الاثنين ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم فيصل سليم التلاوي

الرَصَد...

كان الشيخ علي عائدا من المدينة التي تأخر فيها إلي ما بعد الغروب. لقد أمضى يومه متنقلا من مكان إلى آخر لقضاء حاجاته، وحاجات الناس التي أوصوه عليها. لقد هدَّهُ التعب و الإعياء، و ها هو يكمل مشواره عائدا إلى قريته مشيا على قدميه، يصعد جبلا ويهبط واديا في طريق ترابي وعر، يضيق أحيانا فلا يتسع إلا لمرور شخص واحد، بينما تلتف على جانبيه الشجيرات والنباتات الشوكية الجافة في أواخر الصيف، فتزيده خشخشة أوراقها اليابسة رهبة ووحشة، في ليلة لفَّ فيها

الظلام الكون بعباءته الداكنة.

ظل الشيخ علي يواصل صعوده وقد اقترب من قمة رأس "المُهَلِّل"، الذي يبدو أن تسميته قد جاءت من مشقة صعوده، حتى أن من يصل إلى قمته يحمد الله ويذكره ويهلل، لأن الله قد أعانه على اجتياز هذه العقبة الكأداء.

لم يجلس ليلتقط أنفاسه عند القمة، مثلما يفعل سائر العابرين لهذا الطريق نهارًا. فهو يريد أن يكمل مسيرته نحو القرية، التي بدت له من بعيد ارتعاشات أنوارها الخافتة، الصادرة عن مصابيح الكاز الواهنة.

صحيح أن الطريق بعد الآن يأخذ في الانحدار، لكنه موحش قابض للنفس، وهو يتلوى عبر غابة متشابكة من أشجار الزيتون القديمة التي تغطي السفح كله، إلي جانب ظلمة الليل الحالكة، التي تجعله لا يأمن الوحوش الضارية، أو الأشباح التي قد تعترض طريقه في أية لحظة، ولهذا تجده يشجع نفسه كأنما يحدثها، فيتنحنح أحيانا بصوت مرتفع، أو يحاول ترديد كلمات متقطعة من أية أغنية شعبية تسعفه بها ذاكرته المضطربة، وبصوت مسموع عند كل منحنى مُبهم للطريق، أو عندما تزداد كثافة الأشجار من حوله.

وبينما راح الطريق يزداد ضيقا، والظلمة تزداد سوادا، حتى أن الشيخ علي ليجد صعوبة في تحديد موضع قدميه، انتصبت أمامه فجأة وقطعت عليه الطريق دابة بيضاء اللون…

وصمتت خالتي أم منصور لحظة، ريثما تتناول كوبا من الماء من الجرة التي تقبع في ركن الغرفة.
وهتفنا نحن الخمسة متلهفين :

 وماذا بعد يا خالة أم منصور؟

 كانت تسد طريقه تمامًا. بحيث لا يمكنه أن يتحاشاها ويواصل سيره. ورغم ما اعتراه من الفزع والرعب في لحظة المفاجأة الأولى، إلا أن ذلك كله تبدد عندما لم يجد الدابة سوى حمار أبيض قصير القامة، تنغرز قوائمه الأربع في الأرض، وتشرئب أذناه المنصتتان لكل نأمة في سكون هذا الليل.

مد الشيخ علي يده إلى رقبة الحمار متحسسًا، يريد أن يتيقن أن ما يراه أمامه حقيقة وليس وهمًا.
ركن الحمار ولم يحرك ساكنا، و اطمأنت يد الشيخ، فانتقلت في تفحصها من الرقبة إلى الظهر. ولما لم يبد الحمار اعتراضًا، تنفس الشيخ الصعداء وقال:

 هذا مركوب ساقه الله إليك، لتنتهي من هذه المسيرة المرعبة على خير.

وبينما كانت يمناه تقبض على رقبة الحمار، كانت رجله اليسرى ترتفع عاليًا ليستقر بجسده على ظهره، وينهره فيسير الحمار قدمًا في طريقه نحو القرية.

لم يسر الحمار سوى خطوات معدودة، حتى لاحظ الشيخ علي أن قدميه ترتفعان عن الأرض، وكانتا في بداية ركوبه تلامسان الأرض أحيانا.

بينما ازدادت خطوات الحمار قُدُما، ازدادت قدَما الشيخ بعدًا عن الأرض، وازداد ظهر الحمار علوًا فعلوًا، حتى وجد نفسه يعلو كثيرًا فوق أشجار الزيتون، ولا يكاد يبصر شيئا على الأرض.
ارتجف الشيخ من شدة الرعب، ولم يدر أي شيطان أو جان هذا الذي يحمله على ظهره. وإلى أين يمضي به، ومن أي علو سيطوّح به.

حاول جاهدًا أن يصرخ، وأن يتوسل لهذا المارد الذي يذهب به مُصعدًا في عنان السماء، حاول أن يتذكر شيئا من القران الكريم :المعوذتين، أو آية الكرسي، لعل الكرب الذي هو فيه ينجلي، لكنه ما تذكر شيئا، ولا نبس ببنت شفه.
 هل مات الحج علي يا خالة أم منصور؟

 لا، لم يمت، لقد وجده أول الذاهبين إلى المدينة فجر اليوم التالي ملقًى على قارعة الطريق، وقد استحال شعره الذي كان في مثل سواد الغراب إلى مثل بياض القطن.

ولبث بعدها أربعين يوما ما نطق بكلمة، لكنه بعدها تكلم وحكى للناس حكايته مع الحمار الأبيض، وكيف جمح به بعد قليلٍ، وألقى به عن ظهره من علوٍ شاهق، وكيف رمحه بحافره ثم اختفى. وقال الناس يومها:
 إن ما ظهر له لم يكن إلا رَصَدًا

 وما هو الرصد يا خالة أم منصور؟

 الرصد يا أولادي شبح مخيف يظهر بهيئات متعددة، ويكون حارسا لكنز من الكنوز في جوف الأرض، أو يستوطن المكان الذي قتل فيه قتيل ولم يُؤخذ بثأره...

كان الاستماع إلى حكايات الخالة أم منصور يأخذ ثلثي وقتنا، نحن مجموعة الصبية الذين نلتم في بيتها بعد عشاء كل يوم، بقصد المذاكرة وحل الواجبات المدرسية سويا وبجهد مشترك، ونحن في أواخر سنوات المرحلة الابتدائية . فقد كان ابنها محمود زميلا لنا. يلتئم شملنا في بيته لأنه يتيم، ليس في بيته أب يدفعنا، أو يصرفنا عن سهراتنا، مثلما كان يفعل سائر آبائنا، لو لمحنا لهم بأن زملاءنا سيسهرون للدراسة معنا.

فقد كان آباؤنا يريدون أن يريحوا أبدانهم من عناء يوم طويل في الحرث والزرع، وربما كان لهم مآرب أخرى لا نعرفها، فيتغاضون عن سهراتنا التي تصرفنا من وجوههم.

عندما كانت أم منصور تفرغ من حكاياتها، وتتركنا وتمضي لتكمل سهرتها مع بعض الجارات من العجائز أو الأرامل، اللائي يجتمعن على عتبة المنزل الخارجية على قارعة الطريق. كان أحدنا يتعمد النفخ على مصباح الكاز الذي نتحلق حوله، فتغيب الغرفة في ظلام دامس، يتخلله صراخنا و ركلاتنا في معركة عمياء، ليس لها هدف محدد سوى العبث والتندر ببعضنا البعض. نظل على هذه الحال حتى تخور قوانا، ونروح نبحث عن عود ثقاب نشعل به المصباح من جديد.
نتفقد خسائرنا وإصاباتنا، ونلملم كتبنا ودفاترنا ونمضي إلي بيوتنا، وقد انتصف الليل أو كاد.

يتسلل أحدنا على رؤوس أصابعه ويدس نفسه في فراشه، وإذا قدر له أن ينجو من سخط والده وهديره لأنه يغط في نوم عميق، فإنه لا ينجو من عيون والدته التي تلاحقه، والتي ظلت ساهرة حتى تطمئن إلى عودته.

مرة واحدة جربنا أن نغيّر المكان، فنجتمع للدراسة في بيت زميلنا صبحي، وهو وإن كان أبوه حيا مثل آبائنا، إلا أنه كان شيخا فانيًا، وصبحي ابنه من زوجته الجديدة التي تزوجها على كبر، فأنجبت له أولادا في سن أحفاده، فكان طبيعيا أن يلقى صديقنا من الحظوة والدلال ما لا نجده نحن أولاد الزوجات الوحيدات، ثم إنه كان في بيتهم متسع، غرفة إضافية للضيوف يمكننا أن ندرس فيها.

كانت سهرتنا تلك مملة لخلوها من حكايات أم منصور، ولم ندر ماذا نفعل، فاضطررنا للدراسة وحل الواجبات للمرة الأولى، ولم نجرؤ على القيام بالفقرة الثانية من سهرتنا، وهي النفخ على المصباح، خشية أن يتسبب صراخنا وضجيجنا في إحراج صاحبنا أمام والديه.

انتهت سهرتنا، وقررنا أن لا نعاودها، فليس من بديل للسهر عند صاحبنا محمود. وافترقنا عند البوابة الرئيسية، التي تجمع بيت صاحبنا مع بيوت أعمامه وأقاربه في حارة واحدة تلتم على بعضها، وتوجه كل منا في زقاق نحو بيته.
لم أخط سوى بضع خطوات منفردا في الظلمة، حتى لمحت أمامي هيئة الحمار الأبيض الذي وصفته أم منصور، يقف معترضًا في وسط الزقاق، بحيث لا أستطيع المرور دون أن ألامسه أو أدفعه.

وأنّى لي أن أدفعه، أو أدفع نفسي من مكانها. إن قدماي ترتجفان، ولا تقويان على حملي، ويرتعد سائر بدني، فلا أتقدم ولا أتأخر ولا أقوى على الكلام.

تسمرت مكاني، وتحسست شعري الذي خشيت أن يتحول إلى بياض القطن، وأنىّ لي أن أعرف قبل يصبح الصباح ويراني أحد.

لبثت على وقفتي تلك زمنا لا أدر ي أطال أم قصر. لا أنا بقادر على أن أبرح مكاني، ولا الحمار الأبيض يتزحزح من مكانه قيد أنملة فيوسع لي الطريق. هممت بالعودة إلى بيت صاحبي الذي كنت عنده، وطاوعتني قدماي قليلا، فرجعت إلي الوراء.

ما أدرت ظهري حتى لا يغيب الحمار عن ناظري، ويفاجئني بركلةٍ آو حركة وأنا أدير له ظهري. وبشق الأنفس وصلت عتبة الدار التي خرجت منها قبل حين.

وحرت في أمري، كيف أعود إلى صاحبي، وأقرع بابه والليل قد انتصف أو كاد، وأهل بيته نيام . ولم أدر ماذا افعل، ولم تحملني قدماي من الروع والفزع، فجلست على عتبة الدار وأسندت ظهري للحائط منتظرا ما يصنع الله بي في هذه الليلة الليلاء.

لا أدري أأخذتني غفوة أم ظللت ساهرا، لكنني أفقت من ذهولي على صوت المؤذن، وهو يسبح بأذكار الفجر. وعلى باب دار الحاج أبو عاهد، الذي يجاور المكان الذي أتسمر فيه وهو ينفتح، والرجل يحمل إبريقه ويتوجه إلى جنينة بجانب الدار ليتوضأ، وصوته الجهوري يملأ المكان :

 يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.

 يا أولاد، يا عاهد، يا خليل، لماذا أغلقتم الباب وتركتم الحمار الأبيض خارجا، ولم تدخلوه مع بقية البهائم ؟
وربت على ظهر حماره الأبيض، وأدخله وأغلق الباب خلفه، ومضى لوضوئه.

دبت الحياة في عروقي من جديد، وخطوت في الزقاق متوجها نحو بيتنا، تسللت على رؤوس أصابعي، ولم يفطن أحد لمقدمي، حتى أمي يبدو أنها انتظرتني حتى غلبها النعاس فنامت.

دسست نفسي في فراشي، ونمت نومةً كأني ما نمت قبلها أبدا .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى