الثلاثاء ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
حكاية ادارية طريفة:
بقلم مهند النابلسي

الصناعة بين "الطمعان والفهمان" !

جمع " سريع الطمعان " أموالا طائلة من تجارة الخردة والمخلفات، وازداد حجم كرشه بطريقة طردية مع حجم رصيده البنكي، وأصبح يدخن السيجار، ويشرب بالسر الويسكي والبيرة بالأسحار، ويقهقه بصوت عال حتى تدمع عيناه، ويتشجأ كالبهائم بعد امتلاء البطن، وتميزت ملابسه بالألوان الغامقة والفاتحة غير المتناسقة ...وقرر بثقة ان يشق طريقه في عالم الصناعات الغذائية وبشكل مبتكر:" فالناس تأكل أي شيء جيد الطعم وحلو المذاق"! والطعام بأنواعه لا يكسد وتذكر أن صديقه " نتن-شاورما" (على غرار المجرم "نتن-ياهو") قد جمع ثروة طائلة من وراء بيعه لشاورما مصنوعة من دجاج فاسد منتهي الصلاحية، وخاصة عندما أخبره بغرور وتبجح "ان خلطة البهارات السرية التي يضيفها تفعل المعجزات وتضفي على الشاورما الفاسدة نكهة مذاقية فتاكة "، وتجعل " الجوعان-النهمان " لا يكتفي بسندويشة واحدة وانما بثلاثة على أقل تقدير، وان صفوف الازدحام بالدور لا تنتهي في محله الصغير مما أجبره لفتح عدة فروع هنا وهناك! كما تذكر أنه تذوق وزوجته البدينة نوعا من الشوكلاتة الفاخرة أثناء زيارته الأخيرة لباريس، وقرر مع شريك جشع (اسمه شوكو سكر) أن ينتج شيئا مماثلا أكثر حلاوة وأقل تكلفة مع ألوان فاقعة ، فهو بطبيعته يحب المذاق الشديد الحلاوة، ويضع في كأس الشاي الصغير أربع ملاعق من السكر، كما أنه يتناول الكنافة بالقطر بنهم! هكذا وبعد ان استكمل اجراءآت التسجيل والتحضير المطلوبة، بدأ باستقدام المكائن الصينية الصنع، وأعلنت الصحف عن الوظائف الشاغرة في شركة غذائية حديثة ... ولكنه أبقى الوظائف الرئيسية حكرا على أقربائه الأكارم: فعين ابنه الفاشل في دراسته الجامعية مديرا للمصنع، وابن اخته الفاشل في التوجيهية مديرا للانتاج، وابن اخيه المطرود من البوليتكنيك مديرا للتسويق والجودة ، وتقدم للعمل مجموعة من الفنيين الجيدين والعمال العاديين فاختار عددا منهم، وبنى معايير اختياره على ثلاثة عناصر "الواسطة والمحسوبية والمجاملة". ولم ينسى ان يختار عددا من المؤهلين القادرين على تسيير العمل وانجاحه ...ثم أعلن عن وجود شاغر لسكرتيرة، فتقدم عدد من الفتيات فوقع اختياره على فتاة جميلة محجبة مغناجة تضع مساحيق تجميل وبكفاءة متواضعة!

هكذا انتهى فريق "التصنيع الغذائي"، وانتهى الخبراء من تركيب المكائن والتشغيل الأولي. بدأ العمل في المصنع ، فوضع صاحبنا المقتدر استراتيجية ادارية مبتكرة ، وطلب من جميع المسؤولين التقيد بها تماما، وكانت مكونة من خمسة بنود هي:

هدفنا كثرة الانتاج والربح السريع!

تصميم المنتج يتم حسب وجهة نظر الادارة ، وليس بناء على الدراسة السوقية!

كل مدير حر في دائرته، فالدوائر قلاع محصنة يتحكم بها الغموض والبيروقراطية والتراتبية!
لا حاجة لأجهزة الحاسوب ونظم الاحصاء، فالأفضل استغلال الخبرات والتركيز على العمل الورقي وكثرة التقارير (التي تتراكم ولا يقرأها احد)!

لا نريد عمالا متفلسفين وشطارا، فالطاعة وتنفيذ الأوامر هي أساس العمل ومعيار الكفاءة!
ولم ينسى القيام بحملة دعائية مكثفة، وهكذا ظهرت في التلفزيون فتيات جميلات يمسكن بأصابع شوكلاتة من ماركة " طمعان النهمان " ويلوحن بها بنعومة ونغاشة فائقة يمينا ويسارا، ويتصنعن ابتسامة تكشف عن أسنانهن البيضاء، ويصرخن "طمعان طمعان ...كول كول يا نهمان ...وخليك ولهان!"، ويرافق زعيقهن موسيقى شعبية صاخبة، فيندهش الأطفال " المساكين " أمام شاشات التلفزة، ويسيل لعاب الكبار والصغار، ويبحث الجميع عن الشوكلاتة الطيبة ...ثم ظهرت في الصحف اعلانات ملونة تظهر اشعاع السعادة مع المذاق "الشديد الحلاوة" للشوكلاتة المتميزة !

هكذا انتعش الثري الجديد الذكي "سريع الطمعان" وازدادت حدة قهقهاته، وهاج وماج، وظهرت في شخصه الكريم ميول سادية كان يخفيها، تجلت بترميجه السريع لمهندس "متفلسف" حاول أن يقنعه بتطبيق مفهوم "جودة الغذاء" في عمل المصنع (ما يسمى الهسب)، فانزعج منه، ورتب له "مصيدة ادارية" كيدية ، طالبا منه الاستقالة ! ثم طلب من مخرج الاعلانات الشهير أن يظهره بشكل عرضي في احد الاعلانات، وقد سمع أن هيتشكوك مخرج الاثارة الشهير الراحل كان يظهر احيانا في أفلامه! "فلا أحد أحسن من أحد" : وهكذا كان فأصبحنا نشاهده في لقطة جانبية خاطفة، وهو يسلم أصابع الشوكلاتة لفتاة الاعلان، ويبدو ان الموضوع أعجبه فأصبحنا نشاهده فيما بعد كنجم اعلانات ينافس البنت الجميلة ويلتهم الشوكلاتة بطريقة استفزازية ومبتذلة ومضحكة ولافتة! هكذا تحول لظاهرة اعلانية فأصبح ظهوره المسائي يثير ضحك وسخرية الأطفال وابتسامة الكبار أحيانا .

...ونجح مشروع الشوكولاتة نجاحا باهرا، وبالمقابل فقد ازدادت حالات نخر الأسنان ومرض السكر والسرطان لدى الأطفال وبعض الكبار، فقد تبين ان صاحبنا وفي غمرة حماسه الزائد لتحقيق الربح وانجاح مشروعه، أوعز باضافة كميات كبيرة من السكر التجاري الرديء، مع اضافة نسبا غير مدروسة من الملونات الضارة والرخيصة السعر والمتدنية الجودة ... هكذا فشل مشروعه بعد حين، وقل اقبال الناس على شراء سلعته ..فخشي من المحاسبة والمساءلة، وأسرع بتصفية المشروع، واشتراه رجل أعمال متخصص في الصناعات الغذائية والسكاكر، فعين على الفور كادرا اشرافيا جديدا متخصصا، وطبق مفاهيم الجودة الشاملة والهندسة الصناعية، وسعى لرفع جودة الشوكولاتة وألغى المكونات الضارة، فعاد المنتج ليلقى الرواج، وأصبح اسم المالك الجديد "نبيه الفهمان" ماركة مسجلة لجودة المنتج !

أما سريع الطمعان فعاد مجددا لتجارته الأصلية وأضاف لها فعالية " تنبيش حاويات الزبالة " منافسا الفقراء المساكين وسائقي البكبات المنكوبين، ثم بعد أن استقر ماليا بوضعه الجديد، أعلن في احدى جلساته الأخيرة عن رغبته المفاجئة لاقتحام مجال الفن والتمثيل، وخاصة بعد ان أبدت زوجته والكثير من اصدقائه اعجابهم الشديد بشكله التلفزيوني وانه يمتلك "فوتوجينيك" خاص قد يمكنه من تحقيق النجاح في الأعمال الكوميدية الساخرة او "التهريجية السمجة" لا فرق ما دام الضحك والقهقهة هما الهدف والغاية: هكذا بدأ صاحبنا يخطط بحماس منقطع النظير لدخول ميدان التمثيل والتهريج ...لكن التأثير سيكون مختلفا هذه المرة، لأنه سيمس الذوق العام وليس الصحة العامة !!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى