الخميس ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم أحمد الاشقر

تدمير العلاقات بين الرجال والنساء

صورة المرأة والرجل في أغاني الفيديو كليب

مارغو حدّاد

بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون

174 صفحة، 2010

تعتبر العلاقات بين الرجال والنساء حقلاً من حقول الصراع الذي تخوضه الطبقات والبنى الفكرية المختلفة. تهدف من خلالها إلى تشكيل فضاءات تتحكم عبرها طبقة وفكر معيّن بالأخرى بدءاً من نوعية العلاقة الجنسية وانتهاءاً بالمكانة الاجتماعية- السياسية لكلا الجنسين اللذين هما "نوع واحد في الغاية الانسانية" بحسب ابن رشد (1126- 1198). وبما أن الجنس يعتبر العلاقة الأهم بين الرجل والمرأة، فإنه من الممكن توظيفه في البناء من خلال المتعة والإنجاب، والهدم من خلال تحويله إلى طاقة للإحباط والأوهام المختلفة.

وظفت المؤسسات الجنس- على مرّ التاريخ ابتداء من الخرافات مروراً بالأديان وانتهاء بأنظمة الحكم المعاصرة- كأداة ضبط وتحكم اجتماعيين من خلال ما هو مسموح وممنوع أو حلال وحرام. وبرعت الرأسمالية في تحويل الجنس إلى سلعة يمكن بيعها وشرائها بأسعار حقيقية لكن كـ"بضاعة"- وَهْم، واستخدمتها أيضا كأداة لقمع طاقات المجتمع.

يشخص الطبيب النفسي والمنظر السياسي الثوري، وليام رايخ (1897- 1957) أو فيلهم رايش كما يرد الاسم في بعض المراجع، سرّ موقف الرأسمالية في النظام المعاصر، من الجنس والتنظير له بالقول: إن النظام الرأسمالي يحوّل الجنس، الذي هو طاقة بناء حيوية وخلاقة، إلى جهاز قمع وكبت ينتج الإثم لدى الجماهير، أبناء الشبيبة خاصة، كي يبقيهم أسرى الاضطرابات النفسية والهلوسات، ينمي فيهم "الإثم والتنفير [...] ويغذي الأوهام والأساطير [...] ينمي مركزية الذات، ويشل قدرتهم العقلية ونشاطهم الاجتماعي [...] يبلدهم". فالطاقة إن لم تقم بعملية البناء- فإنها تقوم بعملية الهدم.

نشرت مواقع عديدة على الإنترنت صوراً لمغنية فيديو كليب لبنانية مشهورة لكنها متواضع جدا فنيّا، تدعى دانا، تلبس لباسا شبيها بالـBaby doll (قميص نوم شفاف)، وكان الذي حيّر القراء- كما يبدو من تعليقاتهم على الخبر المنشور إلكترونياً- سؤالاً هاماً- بالنسبة للذين أعدوها وللمشاهدين معا- ألا وهو: هل كانت دانا تلبس ملابس داخلية أم لا؟ لذا تفنن المعلقون رجالا ونساء بتعليقات حول الموضوع "من الزنار وتحت"، كما نقول بالعامية. ويبدو أن أصحاب ومحرري تلك المواقع فهموا الرسالة من الصور فأطلقوا العنان للمعلقين والمعلقات. وكانت دانا نفسها قد غنت أغنية بورنوغرافية إلا أنها نفت أن تكون هي علما أن الصوت صوتها وحدها فقط، كما تذكر بعضاً من هذه المواقع.

يمكن القول أن طاقماً من المهنيين المحترفين- الذين يعرفون وظيفتهم ويعونها بدقة متناهية- يقفون وراء صور دانا (والفضائح التي تطال أمثالها من غلمان وعوالم وأشباه الفنانين). فهذا الطاقم مؤلف من عشرات المنظرين السياسيين والسيكولوجيين ومصممي الأزياء والمصورين والمخرجين وناشري الصور الذين يدركون سلفاً ردة الفعل المتوقعة على نشر هذه الصور، وهم أساساً من نَظّروا لها وخططوا لإنتاجها وتسويقها باستخدام بعد جنسي واضح: هل كانت دانا تلبس ملابس داخلية أم لا؟ والطاقم نفسه، لكن بوجوه مختلفة، هو من يقف وراء أخبار فضائح الغلمان والعوالم الذين يدعون زوراً بالفنانين والفنانات. فهو الذي يخطط موعد سقوط فستان "الفنانة" فلانة أو تعرّق ما تحت إبطيها أو متى تلبس ريشًا (كما هو حال أحلام الإماراتية التي بخلت عليها الطبيعة بمسحة معقولة من الجمال وأغدق عليها فظاظة منقطعة النظير وبعلا- ليس زوجا- فاحش الثراء على النمط الخليجي) أو تصويرها في الحمّام وهي عارية ويعرض الصور في وسائل الإعلام المختلفة وكأنها سُرقت من حاسوبها الشخصي، كما بدأ يحدث مع بعض نجمات "هوليوود" مؤخرا. إنها طريقة تسويق تعتمد على الغريزة الجنسية التي تم تسليعها. ومن ثم يتم التنظير والتخطيط لها وإعدادها ونشرها من خلال وعي مُسبق بأهمية الجنس في حياة الناس. وبما أن الكثير من الشباب والشابات تفتقده كعلاقة للمتعة الحقيقية لذاتها، فإنها تستهلكه كفضائح وعلاقات شاذة وغير سويّة ترهقهم نفسيا وعاطفيا وماديا.

تقول مؤلفة الكتاب الذي بين أيدينا: "أنه كلما كان إعلان "الفيديو كليب" يتضمن إيحاءات جنسية، غدت السلعة أكثر رواجاً وبيعاً، ومن ثم أكثر ربحا" (ص 15). وتُفرد الكاتبة حيّزا جيّدا عن الفيديو كليب كمشروع اقتصادي تحت عنوان: "الفيديو كليب واقتصاد السوق" (ص 97- 107)، قائلة: "وهكذا تجد البشرية نفسها وجها لوجه أمام ثقافة مرجعيتها مصلحة السوق بدل الأخلاق أو حتى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان" (ص 98). وتتحدث عن خطورته الفعلية قائلة: "والخطورة في بعض أغاني ’الفيديو كليب’ تكمن في تغريب المجتمع العربي، وتغييب شبابه عن هويته العربية [...] مما يعرّض الشباب لمخاطر نفسية وصحيّة سواء عند المراهقين أو الشباب [...]" (ص 103). أي أنها عادت لتؤكد ما قاله وليام رايخ قبل ثمانية عقود: الهدف هو شلّ وعي المراهقين والشباب، لصالح من يُنتج هذه المؤثرات.

اختارت الكاتبة 50 أغنية عشوائية مناصفة لمغني ومغنيات فيديو الكليب من خمس محطات فضائية مختلفة (ص 13). بهذا تكون الكاتبة قد التزمت بمنهج البحث العلمي. وبقدر ما تهمنا هذه العيّنة، فإنها لا تهمنا أيضاً، لأنه ومن خلال مشاهدة وسماع هذه الفيديو كليبات بأعين وآذان الإنسان المتزن والحصيف: رجل وامرأة، يمكن القول بأن نتائج بحثها تنطبق على الكثير غيرها من أغاني فيديو الكليب المماثلة، لأن المُنتج واحد: النظام الرأسمالي كما أشار إلى أهدافه رايخ، والربح كما أشارت الكاتبة.

وحددت مؤلفة الكتاب ستة أهداف لبحثها:
وصف صورة المرأة وتحليل الأغاني؛
وصف صورة الرجل؛
تحليل الصورة واللغة والرموز الخاصة بصورة ودور المرأة؛
معرفة إن كانت صورة الرجل نمطية أم متوازنة؛
معرفة العلاقة بين الاثنين من خلال تحليل الأغاني؛
التعرف على طبيعة الخطاب الذكوري والأنثوي في الأغاني (ص 18- 19).

توصلت الكاتبة إلى نتائج جديرة بالبحث والنقاش المتجدد في المستويات الأنثروبولوجية والسيكولوجية والسياسية، من أجل معرفة تأثير مخاطر الفيديو كليب ليس على علاقات الرجال بالنساء، بل على المجتمع وحياته السياسية. لأن كل الفضائيات التي تنشر مثل هذه المؤثرات (الفيديو كليبات) تعمل بوعي وقرار سياسيين مع سبق الإصرار، خاصة أن أصحاب هذا المشروع والفضائيات يتناسلون من عباءات ريع النفط، الذي هو حقّ شرعي من حقوق كل فرد من أفراد الأمّة. ويمكن تلخيص نتائج البحث بالآتي:
1- تستند الأغاني إلى العلاقات العاطفية كموضوع مركزي لها، وتهمل المواضيع التراثية والاجتماعية والقومية الأخرى. وتدعم الصورة السلبية للنساء "أكثر من الإيجابية" بينما تقدم الصورة الإيجابية النمطية عن الرجال. وتركز أيضاً على الأدوار الوهمية للرجال والنساء: عُشاق وعاشقات، والمرأة الموديل أكثر من الرجل الموديل، والاعتماد على جسد المرأة فقط (ص 110- 118). يمكن القول أن هذه العلاقات يغلب عليها الطابع الاستحواذي من قبل طرف فيها. وهي بالتالي ليست علاقات سويّة.
2- التركيز على الدلالات الجنسية للمرأة: ملابس قصيرة حمراء وشموع ومناطق الإثارة المختلفة "[...] المرأة وسيلة الإثارة والمتعة" (ص 119- 122). وهذا ينطبق على ما شرحناه أعلاه بالاعتماد على دراسة رايخ حول تسليع الجنس وتغذية الوهم.
3- تعمل الفيديو كليبات على عرض النساء من خلال صور مصنعة بتقنيات أجهزة الحواسيب وفقاً للملامح الغربية أكثر من الشرقية. أما الرجال فوفقا للملامح الشرقية (ص 123- 124). بما يذكرنا بموسم الهجرة إلى الشمال (1971) للأديب الطيب صالح (1929- 2009).
4- تعمل على عرض الفئات العمرية الشبابية دون كبار السنّ. والتركيز على العلاقات العاطفية بين الجنسين. فتعمد إلى تصوير الفيديوكليبات في غرف النوم بدرجة أولى وبعد ذلك في بقية المنزل والنوادي الليلة. لذا يتم تصوير المرأة بملابس مغرية مع التركيز على مناطق الإغراء في جسدها. أما الرجل فملابسه عصرية. وكذلك تعمد إلى تصوير أدائها الغنائي بإيحاءات ومشاعر جنسية، بينما تركز على المشاعر الحسية في تقديمها للرجل (ص 124- 131). وتسهم المؤثرات الأخرى في عملية صناعة المرأة والرجل عبر الفيديو كليب بتفريغ العلاقات العاطفية من مضمونها السامي والبنّاء في الحياة الاجتماعية. ويُستخدم الشبيبة لأن ميولهم الاستهلاكية أعلى من الفئات الأخرى.
5- تعتبر كلمات الأغاني ركيكة. وعند تحليلها يتضح ما يلي: المرأة خائنة، وسهلة المنال، ولعوب ومستهترة ومقهورة في علاقتها مع الرجل، ولا يمكن الاستغناء عنها، وأحيانا مكانتها عالية عند الرجل (133- 140). هذا الوصف يؤدي إلى اضطراب في العلاقات بين الرجل والنساء، لأن تعميم هذه الصفات يعتبر استدخالا لصفات غير موجودة في المعدل العام على أرض الواقع.
7- تعتبر الكاتبة أن التعبير عن الهوية الجنسية المثلية أمراً إيجابياً (ص 146- 147). دون أن تدرك حجم المعاناة التي يعانيها المثليين، ليس في المجتمعات العربية فحسب، بل في المجتمعات الأوروبية. فالمثلية ليست خياراً، بل اضطرابا في التنشئة النفسية (بحسب ثيودور رايك في "الدافع الجنسي"). والتغني بالظاهرة على الملأ في أغاني الفيديو كليب لا يعني أنها أصبحت ايجابية بل لبلبلة فئات من الفتيان لم تتطور هويتهم الجنسية بعد.

إن عرض الرجال والنساء (أفراد المجتمع ككل) وعلاقتهما ببعض على هذه الصورة، يتجاوز العلاقات التقليدية (التي كان فيها الكثير من المنطق الملائم لنمط حياة مجتمعاتنا) ويدمرها، لينشئ على أنقاضها علاقات لا تنسجم مع الواقع المعاش، أو علاقات وهمية. هذا الأمر يؤدي إلى إنتاج جيل من الرجال والنساء (مجتمع) يستقوي كل طرف منهما على الآخر بالصفات الوهمية التي ضختها فيه الفيديو كليبات، المرأة بجمالها وإغوائها والرجل بماله ورصانته، وهذا الاستقواء يسهم في تدمير العلاقات المجتمعية. لذا ليس غريباً أن تزداد الجرائم التي تتم على خلفية هذا التدمير والاضطراب في العلاقات بين الرجال والنساء. مثل جرائم الاغتصاب وسفاح المحارم والإعتداء على الأطفال. فبعض الفيديو كليبات تبثّ مشاهد تحمل إيحاءات رغبة جنسية بيدوفيلية (رغبة بممارسة الجنس مع الأطفال). ويمكن كذلك البحث في قضايا الطلاق والتفكك الأسري بأثر هذه الصناعة. فقد بات الطلاق يعصف بالمجتمعات العربية، وتجاوزت نسبة الطلاق في إمارة مثل الكويت الـ51% وباتت الأعلى في العالم، علما أن الكويت وأخواتها في الدول القُطرية العربية هي دول (مثلا، لا يزال مئات الآلاف من سكانها "بدون" أي لا يحملون جنسيتها ولا أي جنسية أخرى) ولم تمرّ في مرحلة برجوازية حقيقية ولا ليبرالية تولي اهتماما بالغا للفرد على حساب العائلة. بكلمات أخرى، بث ثقافة كالتي يتم تمريرها عبر الفيديو كليب تسهم في تدمير المجتمعات العربية لتُنتج أفراداً مضطربي السلوك في على كل المستويات.

بما أننا ندرك أن الإنتشار الكبير لأغاني الفيديو كليبات لا يمكن أن يأتي من فراغ، بل من قرار سياسي واعٍ من النظام الحاكم، يهدف إلى تغريب أبناء الأمة وشبيبتها تحديدا وتبديد طاقاتها، خوفا من تنامي وعيهم على واقعهم البائس والسعي إلى ضرورة خوض معركة التحرر القومي الديموقراطي وتقويض هذه الأنظمة. لهذا تصبح الحاجة ملحة هنا لفهم تأثيرات هذه الوسائل التي تقدم على أنها "فن" ويتم توظيفها لتحقيق أغراض سياسية كي تتمكن القوى الحيّة في الأمة العربية من مقاومتها. وتصبح الحاجة إلى مؤسسات تربوية وطنية تقاوم التدمير وتقدم الذين يسوّقون لممارسة الجنس مع الأطفال إلى القضاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى