الخميس ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٥
بقلم هيثم نافل والي

الابتسامة

يقول ماركيز:
فرانز كافكا أثبت لي، يمكن الكتابة بطريقة أخرى!!

تراءى لهيثم في المنام أنه:
كان يتمشى متجهأ صوب عمله في إحدى شوارع بغداد قبل السقوط، يغني لنفسه بإيمان خالي من النفاق مندمجاً مع ذاته التي لا يذكر ولا يدري أين أضاعها!! وربما لم يكن يغني، بل كان يفكر متكدراً بصوت عال... إنه حقيقةً غير متأكد؛ يرتدي معطفاً صيفياً محلول الأزرار، يتعثر بمشيته مثل أعرج يهم بالجري، ووجهه- حسب ما يذكر- كان خالياً من أي علامة تشير إلى حضوره!! معذرةً، أقصد، وجوده ككائن حر طليق يسير في شوارع عاصمة بلاده بحرية دون منغصات... حتى استوقفته مفرزة للشرطة بشكل مباغت، ترجل منها ضابط فحل يستحق الإعدام، ومساعده الصامت كفتاة في سن الزواج الذي ما برح من هزّ يديه وهما معقوفتان معقودتان خلف ظهره مثل ذيل البقرة وهي ترعى، في حين كان صدر الضابط( وهذا ما رآه هيثم بوضوح تام ) يعلو ويهبط بقوة وكأنه يعاني من نوبة ربو خطيرة، له عينان تائهتان تبدوان عليهما الطيبة لكنهما في الحقيقة قاسيتان شرستان مثل طبعه، كالح الوجه مثل قطعة خشب أكلها السوس...

اقتربا منه بجسارة... فرأى الضابط كان يحجل متأرجحاً في مشيته وهو يتقدم مثل الغراب، وهمَّ بسواله بوقاحة شديدة وكأنه يخمن بلا مبالاة بعد أن استجمع أنفاسه وهو يعقد حاجبيه الكثيفين:
لماذا ابتسمت وأنت تمر من أمام صورة الرئيس؟!

 أنا!!
 نعم أنت، وأردف عابثاً عن عمد:
لا تنكر، لقد رأيناك وكنت تبتسم بسخرية متهكمة من الرئيس وفخامته!!
 قال وهو يحنى رأسه دون معنى:
الحقيقة هذا اتهام خطير، ومن ثم أنا لا اذكر بأني ابتسمت عندما كنت أسير، بل لم أعر أي أهمية لمن حولي، لقد كنت في طريقي مثل غائب عن الوعي مترجلاً إلى مكان عملي حتى ظهرتما فجأة، كالقضاء( وندم على تهكمه في قوله الأخير )
 هدر غاضباً كموجة حانقة وهو يرمقه متحاملاً بطرف عينيه:
هكذا إذن!! واستطرد بإزدراء ابن الخائبة وبلهجة متحدية:
تكذبنا جهراً!!
 بقناعة لا تخلو من فخر أو كبرياء متأوهاً متحسراً ويائسا حتى تراى له بإنه سيطق من الملل:
أدعو الله أن يصلح من أخطائنا ويقوّم أخلاقنا وأستغفره... إنه السميع المستجيب، وتابع بحماسة مطرقعاً ومفرقعا:
أنا لم أعنِ ذلك، بل لم أبتسم بالمرة لأحد ولا لصورة الرئيس، بل لم ألاحظ وجودها مطلقاً هذا كل ما في الأمر، أرجو أن تصدقاني، حتى أني لا أعرف الابتسام، لا في قولي ولا في فعلي، وأدرك متصنعاً طلب الرحمة لهما فظهر الرجاء كالدعاء:
خفف الله من رئسيكما ثقل الهموم، وأبعد لحظات الألم من حياتكما.
 مثل نمر متمرد بعينين ترتعشان بقلق مبهم لم يتكهن سرهما صرخ كالجريح وهو يدق الأرض بقدميه، وكأنه يرقص رقصة – البنتوزالي- التي كان يرقصها المحاربون القوميون اليونانيون القدامى:
إذن... ستقول هذا الكلام هناك!!
 بغصة مثل فاقد الأمل: هناك أين؟!
 بخبث وبعاطفة حاقدة أدرك كديك عجوز:
ستأتي معنا في نزهة قصيرة... عندها نعرف لماذا ابتسمت بسخرية مستهزئاً من فخامة الرئيس المتمثل في صورته الجليلة المقدسة!!

اقتاداه إلى مكان لا علم له به، وكأنه واقع خارج أسوار الكون، عفن لزج الهواء، كثير الأوساخ، قاتم الأنوار إلى درجة يصعب معها الرؤيا، فقال هامساً محدثاً نفسه بانكسار:
لو كتب لي الخروج من هنا، سأكتب هذا الموقف قصة... بعدها بدأت مناورات الاستجواب تنزل وتصعد، ليل نهار، تلهب ظهره قبل ذاكرته، مثل الأسواط، وربما كانت كذلك ويخاف الاعتراف، على أنها بالفعل كانت أسواطاً كالشهب نازلة من الجحيم!!
استيقظ من منامه غارقاً بعرقه، نهض مشدوهاً متوجهاً نحو المرآة التي تتوسط غرفته وتطلع إلى صورته، فرأى شخصاً آخر لا يعرفه، في حين نزع عنه قميصه، فظهرت أثار السياط مازالت حمراء ملتهبه مثل ذيول الفئران!! فاختلط الأمر عليه... فصرخ مهتاجاً، منهاراً بأسى بالغ:
ترى من أنا وما أكون؟! اللعنة... لماذا لا يدعونا نعيش بوئام أو حتى أن نحلم بسلام، ولماذا لا تضيء حياة العراقيين مثل الآخرين كالفجر؟!..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى