السبت ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
بقلم محمد زكريا توفيق

الإسكندرية يا بهية

وددت لو يكون هذا المقال بلاغا للنائب العام، أشكو فيه حالنا، بعد أن سيطر الفكر الديني والسلفي على حياتنا ومقدراتنا، وقتل مع سبق الاصرار والترصد على جل حضارتنا وتاريخنا وكل شئ جميل في حياتنا.

ربما يتساءل البعض، عن علاقة العلوم القديمة بالحضارة الحديثة. العلاقة قوية جدا. الحضارة الحديثة، تركز على العلوم والتكنولوجيا. والعلوم والتكنولوجيا الحديثة، ما هي إلا امتداد ونمو للعلوم القديمة. لا يمكنها أن توجد بدونها.

في مدينة الإسكندرية، في القرن الثالث قبل الميلاد، كان يعيش إقليدس ويؤلف أعظم أعماله. مؤلفات إقليدس لا تزال حية، تدرس بمدارسنا وجامعاتنا. اسمه يقترن بل يعادل اسم الهندسة نفسها.

أثناء الدراسة الابتدائية، نتعلم جدول الضرب ونحفظه صم عن ظهر قلب. ولا نعلم أنه كان يسمى جدول فيثاغورث. ثم نقوم بدراسة نظرية فيثاغورث، ولا يذكر لنا المدرس، من هو فيثاغورث هذا، ولا أين كان يعيش، ولا شيئا عن أفكاره وعصره. ويا ليته يفعل.

هندسة إقليدس لا تزال حية إلى يومنا هذا. وحيث أن الفرد لا يمكنه أن يعيش بمعزل عن المجتمع، إلا إذا كان حي بن يقظان في زمانه. لذلك وجب الحديث عن البيئة التي نشأ فيها إقليدس وغيره من علماء الإسكندرية العظام.

هذا شئ هام، يهمله للأسف الكثير من المؤرخين ونقاد الأدب. كما أنه من الحمق التحدث عن عظائم الأعمال والنظريات العلمية، بدون ذكر شئ عن شخصياتهم ونبوغهم. لا هذا ولا ذاك يمكن فهمه بمعزل عن البيئة الاجتماعية الحاضنه لهم.

إقليدس، ظهر في بداية عصر جديد. يخلف في كل شئ عن العصور السابقة له. يسمى العصر الهيلينستي. كلمة هيلينستي مختارة بعناية. لأنها تعني هيليني + شئ آخر. شئ أجنبي آخر مضاف للثقافة الهيلينية. هذا الشئ الإضافي، هو ثقافة المصريين والفرس والهنود.

الانتقال من عصر الحضارة الهيلينية إلى عصر الحضارة الهيلنستية، يعتبر أعظم ثورة عرفها التاريخ. بطلها وقائدها بدون منازع، هو الإسكندر الأكبر المقدوني، في القرن الرابع قبل الميلاد.

الإسكندر الأكبر، خلال 12 عاما، قام بغزو معظم الدول المعروفة والممالك الكبيرة في ذلك الوقت. من عام 334 ق م، إلى عام 323 ق م، عام وفاته في ريعان شبابه في سن 33 سنة.

جنوده كانوا إغريق. لذلك حملوا معهم بذور الحضارة الإغريقية، وأوصلوها إلى قلب آسيا. هذا يعني أن غزوة الإسكندر، هي التي صبغت ثقافة غرب آسيا بالصبغة الهيلينية. وفي نفس الوقت، صبغت ثقافة شرق أوروبا بالصبغة الشرقية.

بعد هزيمة الفرس، دخل الإسكندر مصر محررا لا غازيا، لكي يخلصها من نير الفرس. لذلك، لم يلق مقاومة من المصريين. الإسكندر الذي كان معجبا بالحضارة المصرية، ككل الإغريق في ذلك الوقت، جاء لهدف يختلف عن أهداف كل الغزاة السابقين.

قام الإسكندر ببناء الكثير من المدن التي تحمل إسمه، "الإسكندرية". بعضها بعيد في سوقديانا خلف نهر الأوكس، أو في الهند خلف نهر السند. لكن أهم المدن، هي مدينة الإسكندرية، التي بنيت بعد وفاته، بعد أن غزى مصر عام 331 ق م.

مدينة الإسكندرية، كانت بالنسبة لمصر، مثل مدينة هونج كونج بالنسبة للصين. أغلبية سكان الإسكندرية كانوا مصريين. الحكام كانوا مقدونيين أو إغريق.

مع ازدهار المدينة وتألقها، جذبت إليها العديد من الأجانب. إثيوبيون، أفارقة جاءوا عبر نهر النيل، أسيويون، يهود، وأيضا شوام، فرس، عرب، وهنود.

سرعان ما صارت الإسكندرية، أعظم المدن الحضارية، وظلت كذلك عبر الأجيال، وباتت مركزا للثقافة والفكر في العالم القديم. موانيها، أضحت الأكبر والأعظم بين كل مواني البحر الأبيض المتوسط.

في شهر يونية/حزيران عام 323 ق م، مات الاسكندر الأكبر فجأة في مدينة بابل. تولى بعد ذلك أحد القواد المقربين له يدعي بطليموس، حكم مصر، ثم صار ملكا فيما بعد.

بطليموس الأول، ابن لاجوس، لقبه سوتر (المنقذ)، حكم واليا على مصر (323-305ق م)، وكملك متوج (305-282ق م). تزوج من ابنة الفرعون "نخت نبيف الثاني"، لكي يصبح فرعونا على مصر، مراعيا للتقاليد الفرعونية.

كان مديرا عظيما ومثقفا رائعا ورجلا له رؤية للمستقبل، يعرف ماذا يريد، وكيف يحقق هدفه. هو مؤسس دولة البطالمة، التي استمرت ثلاثة قرون، حتى حكم كليوباترا عام 30 ق م.

بطليموس الأول.

كان صديق الطفولة للإسكندر الأكبر. ربما يكون أخوه الغير شقيق أيضا. أمه، "أرسينوي"، كانت محظية ل"فيليب الثاني" المقدوني. تربى مع الإسكندر الأكبر، وشارك في كل حملاته ومعاركه في آسيا، وكان من كبار قواده وأعز أصدقائه وذراعه اليمنى.

هذا مكنه من كتابة مذكرات بالغة القيمة عن حياة الإسكندر، لكنها فقدت للأسف. فلابد أن يكون قد ناله شيئا من تعليم وثقافة وفلسفة أرسطو، الذي كان متوليا تعليم الإسكندر الأكبر منذ نعومة أظافره. لذلك، لا نجد غرابة في ازدهار مصر في عهده إقتصاديا وثقافيا وحضاريا.

فيضان نهر النيل في عهده، تم تنظيمه. تحسنت طرق الري. المحاصيل تم حصرها وتخزينها في صوامع بنيت خصيصا لذلك. أنواع جديدة من المحاصيل والحيوانات تم تربيتها والعناية بها.

حرف وصناعات جديدة تم تشجيعها. العملة والتجارة ونظام الإقراض، تم تنظيمه. توسع في التجارة الخارجية. أصبحت مصر مصدرة للمحاصيل، مثل الحنطة وزيت الزيتون والتيل والبردي والزجاج والألباستر.

استخدم الجمل في نقل المحاصيل لأول مرة. استخدم أيضا نظام البريد، نقلا عن الفرس. كانت الجمال خير وسيلة لهذا الغرض، لقدرتها على حمل الأثقال ونقلها بسرعة نسبية.

وسع بطليموس دائرة نفوذه باحتلال فلسطين وسوريا عام 320ق م. قام بضم جنوب ساحل الأناضول وجزيرة "كوس" اليونانية، موطن الطبيب أبوقراط.

زوجته الحبيبة بيرينيس، أنجبت له بطليموس الثاني، فيلادلفوس، أي المحب لأخيه. قام بخلافته عام 285ق م، وحكم حتى عام 247ق م.

بطليموس الثاني.

سار على نهج أبيه، وأكمل مشروعاته، بهمة ونشاط. إلى الدرجة التي يصعب معها فصل أعمال الأب عن أعمال الابن. اهتم باكتشاف الصعيد، وأقام علاقات تجارية بإثيوبيا والدول المطلة على البحر الأحمر والجزيرة العربية والهند.

قام باستصلاح الأراضي، وتجفيف قطعة من بحيرة قارون، لزيادة إنتاج القمح. أكمل تطوير المكتبة، تزوج وفقا للتقاليد المصرية القديمة.

بطليموس الثالث، الحسن، (246-222ق م)، هو ابن بطليموس الثاني. بلغت مصر في عهده، أوجها الحضاري. بدأ بناء معبد حورس بمدينة إدفو. أحسن ما حُفظ من المعابد المصرية القديمة.

بطليموس الثالث.

كُتب على جدرانه، أقدم عمل درامي في العالم. الصراع بين حورس وست. 80 سنة، وفقا للأسطورة المصرية القديمة، هي عمر الصراع بين إله الخير حورس، وإله الشر ست. إلى أن ينتصر حورس في النهاية، ويؤول إليه حكم مصر. أليس الصراع على الحكم مستمرا حتى اليوم؟

كل عام، يحرص الفرعون على أن تعرض المسرحية على مسرح المعبد، حتى يؤكد نصر قوى الخير على قوى الشر. على جدار المعبد أيضا، رسم يبين مد خيط البناء، للاحتفال بوضع أساس بناء المعبد.

مرسوم كانوبي الصادر عام 237ق م، يبين لنا أنه في حالة عدم وفاء النهر، يقوم بطليموس بالتدخل للسيطرة على الأسعار. "بيرينيس" ابنته، عندما ماتت صغيرة، كرمها الكهنة ولقبوها بسيدة العزارى.

قام ببناء السيرابيوم في الإسكندرية، تكريما للإله سيرابيس، إله التناسل. بالمعبد، مدفأتان لهما مدخنتان تمران خلال الحوائط بمواسير، لتوزيع الهواء الحار على الغرف. تدفئة مركزية. ربما تكون هذه هي بداية مكتبة الإسكندرية، حيث تعمل التدفئة المركزية على حماية الكتب من رطوبة الجو.

سيطر على سوريا وآسيا الصغرى وبعض المناطق المحيطة، سنة 246 ق م. شمل نفوذه، بلاد ما بين النهرين وبابل وطرابلس ودمشق وجزيرة قبرص.

نتج عن هذه الفتوحات الكثيرة، مجد عسكري ومنفعة مادية كبيرة. أعاد لمصر، تماثيل من الذهب الخالص للآلهة المصرية. كان قد سرقها قمبيز الثاني أثناء غزوه لمصر من قبل. أحبه المصريون حبا جما وأطلقوا عليه لقب "الحسن".

تقول الأسطورة، أن الملكة المصرية بيرينيس، في القرن الثالث قبل الميلاد، حزنت حزنا شديدا لذهاب زوجها الملك بطليموس الثالث للحرب.

لخوفها على حياة زوجها، نذرت للآلهة ضفائر شعرها الجميل، إن عاد زوجها سالما من حرب الأشوريين، بعد أن ذهب إليهم لكي ينتقم لمقتل أخته على أيديهم.

عاد الملك سالما من الحرب، فقامت بيرينيس وفاء لعهدها، بقص ضفائرها ووضعها في المعبد قربانا للآلهة، التي حمت زوجها أثناء الحرب.

عندما ذهب الملك للمعبد ليرى ضفائر زوجته الوفية، أخبره الكاهن كونون أن الضفائر قد اختفت من المعبد، دليلا على قبول الآلهة للقربان.

من شدة سرور الآلهة بالضفائر، وضعتها كبرج من أبراج السماء (برج الهلبة)، لكي يشاهدها كل الناس. ثم أشار الكاهن إلى موقع البرج في السماء لكي يرى الملك بنفسه ضفائر زوجته الوفية.

برج الهلبة (كوما بيرينيس).

تعلم الكثير من المصريين اللغة الإغريقية، وقام الكاهن المصري مانيثون بكتابة تاريخ مصر باللغة الإغريقية، جمعه من سجلات المعابد وأفواه الناس.

لكن للأسف، فقد هذا التاريخ النادر، ولم يتبق منه سوى شذرات تافه. مع ذلك، ظل المصدر الرئيس لتاريخ مصر، حتى فكت رموز اللغة الهيروغليفية.

في عصر البطالمة، كان المصريون المزارعون أحرارا لا عبيدا. استخدموا هندسة إقليدس في أعمال الري وتحديد المساحات والارتفاعات. طبقوا الأسلوب العلمي في الزراعة، حتى أمكنهم زراعة الحقول بثلاثة محاصيل في العام الواحد.

أدخلت الحكومة أنواعا جديدة من المحاصيل وغرست كميات كبيرة من الكروم. تقدمت زراعة الزيتون، ونشطت تجارة زيت الزيتون، وفرضت الحكومة رسوما باهظة على الزيتون المستورد، حتى تحمي الإنتاج المحلي.

استنبطت فصائل جديدة من القمح، وأدخلت زراعة الثوم، وأصناف جديدة من الكرنب، وأنواع متباينة من الفاكهة. وغرست الورود والأزهار على نطاق واسع، لأنها كانت تستخدم في عمل الأكاليل التي تلبس في المآدب والحفلات العامة.

استوردت الحكومة سلالات جديدة من الحيوانات، منها الأغنام التي تنتج الصوف الجيد، لتحسين السلالات المحلية. وبدأ الجمل ينتشر ويستخدم في مصر بكثرة. انتشرت أيضا تربية النحل.

سك بطليموس الأول عملة ذهبية وفضية وبرنزية. الأجور كانت تدفع عينا، والمخازن الحكومية كانت تجمع فيها الغلال، وتعمل مثل البنوك. وعرف المصريون الصكوك(الشيكات) للصرف من المخازن أو البنوك.

كانت مصر أكبر منتج للغلال في شرقي البحر الأبيض المتوسط. صدرت البردي والكتان الرفيع والزجاج متعدد الألوان من الإسكندرية والألاباستر، وكانت مركزا عالميا للتجارة العابرة.

الإسكندرية قام بتصميمها المهندس دينوكراتيس، وفقا لأحدث القواعد في تخطيط المدن. بين بحيرة مريوط والبحر الأبيض، على شريط رملي.

كان أمامها جزيرة فاروس التي وصلت باليابسة بواسطة جسر. فنشأ عن ذلك، ميناء واسع آمن في الشرق، وآخر في الغرب. على بضعة أميال جهة الشرق، تقع قرية أبوقير، التي كانت مكانا للترفيه، شبيه بمدينة أتلانتك سيتي، أو ملاهي ديزني لاند بالولايات المتحدة.

مدينة الإسكندرية كانت مستطيلة، يشقها من الشرق إلى الغرب شارع فسيح مستقيم يسمى شارع كانوب (اسم نجم، هو الاسم القديم لأبوقير).

تحف به الأعمدة والبواكي، وتقطعه شوارع أخرى فسيحة. قسمت المدينة إلى خمسة أحياء: ألفا، بيتا، جاما، دلتا، إبسيلون. وهي أوائل الحروف اليونانية.

السكان، كانت غالبيتهم من المصريين وقله من الإغريق واليهود وأجناس أخرى. يتمتعون بكافة حقوق المواطنة. لهم مجلس شورى وجمعية شعبية. سرعان ما أصبحت الإسكندرية أعجوبة العالم بلا منافس.

أصبحت عاصمة للبلاد بدلا من منف. كانت ترتفع فوق جزيرة فاروس المنارة الشهيرة. في سيما، كان يرقد جثمان الإسكندر الأكبر. في منطقة راكوتيس، كان معبد السرابيوم الذي بناه بطليموس الثالث. دليلا على أن سرابيس كان إلها مصريا.

كان هناك أيضا، مبنى معهد الألعاب الرياضية، واستادا رياضيا، وحلبة سباق للخيل، ومسرحا، والقصر الملكي، وبجواره متحف ومكتبة الإسكندرية الشهيرة.

المتحف، هو من منتجات بطليموس الأول، طوره بطليموس الثاني. كان في الأصل معبدا لربات الفنون والعلوم (Musae). وهن بنات "زيوس"، إلهات العلوم والفنون والموسيقى التسعة. من هنا جاءت كلمة موزه، التي نطلقها على الفتاة الحلوة الجميلة في بلادنا.

في الواقع، هو أشبه بالأكاديمية أو الجامعة في لغتنا الحديثة. كان يقيم في المتحف على نفقة الدولة عدد من العلماء والأدباء، ولا تجبى منهم الضرائب.

بني المتحف تحت اشراف ستراتون، تلميذ ثيوفراستوس مدير مدرسة الليسيوم بأثينا، لكي يكون جزءا من مكتبة الإسكندرية. بفضل ستراتون، أصبح المتحف امتدادا لمدرسة الليسيوم في أثينا، التي أنشأها أرسطو وكان يدّرس بها حتى فراره من أثينا عام 323ق م.

متحف الإسكندرية، هو أول مركز أبحاث علمي عرفه التاريخ. ستراتون كان مهتما بدراسة الطبيعة، وكان يعرف بالفيزيائي.

فقد كان علماء الاسكندرية يتبنون في ذلك الوقت، أفكار أرسطو، التي تقول أنه لا يحدث أي تقدم، إلا على أساس علماني، وعلى أساس الاهتمام بالعلوم، خصوصا علوم الفيزياء.

الفنارة المصرية القديمة، إحدى عجائب الدنيا السبعة، كانت من منجزات بطليموس الثاني. قام بتصميمها المهندس سوستراتوس. من الأعمال الحضارية النادرة، التي بنيت لغرض خدمة التجارة. غرض إقتصادي لا ديني.

ارتفلعها 423 قدم عن سطح الأرض. بنيت على أرض جزيرة فاروس. كلمة فنارة التي تطلق على كل فنارات العالم، جاءت من اسم جزيرة فاروس، التي بنيت عليها الفنارة.

الفنارة عبارة عن ثلاث طبقات. قاعدة مربعة، تعلوها قاعدة مثمنة، ثم قاعدة مستديرة تعلوها الفنارة. يمكن للمراكب أن تراها من بعد 30 ميل وهي في عرض البحر. نار مشتعلة بصفة دائمة في الجزء العلوي. الضوء ينعكس بمراية ضخمة من البرنز.

في عام 1303م، دمر زلزال شديد هذا العمل الرائع. السلطان قايتباي، استخدم ماتبقى من أحجارها لبناء قلعته، "قلعة قايتباي"، مكانها، في جزيرة فاروس، التي ضمت إلى الإسكندرية وأصبحت جزءا من مينائها.

مكتبة الإسكندرية، التي بناها بطليموس الأول، سوتر (المنقذ)، والتي لم يبق منها شيئا الآن، كانت تحتوي على ما يقرب من 700 ألف لفافة بردية (كتاب).

لكي يزيد بطليموس الثالث من حجم هذه المجموعة، أصدر أمرا يقضي بأن كل مسافر ينزل بالإسكندرية، عليه أن يسلم أي كتب توجد في متاعه لضمها إلى المكتبة، على أن يعطى نسخة رسمية بدلا منها.

استعار بطليموس الثالث من أثينا، الأصول الرسمية لمؤلفات أسخيلوس، وسوفوكليس، ويوريبيديس، كي يقوم بنسخها نظير ضمان مالي قدره ما يساوي 90 ألف دراخما. لكنه فضل أن يخسر هذا المبلغ على أن يرد الأصول، وأرسل بدلا منها نسخا فقط.

في مكتبة الإسكندرية، وضعت أصول علم التصنيف، ووضعت قواعد نقد النصوص الأدبية، وقوائم للمؤلفات الأدبية والعلمية والفلسفية، وحققت مؤلفات هوميروس، ثم أخرجت في صورة لا تختلف كثيرا عن التي بين أيدينا اليوم.

كما ابتكرت العلامات الصوتية في النطق، وعلامات الاستفهام والتعجب وفواصل الكلام في الكتابة، ولم تهمل الرياضيات والعلوم البحتة.

هنا أقيم أول مرصد في العالم لرصد الأجرام السماوية وقياس زوايا رصدها، وعمل الجداول الفلكية. أقامه "أرستيلوس" و"تيموخارس". "أرستارخوس" كتب رسالة عن حجم وبعد كل من الشمس والقمر عن الأرض.

في الإسكندرية أيضا، استطاع إراتوستينيس أن يقيس محيط الكرة الأرضية ويحسب حجمها بدقة بالغة. واستطاع أريستارخوس أن يكتشف دوران الأرض حول الشمس، قبل أن يكتشفه كوبرنيق ب 18 قرنا من الزمان.

لم تكن فروض أرستارخوس مجرد حدس وتخمينات، إنما كانت مبنية على التجربة والمشاهدة. فالأرض كرة، تدور حول نفسها، وتدور حول الشمس.

كان يقول، أن الشمس ضخمة جدا، بالنسبة للأرض. من الصعب أن يأسر الصغير الكبير. إنما العكس هو الصحيح. السماء بها آلاف النجوم. لماذا تدور كلها من أبعاد شاهقة حول الأرض بانتظام.

أليس من الأسلم والأبسط، القول بأن الأرض هي التي تدور حول محورها، بدلا من القول بأن هذا الكون كله هو الذي يدور حول الأرض؟

عندما تنظر من نافذة القطار، سوف تجد أن الأشجار والطريق والعربات وكل شئ يجري، أليس من الأسلم والأبسط، كما يقول "أريستارخوس"، أن نقول بأن القطار هو الذي يجري.

قام علماء الإسكندرية أيضا، بقياس درجة ميل المحور الذي تدور حوله الأرض، وعرفوا أنه يتحرك مثل المغزل، مثبت من ناحية ويدور من ناحية أخرى، وقاموا بقياس زاوية الدوران.

أبولونيوس، عالم رياضيات. قام بدراسة القطوع المخروطية والدائرة، وله نظريات هندسية مشهورة لا تزال تدرس حتى الآن. منها، المثلث المرسوم في نصف الدائرة، قائم الزاوية، ونظرية الدائرة ذات النقط التسع.

أرشميدس، في الإسكندرية، قام بدراسة الدائرة والكرة والاسطوانة والشكل الحلزوني والقطع المكافئ والأجسام الطافية. وقام باختراع الطنبور الذي ينقل الماء من أسفل إلى أعلى.

في المتحف أيضا، ألف إقليدس عام 300ق م، كتاب الأصول في علم الهندسة، التي تدرس في مدارسنا اليوم. للأسف لا نعلم الكثير عن حياة هذا العبقري إقليدس. فقد جرت العادة أن نحفظ سير الطغاة والسياسيين والأثرياء، وننسى من ساهم بحق في تقدم البشرية.

هذا ينطبق على إقليدس، وشيكسبير وغيرهما من العباقرة. كل ما نعرفه عن إقليدس وغيره من العلماء، أنهم عاشوا في الإسكندرية أيام حكم البطالمة، وربما يكون بعضهم قد درس في أكاديمية أفلاطون بأثينا.

يقال أن بطليموس الأول، سأل إقليدس عن طريق مختصر لكتابه الأصول في الهندسة. وكان الجواب: "لا يوجد طريق ملكي للهندسة". إجابة رائعة. فالرياضيات والعلوم، لا شأن لها بالمتلقي، ولا تعبأ النظريات بالمناصب والوضع الاجتماعي للأفراد.

قصة أخرى لا تقل حكمة عن الحكاية السابقة، تقول بأن أحد التلاميذ، الذي بدأ دراسة الهندسة على يدي إقليدس. بعد أول نظرية في الكتاب، سأل التلميذ: "ماذا أستفيد من دراستي لهذه النظرية؟" هنا صاح إقليدس في خادمه قائلا: "أعطى هذا الرجل فلسا، لأنه يريد الاستفادة مما يتعلمه."

إقليدس هذا، صاحب كتاب الأصول في الهندسة، يختلف عن إقليدس الفيلسوف، من ميجارا، أحد تلاميذ سقراط، وصديق أفلاطون.

في كتاب الأصول لإقليدس، من الباب الأول حتى الباب السادس، مخصصة للهندسة المستوية. من السابع إلى العاشر، للحساب والأعداد بما في ذلك الأعداد الأولية، المضاعف المشترك الأدني، والقاسم المشترك الأكبر، والمتواليات الهندسية، إلخ.

من الباب الحادي عشر إلى الثالث عشر، مخصصة للهندسة الفراغية. الباب العاشر، مخصص للخطوط التي يمكن التعبير عنها بالمعادلات.

في متحف الإسكندرية، اخترع هيرون الآلة البخارية، واخترع كذلك الآلة الأوتوماتيكية. وألف بطليموس القلوذي فيما بعد، كتاب المجسطي، وهو أهم كتاب في الفلك. ظل متداولا في العالم القديم أكثر من ألف عام.

ذاع سيط مدرسة الطب الإسكندري ولاسيما التشريح والجراحة. هنا بين "هيروفليس"، أن المخ، وليس القلب، هو مركز العقل والتفكير والعواطف.

لكننا لازلنا نحب بالقلب ونفهم بالقلب ونحفظ عن ظهر قلب، ويغني لنا فريد الأطرش ويقول: "يا قلبي يا مجروح". كان الأجدى به، لكي يكون منطقيا، أن يقول: "يا مخي يا مجروح". لأن المخ، وليس القلب، هو مركز العواطف.

في الإسكندرية، أمر بطليموس الثاني، بترجمة التوراة إلى اللغة الإغريقية، بمساعدة 70 حاخام. لكي ينتفع بها اليهود المشتتون، وهي الترجمة المعروفة بالسبعينية. وفيها، جاء فيلون بمذهبه عن اللوغوس الإلهي.

هنا في الإسكندرية أيضا، قامت هيباتيا، العالمة والفيلسوفة المصرية، بشرح وتدريس الفلسفة والرياضيات والفلك. وقامت أيضا بعمل رسم للأجرام السماوية.

اخترعت هيباتيا أيضا جهازا لقياس كثافة ولزوجة السوائل (الهيروميتر)، واخترعت الاسطرلاب المسطح الذي يستخدم في رصد النجوم والكواكب والشمس والأبراج الفلكية.

أهم أعمال هيباتيا كانت في علم الجبر. كتبت 13 بحثا تشرح فيها كتاب ديوفانتوس الإسكندري الذي يعتبر أبو علم الجبر، والذي توصل إلى حل معادلات الدرجة الثانية. عاش في القرن الثالث الميلادي . كانت لهيباتيا حلولا مبتكرة ومسائل من تأليفها.

بالرغم من الاحتلال الروماني، كان المصريون في القرن الأول الميلادي، يتمتعون بدرجة لا بأس بها من الرخاء. لا يتبين من الحفريات التي وجدتها جامعة ميشيجان في قرية كرانس (كوم أوشيم) بالفيوم، أي تدهور ملموس في مستوى العمارة أو في رونق الحياة الاجتماعية قبل أواخر القرن الثاني الميلادي. فدب النشاط بصورة واضحة في المجالس البلدية، بعواصم الأقاليم، وظل لواء الثقافة الهيلينستية مرفوعا.

أظهرت الاكتشافات في البهنسا، التي لم تكن مدينة إغريقية، بل مجرد عاصمة لأحد الأقاليم المصرية، أنه كان في متناول قرائها عدد ضخم من المؤلفات المتنوعة في الأدب اليوناني الكلاسيكي بصورة تبعث على الدهشة.

كانت أشعار هوميروس، هي الكتاب الرئيس في التعليم المدرسي، في كل مكان. ولا ينبغي أن ندهش لوجود قصائد هيسيود، وأغاني سافو وروايات مناندر وقصائد كاليماخوس في مصر متداولة بين المصريين.

وأجزاء من قصائد الشعراء الغنائيين، وروايات الكتاب المسرحيين الأوائل، كأناشيد الشكر وغيرها من المنظومات لبندار والشعراء المعاصرين. وروايات أسخيلوس وعددها لا يقل عن 40 رواية، وروايات أخرى لسوفوكليس ويوريبيديس وأرسطوفان.

لقد كان هناك جمهور كبير من القراء وتجارة رائجة في الكتب. لم يكن التعليم مقصورا بأي حال من الأحوال على الصفوة من الأثرياء. فقد أدركت قيمته وسعت في طلبه تلك الطبقة المتوسطة التي بذل البطالمة قصارى جهدهم في سبيل بنائها.

كان التعليم يبدأ بالقراءة والكتابة. أولا الحروف الأبجدية، فالمقاطع المكونة من حرفين، فالمكونة من ثلاثة، إلخ. بعد ذلك، الكلمات الكاملة. منهج الدراسة يتدرج بعد ذلك إلى: النحو والبلاغة والأدب والعلوم الرياضية والفلسفة والمنطق.

التلاميذ مطالبون بكتابة موضوعات إنشائية. وفي مرحلة أعلى، بكتابة خطب في موضوعات مقررة. إلى جانب ذلك، كانوا يدرسون القصص والأساطير الإغريقية. ويتبين من كثرة استخدامهم للحكم والأمثال، لتمرين التلاميذ على المطالعة، اهتمام المربين بالناحية الأخلاقية.

كان التعليم مختلطا، ويوجد إلى جانب المدارس المحلية ومعاهد التربية، مدرسون خصوصيون، لهم مكانة رفيعة في المجتمع، يفد إليهم التلاميذ من جهات نائية.

عندما يتم التلميذ المراحل الأولى من التعليم، كان الراغبون منهم في التعليم العالي يلتحقون بجامعة الإسكندرية (المتحف).

كان التعليم في مصر، يتضمن التربية البدنية، التي تشمل المصارعة والتدريبات الشبه عسكرية. كانت استعراضات الشباب والاحتفالات الرسمية، تتخللها مهرجانات يتمتع بمشاهدتها سكان عواصم الأقاليم.

كما كانت تقام حفلات رياضية دورية يتبارى فيها الهواة من جميع الطبقات في الملاكمة والمصارعة والجري وغير ذلك من الألعاب الرياضية.

كانت تقام حفلات تمثيلية يشاهدها سكان العواصم لمشاهدة روايات من التراجيديا الإغريقية الكلاسيكية، ومن الكوميديا الجديدة.

كما تيسر لهم الاستمتاع بمشاهدة الروايات الشعبية المضحكة، والأدوار الهزلية، في المسارح المحلية وقاعات الموسيقى.

كانت هناك فرق متجولة للموسيقى والرقص والألعاب البهلوانية، وما إلى ذلك، للترفيه عن الفلاحين في القرى النائية بأطراف الأقاليم.

لم تكن الحياة في مصر خالية من المباهج، حتى القرن الثاني الميلادي. البرديات تصف أضواء باهرة للحياة العائلية السعيدة، وما يتخللها من حفلات خاصة بأعياد الميلاد.

وولائم للغذاء أو العشاء، ومناسبات اجتماعيةأخرى. ومشتروات، دمى وحلوى للأطفال، ورسائل خاصة متبادلة بين الأفراد والأسر والمحبين، زاخرة بالأشواق.

لكن الأيام السعيدة لا تدوم. فماذا حدث لهذه النهضة العظيمة التي قامت في مصر، والتي لم تستمر للأسف سوى 100 سنة فقط، هي فترة حكم البطالمة الأوائل؟

انحدار مصر سياسيا بعد الحكام البطالمة الأوائل، أدى إلى فقدها استقلالها، وتحويلها إلى ولاية رومانية. بدأ هذا الانهيار مع تولي "بطليموس الرابع" (222-205ق م)، "فيلوباتور" (المحب لوالده). وبات يتوالى ملوك البطالمة، بطليموس وراء بطليموس، إلى أن نصل إلى بطليموس الخامس عشر.

لكن لم يكن بينهم ملوك عظام، مثل الأول والثاني والثالث. أشهر البطالمة بصفة عامة، هي الملكة كليوباترا (69-30ق م).

مصر تحت الحكم الروماني والبيزنطي، رأت نهاية حضارتها الفرعونية القديمة. المعابد والكهنة، لم يجدوا إلا الإهمال والتجاهل ثم الاضطهاد. اللغة المصرية القديمة ذبلت وماتت، لكن الموت كان بطيئا، استمر ستة قرون.

مكتبة الإسكندرية العظيمة، احترقت، أثناء حصار الرومان للأسطول المصري بالإسكندرية. واختفت من التاريخ. ويخبرنا ابن سعد في الطبقات الكبرى، أن عمر بن الخطاب قد أمر بحرق مكتبة فارس، أي مكتبة ملوك الفرس التي كانت ولا شك تحتوي على ملايين الكتب، لقوله لا كتاب بعد القرآن.

لذلك أصبح من التقاليد العربية الأصيلة، حرق الكتب والمؤلفات، والاكتفاء بالقرآن وكتب التفاسير. لذلك تم حرق ما وجد من كتب مكتبة الاسكندرية. أخذت جلودها لتصنع منها النعال. أما أوراقها، فقد جعلت وقودا للحمامات استمر أربع سنوات، كما يروي الزمخشري.

لكن لا يزال تأثير الحضارة المصرية على العالم كبير وخطير. التقويم الشمسي الذي نستخدمه الآن، تقويم مصري مئة في المئة. الورق، اختراع مصري، غير العالم.

الديانة المصرية القديمة، هي مركز ديانة الحضارة الغربية حتى الآن. ديانة التوحيد، ظهرت أول مرة مع إخناتون، واستمرت إلى الآن. الطقوس المسيحية، من التثليث، و الأم المقدسة والطفل، لا تختلف كثيرا عن إيزيس وأوزوريس والطفل حورس.

كذلك حكاية البعث والحياة بعد الموت والثواب والعقاب. كبير الأساقفة والبابا والروب والتاج والعصا والمذبح والدير والصومعة والرهبنة والعزوف عن الزواج والتطهر بالماء والأجراس والتراتيل والبخور والشخاليل، إلخ. كلها عادات، موروث الحضارة المصرية القديمة.

كذلك المسرح والموسيقى والأدب والشعر والأغاني والمواويل، إلخ. الحكومة والضرائب والمدارس العامة والتعبئة العامة للمشاريع القومية، إلخ. أما ما ورثناه عن الحضارة المصرية القديمة من فن وأدب وعمارة وعلوم وفلك، فلا يتسع المكان لسردها هنا.

بعد موت هيباتيا على أيدي الغوغاء والتعصب الديني، فر أساتذة الفلسفة من الإسكندرية إلى أثينا. حيث كان التعليم العلماني لا يزال حرا نسبيا.

كانت حياة العلماء أكثر أمنا في مدينة أثينا، منها في مدن كثيرة غيرها. وكان الطلاب فيها نشيطون تسودهم الحياة العلمية الراقية. لكن المدرستين، الرواقية والأبيقورية، كانتا قد اختفتا من مدينة أثينا.

المجتمع العلمي الأفلاطوني كان قد تدهور بشدة. في عام 529م، أغلق الامبراطور جستينيان مدارس أثينا، فاقتصر علمها على ترديد القديم مرارا وتكرارا. ولم تخرج عليه ، إلا إلى نزعات صوفية تستعير من مذاهب بعيدة عن المسيحية الأصلية.

ثم أغلق جستانيان مدارس الفلسفة والبلاغة، وصادر أملاكها وحرم الاشتغال بالتعليم على جميع العلمانيين. وبذلك انقضى عهد الفلسفة اليونانية بعد حياة دامت أحد عشر قرنا من الزمان.

بذلك، يكون قد تم الانتقال من الفلسفة إلى الدين، ومن أفلاطون وأرسطو إلى المسيح. وأسبل الستار الكثيف على العقل والفكر. وبدأت رحلة الألف سنة. العصور المظلمة، والعصور الوسطى. حالكة السواد والبؤس.

ها نحن نعيد عجلة التاريخ، ونكرر عصر هيباتيا. بدستور يحكّم مشايخ الأزهر، عبدة النصوص وأصحاب الفكر الوهابي اللاعقلاني، في حياتنا وحضارتنا وثقافتنا. وأحزاب دينية وسلفية مسموح بها، رغم عدائها للحضارة والإنسانية.

لا تؤمن بوطن، وتعادي الفنون والموسيقى والفلسفة والمنطق وكل تاريخ يخالف تاريخ البعثة المحمدية. مدعومة من حكومة، فقدت القدرة على قراءة الماضي ورؤية الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى