الاثنين ٢ آذار (مارس) ٢٠١٥
بقلم فيصل سليم التلاوي

الجائزة ...

لا أدري لماذا يلقبونه عبد الله ( الحافي )، مع أنني ما لمحته يوما يسير حافي القدمين مطلقا، رغم أنني أعرفه منذ طفولتي البعيدة، وأعرف أبناءه الذين لا أحصي لهم عدا. كل ما أعرفه ويعرفه غيري من أهل حارتنا أنهم أكثر بيوت الحارة عددا. لكنهم على كثرتهم أبهى أبناء الحارة منظرا، وأكثرهم أناقة وحسن هندام، وليس بينهم حافٍ واحد أبدا.

فبينما يعمل معظم رجال حارتنا حرفيين أجراء بالمياومة، أو عمال بناء أو باعة خضار و فواكه موسميين، يعمل أحدهم أياما و يتعطل عن العمل أياما أكثر منها، فإن عبد الله الحافي كان المحظوظ الوحيد من بينهم جميعا. فقد كان يعمل سائق شاحنة براد، تنقل الخضار و الفواكه في رحلات منتظمة إلى دول الخليج، بحيث تستغرق الرحلة الواحدة قرابة أسبوع أو يزيد. يذهب بثلاجته محملة بالخضار والفواكه، ويتقاضى عن كل حمل أجرا مجزيا، وفوق ذلك فإنه لا يعدم وسيلة إضافية للكسب في رحلة العودة، بما يحمله من سلع كهربائية وتحف وعطور ولوازم نسائية و أجهزة خلوية، وغير ذلك من السلع الرائجة حسب الطلب، والتي يقل سعرها هناك كثيرا عن مثيلاتها هنا، هذا إذا وجد لها مثيلات هنا، ولم تكن مقلدة وغير أصلية. وهو بحكم خبرته الطويلة ذهابا وإيابا، و معرفته الوثيقة برجال الجمارك و مأموري الجوازات، فإنه يعرف كيف يداريهم و يسترضيهم بالهدايا، وتلبية الطلبات في غُدوه ورواحه، فيغضوا الطرف عما يحمل في رحلة عودته، ولا يدققون في تفتيش ثلاجته، وما حوته من سلع مهربة، تتكفل زوجته بتسويقها لجاراتها و معارفها خلال غيبته بين سفرة وأخرى. ولذلك فإن أبناءه على كثرتهم هم أكثر أبناء الحارة ترفا ولهوا وتباهيا بما أوتوا من نعيم مقيم.
ولبثوا على ذلك حينا من الدهر، حتى كان يوم أعلنت فيه إحدى الجمعيات الخيرية الدولية عن رغبتها في تقديم مساعدات مالية لأهل الحارة، نظرا لما يعانونه من ضيق ذات اليد، بغية معاونتهم في تدبير شؤون حياتهم، و مساعدتهم على تكاليف رعاية أبنائهم، كلٌ بحسب عدد أفراد أسرته، و ارتأت أن تتوج تلك المساعدات بجائزة قيمة مقدارها خمسون ألف دولار، تمنح للأسرة التي لديها عشرة من الأبناء أو أكثر.

و راح أهل الحارة يتساءلون باحثين عن صاحب الحظ السعيد، الذي سيفوز بالجائزة دون غيره، و أخذوا يتفقدون بعضهم بعضا، و يحصون أبناء كل واحد من أهل الحارة عَدّا. أبناء فلان و فلان فإذا هم سبعة و ثمانية فحسب، فقال أحدهم:

أولاد عبد الله الحافي تسعة.

و هل يستحق أبناء عبد الله الحافي مساعدة فوق ما هم فيه من نعيم، الأولى أن ينالها فقير لا يقدر على إعالة أبنائه.
حقهم أن يشتركوا في المسابقة، فلم تشترط اللجنة المشرفة أن يكون الفائز غنيا أو فقيرا، اشترطت العدد فقط، و أن يكون من أبناء الحارة.

وهم من أبناء الحارة الأقدمين، فلا يحق لأحد استبعادهم من المنافسة.
لكنهم مع ذلك لم يصلوا إلى الرقم المطلوب و هو عشرة.

و بلغ الخبر عبد الله الحافي، و كان قد عاد لتوه من إحدى سفراته الخليجية محملا بالبضائع النفيسة المعدة للبيع كعادته، فأطرق طويلا يفكر في وسيلة تمكنه من الظفر بالجائزة، ما دام هو أقرب المرشحين لها، و لا ينقصه سوى ولد واحد لاستكمال الشرط المطلوب.

جلس على شرفة شقته، و أرسل نظره إلى الشقة المقابلة، حيث كانت جارته أم يحيى تداعب طفلها الوحيد، الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات، و حدث عبد الله الحافي نفسه:

إن أمه لن تمانع في إعارتي إياه ساعة الإحصاء، خاصة لو وعدتها بنصيبها كاملا عُشر الجائزة، خمسة آلاف دولار كاملة. ثم إن أحدا لن يميزه، فهو أكثر شبها بي من باقي أبنائي.

الله يخزيك يا شيطان! هو ابني أيضا، لكن كيف يمكن أن أفاتح زوجتي بالأمر؟ و كيف يمكن أن أعترف لها بما اقترفته بحقها من خيانة زوجية؟ و كيف سيكون رد فعلها؟ ربما تغادر البيت و تترك لي التسعة جميعهم. و كيف لي أن أتدبر شؤونهم، و أسهر على رعايتهم، و أنا مسافرمعظم وقتي؟
لا يمكنني أن أخبرها بشيء، و لن أعرض نفسي للفضيحة، و لتذهب الجائزة إلى الجحيم.

بل سأجرب أن أصارحها، و أعترف لها أنها غلطة، و أن جارتنا التي أمضت سنوات طوال بلا إنجاب، قد اقتحمت عليَّ الشقة ذات مساء أثناء غيابها و الأولاد، بحجة أنها قد حضرت لتسدد لكِ ثمن مشترياتها، التي أوصت عليها من دبي في آخر سفرة، و عندما وجدتني وحدي هددتني بأن تفضحني، و تلم عليَّ الجيران و أهل الحارة جميعا، و تدعي أنني حاولت الاعتداء عليها، إن لم أستجب لرغبتها، فما وجدت سبيلا للتخلص من الفضيحة سوى الرضوخ لطلبها.

و فوق ذلك فأنا أعرف مقدار طمع زوجتي و حبها للمال. سأغريها بعشرة آلاف دولار، إن وافقت على إحضار الصبي، و إضافته إلى أبنائنا ساعة الإحصاء، و لن ينتبه لذلك أحد .

استجمعت قواي، و استحضرت كل شجاعتي دفعة واحدة، فقمت بإقفال نوافذ الشقة و بابها، خشية أن تصرخ زوجتي صرخة، تَلُمُّ فيها الجيران كلهم عليَّ لدى سماعها الخبر، و توجهت إليها قائلا:

زوجتي العزيزة: سأعترف لك بسر خطير، لكن عديني أن يكون رد فعلك هادئا دون ضجة أو صراخ يسمعه الجيران، و أنا مستعد للتكفير عن سوء فعلتي، و عن خطيئتي التي ارتكبتها بحقك بالطريقة التي ترضيك.
ماذا فعلت؟ قل. هل قتلت قتيلا؟ ارتكبت جريمة و تريد أن تخفيها؟

لو كان الأمر كذلك لهان عندي، و كنت سأدفع ثمنه الذي أستحقه وحدي، و لا أشركك في تبعاته، ليتني فعلت ذلك. لكنني فعلت ما هو أسوأ منه، تعديت عليك أنتِ.

عليَّ انا ! ماذا فعلت؟ قل.

ليس قبل أن تعديني بتحمل وقع جريمتي بحقك، و أن تستري الأمر حتى لو لم تسامحيني.
لا تقتلني و تفقدني أعصابي، لم أعد أطيق صبرا، قل كل شيء دفعة واحدة، و ليس بالقطارة.

أقول ما رأيك في يحيى ابن أم يحيى جارتنا؟

ما به يحيى؟ و ما دخل أمه في الموضوع؟

أقول ماذا لو أحضرناه ليكمل العشرة، و نحصل على الجائزة، و لك منها عشرة آلاف دولار حلال زلال عليكِ.
و لماذا يحيى؟ و هل ستتخلى لك أمه عن ابنها الوحيد، الذي انتظرته عشر سنوات؟
نعم. تتخلى، هذه اتركيها لي.
كيف أتركها لك؟ أفهمني. ألست أنا من سيذهب إليها لإقناعها؟
بصراحة. يحيى هذا ابني.

ابنك؟مبروك! و لِمَ لمْ تخبرني من زمان أنك والد عيال الحارة؟ و من غير يحيى من أبنائك؟
لا أحد غيره، و كنت سأخبرك لكنني لم أجد الفرصة المناسبة. لقد كانت ساعة شيطانية، اقتحمت فيها المرأة الشقة عليَّ أثناء غيابكم، و هددتني بالفضيحة إن لم ألبِ رغبتها و كان ما كان.

ما أذهلني و أخرس لساني عن النطق أنها لم تصرخ و لم تضطرب، و لم يكن ردها عنيفا و لامزلزلا مثلما توقعت، و أن كل مخاوفي و حساباتي لردة فعلها المدمر لم تكن في محلها، فقد راحت تساومني لتتثبت من ضمان حصتها من المبلغ قائلة:

و هل ستدفع لي عشرة آلاف دولار فعلا؟
أقسم على ذلك، و فوقها حبة مسك، فما تقولين؟
موافقة.
هل أذهب لإحضار الصبي؟
اذهب. لنرَ إن كانت ستعطيك إياه.

و غادر عبد الله الحافي شقته و الدنيا لا تسعه من الفرحة: أولا لأن الموقف مرَّ على خير، و أن زوجته قد كبَّرت عقلها، و تقبلته بقبول حسن، و لم تُحدث له فضيحة مدوية مثلما كان يتوقع، و ثانيا لأنه ضمن الفوز بالجائزة. و سار محدثا نفسه:
لن تنقص سوى خمسة آلاف دولار لأم يحيى، و عشرة آلاف لزوجتي، و سيبقى لي خمسة و ثلاثون ألف دولار.
لم يغب طويلا عند جارته أم يحيى، و لم يجد صعوبة في إقناعها بالصفقة، لما بينهما من سابق مودة، و لِما أغراها به من نيل خمسة آلاف دولار.

أمسك بيد الصبي و عاد به إلى بيته، و لم ينس في طريقه أن يُعَرِّج على البقالة، ليشتري له ما لذ و طاب من أصناف الحلوى، يسترضيه بها، حتى يكمل مخططه و ينال الجائزة.
وصل شقته هاشًا باشًا، ليقينه أنه قد ظفر بالجائزة دون منازع. و لقيته زوجته على باب الشقة مرحبة بِطَلَّتِه، فقال لها:
أين الأولاد؟ جَمِّعيهم ريثما أذهب لإحضار لجنة الإحصاء، لتَعُدَّهم و تتأكد من أنهم عشرة، و أننا أولى الناس بالجائزة. فأجابته:

الأولاد ليسوا هنا.

و أين ذهبوا؟

لقد حضر آباؤهم، و أخذ كل واحد منهم ابنه ليضمه إلى من عنده ساعة الإحصاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى