدا، هل تعرفت عليه ؟

أطرقت قليلا محاولا تذكر معارفي، وما قد يحملونه من علامات فارقة، ولما لم أتذكر أحدا بهذه العلامات أجبته:
 لا ، لا أعرف أحدا بهذه العلامات. وهل كل هذا الهم الذي تحمله، وهذا التجهم البادي على وجهك سببه هذه العلامات؟ ما أهمية ذلك بالنسبة لك ؟

قال صاحبي :

 لا تأخذ الأمر بسخرية. إنه في غاية الجد و سأعلمك به عندما تنفذ ما أطلبه منك .

قلت :

 هات ما عندك .

 عليك أن تذهب بعد تناول غدائك إلى الطرف الغربي من المدينة. سأصف لك الشارع ورقم الحافلة التي توصلك إلى هناك، وأصف لك سبيل الوصول إلى مقهى الاستقلال. إنه مقهى فخم يتكون من طابقين، يتربع على ناصية الشارع، وقد احتل جزءا واسعا من رصيفه العريض على طريقة المقاهي الباريسية. ستجلس على واحدة من الطاولات القابعة على الرصيف، تتأمل وجوه المارة، و تطالع صحف اليوم كلها، فهذه خدمة إضافية مجانية يقدمها هذا المقهى لزبائنه، ولا تغفل عن مهمتك الرئيسية التي أرسلتك من أجلها.

قلت :

 وما هي مهمتي الرئيسية؟ أنت لم تفصح عنها حتى الآن .

 تراقب ذلك المتسول الذي يجلس قبالة الباب الغربي للمقهى، لا تهمني أوصافه الظاهرية، فقد حفظتها عن ظهر قلب وأستطيع أن أسردها لك قبل ذهابك، لتتعرف عليه بسهولة ولتركز على غيرها. ساقاه مشلولتان يجرهما جرا ولذلك لا يتحرك إلا زاحفا على يديه ورجليه، سرواله الأسود البالي المرقع برقعتين حمراوين عند الركبتين، ورقعتين خضراوين على جانبي مؤخرته، قميصه الأبيض المقلم بالأزرق، والذي لم يعد التمييز بين اللونين سهلا لاستحالة بياضه إلى ظلمة داكنة. شعره الأشعث الأغبر الذي غلبه الشيب. كل هذه الأوصاف وغيرها الكثير من الملامح التنكرية أحفظها جيدا .
 أريدك أن تدقق في العلامات الثلاث التي ذكرتها لك سابقا، العلامات الطبيعية المميزة التي نسي إخفاءها. خنصر يده اليمنى، الجرح الهلالي على ميمنة جبهته، الحبة الحمراء في مأق عينه اليمنى .

 إنها سهلة، كلها في ميمنته، فلعله من أصحاب اليمين.

 بل لعله عكس ذلك، إنها عيوب ظاهرة في ميمنته، ولم نلحظ عيوبا في شماله، فشماله سليم، فلعله من أصحاب الشمال، والله أعلم .

 عندما تتأكد من وجود هذه العلامات الثلاث تعود إليّ، وسأخبرك من هو صاحبها.
قلت :

 وأنت يا صاحبي أما تأكدت من هذه العلامات وقد وصفت لي هيئته كاملة ؟

 لقد تأكدت منها، و لكنني لم أصدق ما رأيت، لقد كذبت عينيّ، وأريد شاهدا آخر يشهد معي على صدق ما رأيت.
شاقني حديث صاحبي، وأثار فضولي للتعرف على هذه الشخصية المهمة التي أثارت

اهتمام صديقي، وكدرت صفوه إلى هذا الحد. هذا المتسول اللغز الذي سأتعرف عليه بعد حين. لم أطق الانتظار لتناول الغداء في المنزل. عزمت على أن أتناول أي شيء يسد رمقي في الطريق، وخرجت ميمما وجهي صوب مقهى الاستقلال الذي وصفه لي صاحبي .

كانت حركة السير خفيفة سريعة قبيل العصر، فالناس قد عادوا إلى بيوتهم وخلدوا إلى قيلولة ما بعد الظهيرة. لن تعود الشوارع لتغص بالسيارات والمارة إلا بعد العصر. وصلت هدفي المنشود بسرعة قياسية . تعرفت على بغيتي فورا فهو من أبرز معالم هذا المقهى العريق. يجلس ملاصقا لركن الباب الغربي. نقدته بضعة قروش عربون تعارفنا الأول ليطمئن لجانبي، فلا يرتاب لنظراتي المتفحصة التي ستداهمه بعد قليل. جلست قبالته، تشاغلت بتصفح الجرائد اليومية، كان المقهى شبه خال وقت العصر، فلم يحل بيني وبينه حائل، وما استغرق الأمر مني سوى نظرة خاطفة واحدة، لمحت فيها خنصره المعوج، وعلامة الهلال على يمين جبهته، والثألول الأحمر في مَأق عينه اليمنى، فالهدف محدد سلفا ولا يحتاج إلى طول استكشاف .

انتهت مهمتي في لحظات، تأكدت يقينا من العلامات الثلاث، وقد وعدني أحمد أنه سيخبرني من يكون هذا الرجل إن أكدت له وجود العلامات الثلاث كما تأكد منها بأم عينيه. لكنني ما رغبت في العودة، غيّرت رأيي، وعزمت على أمر آخر. عزمت على البقاء هنا حتى أكتشف بنفسي بقية هذا اللغز، ولو انتظرت إلى ساعة متأخرة من الليل. سأتبعه من بعيد ودون أن يراني إلى أي مكان يذهب إليه. إن أحمد لم يُذهل هذا اليوم لأمر هيّن، ولا بد أن وراء ذلك سرا خطيرا، سأكتشفه بنفسي .
بعد العصر بدأ الشارع يزدحم بالمارة، والمقهى تعج بروادها، مما خفف عليّ من طول الانتظار. تشاغلت بتأمل زحام السابلة حينا، ومتابعة لاعبي الشطرنج والدومينو حينا آخر، لكنني ما غفلت طرفة عين عن هدفي المنشود، الجالس بجانب الباب الغربي للمقهى، وهو يومئ لداخلي المقهى وللمارة بإشارة من يده ورأسه، ويغمغم ببضع كلمات غير مفهومة مستجديا عطفهم وإحسانهم فينقدونه دراهمهم .

لقد أحسن اختيار الموقع. إنه مقهى فخم في شارع راقٍ يؤمه علية القوم وأثرياؤهم، وله من كل عابر سبيل أو داخل للمقهى نصيب.

عندما غادر مكانه زاحفا على أربع إلى دورة المياه المجاورة كانت الساعة تشير إلى السادسة والنصف. تبعته بحذر حتى لا يرتاب في أمري، ولمحته من بعيد يدخل واحدا من الحمامات الأربع المصطفة بجانب بعضها، ما إن اطمأننت إلى أنه قد أوصد الباب وراءه، حتى أسرعت وولجت الحمام المجاور للحمام الذي دخله، كتمت أنفاسي وأرهفت سمعي. اختلطت الأصوات في أذني، صوت حقيبة تنفتح ثم تنغلق عدة مرات، صوت فرشاة تلمع حذاء. ما سمعت صوت حنفية ماء ولا " سيفون "، ولا ما يدل على أن جاري قد استخدم الحمام لغرضه الأساسي الذي يدخله الناس من أجله .

مضت بضع دقائق على انتظاري وحبس أنفاسي، انفتح بعدها باب الحمام سريعا، تريثت لحظة لأعطيه مهلة للتحرك حتى لا نخرج سويا، وتقع العين على العين، فتحت الباب بعدها، وألقيت نظرة فاحصة شملت المكان كله، ويا لهول ما رأيت!

كان جاري الصباحي محفوظ يغادرعتبة الباب الخارجي لدورة المياه بقامته الممشوقة ، وبدلته السوداء المقلمة، وحذائه الأسود اللامع، وشعره المسرّح بعناية فائقة، وفي يده حقيبته الدبلوماسية السوداء، ومضى يذرع الشارع بهيبته وأناقته المعهودة، وأنا أتابعه في ذهول .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى