الثلاثاء ٢٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
طغيان للأنظمة وتهافت على السلطة
بقلم مروة كريديه

الإدارة في بعض المؤسسات العربية

لا شك في أننا نعيش عصر "البلطجة" بامتياز,حيث غدت العنوان الأبرز للعلاقات بين الأفراد والشعوب كما أمست تُمارس تحت شعارات فاضلة باسم"القانون" تارةً و باسم "الديموقراطية " مرة , وتارة تحت شعار "مكافحة الإرهاب ", وأضحت ممارسة شتى أنواع "الطغيان " نوع من المُساعدة الفاضلة التي تُهدَى للشعوب والأمم والحضارات, بحيث تميَّز هذا العصر عن سائر العصور بكونه منحَ للطغيان المشروعية ليصبح "فضيلة " في القرن الواحد والعشرون .
وفي الوقت الذي نطلب فيه من الدول "الكبيرة " , النظر بحيادية الى "قضايانا العربية العادلة " وعدم ممارسة "طغيانها " بحق شعوبنا , نجد أن الإنسان "العربي" أبرز من يمارس "الطغيان ", فهو خبير عليم بشؤون "القمع المنظمّ" , فالقمع يطال كافّة أفراد المجتمع, كما يتَصدَّر كلّ المؤسسات الاجتماعية والثقافية على حذٍّ سواء.... فتعمل المؤسسات على طرد موهوبيها وإقصاء المبدعين منها , فعدد العقول العربية المهاجرة والعلماء العرب في المغترب يفوق كلّ التوقعات .

وسبب هروب العقول بالدرجة الأولى , هو الطغيانُ المديدُ,وقمع "النقد البناء " الذي يُفسد السياسةَ والثقافةَ معًا , فهو يورث ضحاياه تَجَارب مريرة, تدفعهم إلى احتضان أحقادهم وضغائنهم , وبالتالي فإن أجواء الحوار تنعدم في ظل عقلية القمع والتخوين والشك والمؤامرة التي تسيطر على العقول, حيث تحلُّ الأهواءُ محلَّ المصالح، والمشاعرُ مكانَ الأفكار الواضحة، والانفعالاتُ مكانَ المبادرة السديدة الواعية , فيعمد الفرد المبدع على الهجرة الى مكان أكثر أمنا وأوفر حرية .

وأعني بـ "القمع السلبي" و "الطغيان", هو هذه السلطة الاعتباطية التي تتدخل في كل شاردة وواردة (باسم النظام) , التي لا تكتفي بقمع معارضيها، كما يفعل "الاستبداد"، بل تطلب ولاءً تامًّا من جميع رعاياها وتفرض استعراضًا دائمًا لهذا الولاء في المجال العام.
ولتحقيق ذلك، تَسحَق مَن يُشتَبَه في معارضتهم , فتلجأ الى القوة والعنف لفرض سلطتها, وهي تَعدّ ذلك جزء من صلاحياتها و ممارسة ضرورية لدوام مشاركة الرعايا جميعًا في طقس الاحتفال ب"الطاغية" ، طقس عبوديتهم.

ف"الزعيم" الكبير " هو ذاك الشخص الذي تُصَفِّق له الناس ليلَ نهار باستعراض في السراء والضراء.

والمدير " العظيم " هو ذاك الإنسان الذي ينبغي أن يُسبِّح بحمده كل الموظفين, والموظف الأكفأ والأنشط, هو ذاك الذي يمتلك مهارة أكبر في الموافقة و تقديم فروض الطاعة والولاء لولي "النعمة " على حدّ تعبير القول الشائع...

و"المثقف " الكريم يُمارس فوقيته, من خلال عرض آراءه على الآخرين وتقديمها على أنها "مقدسة " ....
والآباء الكرام يمارسون " سلطتهم " تحت مسمى "التربية" , فيصبح قمع الآراء وال"تأديب " فضيلة تربوية ...وفي الحقيقة تكون النزعة الشعورية هي السائدة .

إن المشترك بين أنظمة الطغيان الإدارية بكافة أنواعها, سواء كانت إدارة أسرية أم سياسية أم ثقافية أم غير ذلك , أنها تنكِّد عيشَ مواطنيها وموظفيها وتميل إلى التعامل معهم كالأيتام, وأنها تحاول تطويعهم لمشيئتها باللين مرة وبالعصا مرات أما خصومها المعلَنون، فقد تسحقهم، أو على الأقل، تُذِلُّهم وتُعسِّر حياتهم.

فمجرد مقال صحفي نقدي ممكن أن يورد كاتبه السجن في بعض الأنظمة الشمولية, ويكفي مجرد النقد الكلامي في بعض الادارت التي تصف نفسها ب"الحديثة والمتطورة " إلى إحالة الموظف الى الدائرة القانونية, أما الاعتراض الصريح فقد يؤدي الى إنهاء خدماته وإلحاق الأذى المعنوي والمادي بحقه .

فعملية صبغ الإدارة بالنزعة النفسية والشعورية تمنع من نهوض المؤسسات ثقافية كانت أم اجتماعية أم سياسية ... بل تعمل على تقويض المؤسسات وشحنها بجو قاتل من التنافر والتشاحن الأمر الذي يضفي العداوة والبغضاء بين الأفراد لأنها ترتكز على سياسة " فرّق تَسُدْ "فيتحول دور المدير "الكريم " فيها الى مجرد مدير "لشكاوى " الموظفين ورعاياه الاكارم الذي يوهمهم بأنه راعي لمصالحهم وانه جلَّ همه الإصلاح بين الفرقاء المتصارعين ودوره معالجة الوضع "الحسّاس " الذي لولا وجوده ما كان "حسّاسا", و يقدم نفسه على أنه "قديس " يريد أن يمنحهم بركته "الإدارية " العظيمة سواء كان مديرا سياسيا أم ماليّا أم إداريا ....

و من أجل تحمُّل قسوة "الطغيان الإداري " العشوائية "رعايا الطغيان" إلى تسميك جلودهم و "التمسحة"، وإلى تسييج قلوبهم بجدران عالية من التبليد العاطفي الذاتي.

وعلى تقبُّل الشرط الميئِّس والامتناع عن السعي إلى تغييره. فيصبح الافرد في هذه الإدارات "الكريمة " نبتات صحراوية، تنجح في تحمل طغيان بيئتها؛ و تصبح إنتاجيتها مرتبطة بالتكيف حيث يستهلك جهدُ البقاء كلَّ طاقتها، فلا يترك لها وردًا ولا ثمرًا ولا ظلاً.
لذلك فإنّ الفرد "المطيع " لإدارته "المتكيف " مع أوامر "سيده " يجعل منه فرد غير قادر على الإبداع لأنه صرف جل طاقته في الطاعة و"تمسيح الجوخ" .

والثقافة لا تتفتح إلا إذا تحررت من مكنونات النفس ، وارتكزت إلى مقومات مشتركة. ومثلها السياسة لا تستقل وتتطور إلا بضبط الاندفاعات الشعورية وعَزْلها، عن المجالات العامّة ، والإدارة في المؤسسات لا تتطور إلا إذا تحررت من الصراعات على الكراسي وعزل مزاجية الأفراد والاستناد، عوضًا عنها، إلى مبادئ ومقدمات مبتكرة معلَنة ومناقَشتها .

والتربية التي تنتج أفراد مبدعين , هي التي تتعامل مع الفرد باحترام, وتفسح للأطفال اختيار ما يرغبون بحرية, وتتيح لهم اتخاذ قراراتهم بأنفسهم دون تدخل من الأهل باسم التربية, لأن معظم الأهل في المجتمعات العربية يمنحون أنفسهم حق "ملكية" أبنائهم وبالتالي فهم يعيدون إنتاج أفراد تربوا على القمع .

فالعلاقة السائدة حاليًّا في الأنظمة الأحادية الشمولية, هي علاقة هرمية وباتجاه واحد بين الرئيس والمرؤوس , بين الأعلى والأدنى, بين الطفل وذويه, بين المدير وموظفيه , وهي علاقة (افعل ولا تفعل ) , الأمر من الأعلى ويقابلها الطاعة ممن يصنف على انه أقل .
أما عملية "النقد البناء " الذي أعنيه, فهو ليس الذي يكشف عن الخطأ أو يقول الحقيقة فحسب, بل هو ذاك النقد الذي يتجاوز الممارسات إلى نقد الأسس البنيوية الفكرية التي تؤسس لهذه الممارسات وهنا يكمن الإبداع الحقيقي النقدي .

فنقد الممارسات القمعية, غير كافٍ على الإطلاق للنهوض بالمؤسسات إذا أردنا نهوضًا فعليًّا بل لا بد من "نقد النقد" بحيث ينبغي أن يُكشف عن العوائق الحقيقية لآليات التفكير وتفكيك للمعرفة الإنسانية .

فآليات التفكير السائدة حاليًّا في المؤسسات, هي ذات طابع تهافتي تختزل الواقع وتطمس الأحداث ولا تسمح للمبدع الحقيقي الموهوب من الوصول, في ظلّ ثقافة "الاستحواذ " التي تسيطر على العقول "المفخخة ", لان النقد الموجود حاليًّا هو نقد قائم على رصد الاغلاط وتصيد الأخطاء وتطبيق أنظمة مفصلّة و مخيطة على حجم "المسؤولين" وأصحاب المصالح و"أرباب الكراسي " .

ونحن الآن أحوج ما نحتاجه للنهوض بإدارة مؤسساتنا كافة هو عملية "النقد المنتج الايجابي " القائم على أساس تفكيك البُنى المؤسسة للإدارة وطرح بُنى جديدة, وتوسيع المفاهيم لجعل اللامعقول معقولا , بحيث تُصبح العلاقة المؤسساتية دائرية كروية يساهم الجميع بكافة شرائحهم وكل من موقعه بعملية صنع القرار.

والإدارات الناجحة هي تلك التي تقوم على التعاون والحوار المؤسَس على التنوع والاختلاف كضرورة فكرية, فالتعدد في الآراء والرؤى يثري ويغني التجارب الإنسانية فكريًّا وعمليًّا .

وإنصافا لعالمنا العربي يجب أن نلقي الضوء على إدارات ناجحة مبدعة متميزة في الأداء , استطاعت أن تخرج من دائرة القمع الى دائرة الإبداع الحضاري والنقد البنَّاء , واستطاعت أن تستثمر الموارد البشرية كدعامة مشاركة بالبناء, فإدارة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم تميّزت بهذه الرؤية بالتحديد, و ذلك من خلال اعتماد سموه على نمط إداري تعاوني دائري, بحيث يُشارك العنصر البشري في عملية البناء والنماء والتطوير فقد عمل على استقطاب الموهوبين والمبدعين بكافة المجالات, حيث عمل على إعداد الأفراد وبناء الكوادر البشرية المؤهلة, ومنحهم أمرين مهمين جدًّا : الحرية والأمان , فأبدع الأفراد وأنتجت المؤسسات .

نشر في صفحة رأي ودراسات في جريدة " أخبار العرب " الاماراتية
في عددها رقم 1971 الصادر بتاريخ الإثنين 24 ابريل 2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى