الاثنين ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٥
بقلم فيصل سليم التلاوي

المسافر ...

يدمن مرزوق السير منذ تفتحت عيناه على الدنيا، وصارت قدماه تحملانه. إنه يواصل سيره دون ملل أو كلل، كأنما هو موكل بفضاء الله يذرعه. فهو قد سمع في مراحل مختلفة من عمره عمن دار حول العالم على دراجة نارية، ومن دار حوله فوق قارب شراعي، ومن كرر الفعلة ذاتها على متن طائرة تعمل بالطاقة الشمسية، لكنه لم يسمع بمن دار حول الأرض على ظهر بعير، وود لو يفعلها، وتفكر في ذلك مليا، لكنه أيقن أن البعير سيعيقه عند عبور الأنهار والبحار، وقبل ذلك فإن البعير يصعب عليه تسلق الجبال، وهو غير مهيأ للسير الطويل إلا في الصحاري والأراضي المنبسطة، فليفعلها إذن مشيا على قدميه وحيدا دونما رفيق.

تطول بمرزوق الأيام والشهور والسنين، وهو يصعد جبلا ويهبط واديا، ويقطع نهرا سباحة، ويعبر بحرا على ظهر قارب شراعي فقط إن اضطر لذلك، فالإبحار على متن سفينة ذات محركات آلية من محرمات سفرته. يجتاز مراكز الحدود الدولية فيرحب به بعضها ويُثني على مغامرته، ويقدم له التسهيلات اللازمة، ويعيده بعضها خائبا، ويمنعه من الدخول لدواعٍ أمنية، أو لعدم حصوله على تأشيرة دخول مسبقة، فيضطر للعودة والالتفاف صوب حدود دولة مجاورة، أو يجتاز الحدود متسللا تحت جنح الظلام، معرضا نفسه لمخاطر الاعتقال، أو الإصابة إن اشتبه به حراس الحدود. وقد اعتاد على ذلك لطول عهده بالسير، فهولا يتشكى قلة الزاد ولا وحشة الطريق ومخاطره.

أطبقت الظلمة على مرزوق ذات ليلة حالكة السواد، وهو يسير وسط غابة كثيفة مترامية الأطراف لا نهاية لها. هدَّ ه التعب ولم يعد يستطيع أن يتبين مواضع قدميه من شدة الظلام، وفقد القدرة على التركيز، فأوى إلى كوخ خالٍ تفاجأ به على جانب الطريق، فألقى بنفسه على أرضه ليلتقط أنفاسه، ويرتاح قليلا من وعثاء السفر، وسرعان ما غط في نوم عميق، لا يدري أستغرق ذلك منه الليل كله، أم أنه واصل نومه حتى الليلة التالية. كل ما يتذكره أنه قد أحس وسط الظلمة بيد ضخمة تتحسس سائر بدنه، وتمتد إلى فمه وأنفه كأنما لتتيقن من أنه حي يتنفس، ثم انطلق صوت أجش يحاوره، وهو يرد عليه من جانب، ويحاور نفسه من جانب آخر مؤكدا:

إنه حلم ليس إلا.

والصوت المنبعث من جواره يسأله:

فيم هذا التطواف في الدنيا الذي تغذ السير فيه؟

أريد اللحاق بوالدي ووالدتي وإخواني، ألم يمروا قبلي من هنا؟

إخوانك اختطفتهم ثعالب الغابة واحدا تلو الآخر، ولم ينجُ منهم أحد.

وأمي؟

أمك أكلها الضبع بينما كانت تحاول الدفاع عنهم.

وأبي؟

أبوك أكله الذئب وهو يحاول تخليص أمك من بين براثن الضبع.

ويواصل الصوت:

وبقيت وحيدا لا أمل لك في لقاء أحد، ولا جدوى من مواصلتك المسير.

أفاق مرزوق فزعا متعوذا، يريد أن يطرد من خياله أشباح ذلك الحلم المشؤوم، ليفاجأ بالكائن العملاق الذي رآه في منامه جالسا قبالته، يرمقه بنظراته متأملا هيئته ومخاطبا إياه :

ما سمعته ليس حلما، لقد كان حوارا حقيقيا بيني وبينك، ولم يعد هنالك من جدوى في مواصلة سيرك، ولا تستطيع العودة من حيث أتيت، بعد طول السفر الذي سافرت والعناء الذي تكبدت، ولا خيار أمامك سوى العيش في كنفي والبقاء بجواري. أعينك ملكا على الغابة كلها، وأحميك من كل ضباعها وسباعها، وتتعاون معي. تساعدني فقط في بعض المهمات الصغيرة.
وبِمَ أستطيع أن أساعدك؟ وهل أنت بحاجة لمساعدتي مع كل هذه البسطة في الجسم التي أوتيت؟

نعم. خدمات صغيرة فقط، أنت مهيأ لها، وتتقنها أكثر مني.

مثل ماذا؟

مثل الترحاب بالضيوف وإكرامهم. كلما مر بالغابة عابرسبيل مثلك ترحب به وتستضيفه، ليرتاح ليلته في هذا الكوخ، ثم تستأذن منه وتمضي لمسكن آخر أكثر أناقة وأمانا، وأوفر نعيما وخيرات أعددته لك، ثم تنسى أمره، أنا أدله على الطريق ليواصل مسيره صبيحة اليوم التالي.

أهذا عملي فقط؟

نعم. ولا شيء سواه، ويمكنك أن تستعين على مهمتك بما تريد من وسائل. تشعل نيرانا في الليل إن أردت لتجلب الأضياف، ليسمع بك الغادي والرائح، تصبح جوادا تطبق سمعتك الآفاق، تنافس حاتم الطائي إن رغبت.
اتفقنا. على بركة الله.

وتوقف مرزوق ولو إلى حين عن مواصلة مهمته الرئيسة، التي طالما غذَّ سيره من أجل إدراكها، وهي الدوران حول العالم مشيا على قدميه، وباشر مهمته الجديدة التي اتفق مع مضيفه على القيام بها، فصار يجوب أرجاء الغابة نهارا، ويقعد على مفارق طرقها ويشعل نيرانه ليلا. كل ذلك ترحيبا بالأضياف وعابري السبيل، الذين يرحب بهم ويكرم وفادتهم، ويؤيهم ليبيتوا ليلتهم في كوخه المتواضع، بينما هو يمضي ليله في فراشه الوثير في كوخه الآخر. وفي الصباح يغادرون مواصلين سيرهم، لا يدري بعد ذلك من أمرهم شيئا.

طال بمرزوق الأمد على هذا الحال، حتى جاء زمان قلَّ فيه عابرو السبيل، وندر من يمر بالغابة ليلا أو نهارا. وتهامس الناس أولا ثم ضجوا بالشكوى، أن من يعبرهذه الغابة من أي ناحية لا يغادرها أبدا. وعبثا يحاول مرزوق أن يبحث عن ضيف جديد ليرحب به، ويستضيفه كسابق عهده، لكنه لم يعد يعثر على أحد مهما أشعل من نيران طوال الليل.

لم يجد مرزوق مفرا من أن يشكو أمره، وأن يقدم اعتذاره لسيده العملاق عن قلة نزول الأضياف، وهوالذي أوكل إليه هذه المهمة، حتى لا يتهمه بالتقصير أو الإخلال بالاتفاق. والذي صار لا يراه إلا لماما.

قال له ولي نعمته:

لا شك أن بعض العابرين قد يرون أن من غير اللياقة تركهم ينامون وحدهم، وأن من كرم الضيافة أن ينام المضيف مع ضيفه، يحدثه ويؤانسه حتى ينام ولايتركه منفردا، فلو جربت ذلك ونمت في الكوخ القديم انتظارا لمرور أحد، ولا تفارق صحبته وتتركه عندما ينام، بل نم ليلتك معه.

نزل مرزوق على مشورة مولاه، ونام ليلته تلك في كوخه القديم الذي التقاه فيه أول مرة، وأخذته إغفاءة ما أفاق منها إلاعلى حلم رهيب، ليس كمثله حلمه في ليلته الأولى. حلم يراه بعينيه ويسمع أصواته بأذنيه، لكنه لا يستطيع منه فكاكا، حتى صوته ضاع منه، فلم يسعفه هذه المرة لا بصرخة ولا بهمسة. إنه يرى ما يحدث، ويسمع طقطقة العظام، لكنه لا يقوى على الحراك، أوالتعبير من شدة الألم. لم يكن ما يراه أويسمعه سوى قضقضة عظامه، وهي تتكسر بين الفكين الرهيبين لمضيفته الغولة، التي افترسته عندما توقف عن جلب الفرائس لها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى