الأربعاء ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤

العمارة قالب الموسوعية «1»

لؤى الشامى

قيل عن الرواية أنها القالب الأدبي الوحيد الذي يستوعب الموسوعية، وهي ما لا يمكن لغيرها من القوالب استيعابه، ففي الرواية يجد الموسوعي مجالاً لبسط التاريخ حقائق وأراء والرحلة وصفاً وخواطر والجغرافيا إحصاءاً واستقراءاً وعلوم الاجتماع واقعاً وطموحاً وتنظيراً وألوان الفنون إبداعاً وتذوقاً ونقداً وغير ذلك ما شئت من الفنون والعلوم والآداب يضمنها الموسوعي جنبات روايته ما شاء كيفما أراد متميزاً عن أقرانه من أدباء القوالب الأدبية الأخرى بمساحة أرحب وأدوات أكثر عدداً وأمضى عدة، وقد تستساغ الرواية وتلقى القبول والرضا بأقل من الموسوعية من قراء يرتضون شكلاً وموضوعاً ولا يلقون بالاً لجوهر أو فلسفة أو رسالة.

وهكذا هي العمارة في مفهومها الأشمل الأعم، هي القالب الهندسي الفني الوحيد الذي يستوعب الموسوعية، بل لا يصح أن نمنح نسب العمارة لمنشأ أو مشروع إذا خلا من موسوعية أو لم يرق إلى أفقها أو على الأقل لم ينل شرف طلبها سواء أصابها أم لم يوفق.

أليست هذه بعض أسرار تقدير الناس كل الناس لعمارة سنان وحسن فتحي، محمد مكية ورفعة جادرجي، لوكوربوزييه وميس فان درووه، فوستر وبينش، وغير هؤلاء كثير.

إنها موسوعية الفكر والفن والعلم والفلسفة والاجتماع وعلوم الإنسان وفنونه.

على المعماري المتقاصر دون الموسوعية أن يبقى دائرا في فلك المهندسين المتخصصين لا أكثر، فيكون حينها مهندس مختص في العمارة لا معمارياً، والبون بينهما شاسع. فالمهندس المختص في الإنشاء لا يسعه الحديث فضلاً عن التوجيه فيما يخص الإضاءة أوالضوضاء التي قد تحدثها آلات تستخدم في منشأه ومشروعه، وليس لمهندس الكهرباء أن يجادل مهندس التشطيبات فيما يأتي وما يدع من أنواع الدهان والزجاج أو حتى الأرضيات، وليس لمهندس الميكانيك أن ينظر فيما قرر زميله الإنشائي من عمق الأساسات أو قدر التسليح أو بحور العناصر الإنشائية اللازمة لقيام المنشأ وسلامتة. أما المعماري فيلزمه ذلك كله وقبله ومعه وبعده الكثير والكثير من شتى العلوم والفنون مما قد يستعصى على الحد ويربو على الوصف.

المعماري الحق يجمع إذاً رؤية وفكراً، فلسفة ونظراً، علماً وفناً، لتختمر جميعها في رأسه الموسوعي فتخرج للناس أجمل وأبدع ما يجدون من عمارة، تحقق الوظيفة على أكمل ما يكون، وتمنح الراحة على أتم ما يمكن، وتوفر المتانة والاطمئنان والجمال في آن، وتشيع البهجة والاستمتاع، وتزرع الفخر وحس التمايز في نفس مستخدمها وصاحبها ومرتادها على سواء.

المعماري يبذل من نفسه ووقته وجهده ما يناسب هذه الرسالة السامية بعد أن يؤمن بنفسه وبها. فلا عمارة بلا وظيفة مدروسة، ولا عمارة بلا جمال موزون، ولا عمارة بلا اقتصاد محكم، ولا عمارة بلا فكرة فلسفية، ولا عمارة بلا رمزية، ولا عمارة بلا رسالة مجتمعية، ولا عمارة بلا إيجابية بيئية...

العمارة باختصار هي قالب الموسوعية بل هي الموسوعية في صورتها المادية.

لؤى الشامى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى