الأربعاء ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم حسن برطال

حـفـار الـقـبـور

كم هي جميلة أيامك يا عباس.. وبيضـاء كالبياض في وزرة الممرضة.. آه..

اعذرني يا عباس، لقد نسيت نفسي وتركت العنان للـساني ليقول هذا..

لقد حذرتني مرارا من ذكر الممرضات.. والأطباء في وجودك.. ترتـعد
أطرافك.. تتعود بالله.. تبسمـل.. تحوقل.. تبصق علـى الصدر، لكن
عباءتك تفضحك حينما تكشف عن شعيرات الصدر التي تقول لك انك
أكبر من هدا يا عبـاس.. المعذرة مرة ثانية إني لم أقصد استفزازك لكـنه النسيان يا عباس.. النسيان..

+++++++++++++

غريبة أطوارك يا هدا الرجل.. تعشق بياض الكفن المفزع وتستأنس بـه و تكره البياض المسالم.. تخشى ذبح ديك.. هكذا قالت زوجتك.. لكنك
تقوى على دفن إنسان.. فكم هو غريب أمر خليط شجاعـتك وجبنك يـا عبـاس.

سوف لن نذكر الأسماء.. ولكن، سنتكلم عنهم قليلا.. أيرضيك هـدا يا عـبـاس..؟؟ متى ابتدأت كراهيتك لهؤلاء الديـن يحـبونـنا..؟؟

ويـقدموا لنا الحياة والشفاء أحيانا..؟؟ لـمادا ترتعـد هكذا..؟؟

هل قلت شيئا أغضبك..؟؟ قلت، يعطونا الحـ.. ي.. عـفوا.. عـفوا..

لاشك أنك تكره هده الكلمة..؟؟ لكن لمادا يزداد الرقص والاصفرار في وجهك كلما نطقت بكلمة – طبيب – كذلك.. هـذيان عـبـاس

رغم غموضه يظل محبوبا لما يفوح به من عطر وحي مقدس يطير
على ظهر – براق – مع كل موكب جنائزي..

يتساءل عـبـاس:

  لماذا يزداد الجسد ثقلا بعد خروج الروح..؟؟

تصل إلى أذنه تراتيل قرآنية على قبر ميت.. يسري الشجى في
عروقه، يشعر بالروح تلج جسده وبخفة في أطرافه فيـعود
إلى رشده ويبتعد عن هذا الشرك

يضيف عـبـاس قـائلا:

 إن عملية الدفن كانت سهلة.. والأرض كانت رطبـة
إن الميت رجل صالح سيدخل الجنة.. يهلل الأحبة.. يكبرون
يقول فقيه من هـنـاك:

  لا يـعـلـم بـالـغـيـب سـوى اللـه..

يتعود عباس بالله من الشيطان الرجيم ويستـمر في عمـله
تنتهي عملية الدفن بقليل من الجهد.. يطلب عباس نقـودا
يدخل أحد أقارب الميت يده في جيبه تطلع مع الورقة النقدية
عشرون وصفة دواء.. يقول عباس في قرار نفسه:

  إن الأرزاق بيـد الله لا يـعـتـرض سـبيلـها طبـيب..

ذكرته الأرزاق بخبز الأولاد وأسئلة ابنه الأصغر:

 إلى أين أنت ذاهب يا أبي، في هدا الصباح..؟؟مرة أخرى
و الفأس في يدك..؟؟

 إلى الحقل يا ابني.. إلى الحرث..

 لكنـه الخريف يـا أبي وموسـم الـحرث لم يحل بـعد..

يشعر عباس بعقدة في لسانه يصعب فكها ويجف الريق في بلعومه
و تتداخل الكلمات، فقط ليتمتم.. يبدي انشغاله بمسح الفـأس
ليخفي ارتباكه الواضح وفي الغالب يغادر البيت على غير هدى
فارا من هذا الجو القاتل..

+++++++++++++

هـل كذب عباس..؟؟ أليس ذاهبا إلى الحقـل..؟إلى الـحرث..؟؟
ما الـفرق بين عملية الحرث وحـفر قبر سوى الآلات المتطـورة..
والجرار.. والتطورات العلمية التي يكرهها عباس.. والطب كذلك
يكره تحديد النسل الذي يحدد رزقه.. الإجهاض.. ومجاري الـوادي
الحار التي تقاسمه عملية الدفن.. يكره البحر.. النهر.. والنار حينـما يسرقون منه الجثث.. يحب الحرب ويكره السلم.. يحب كل مــا
يعطي ضحايا وأموات..

يحرثون ليزرعوا بذورا.. يحفر ليضع بذرة.. ربما ستعطي نخلة تزورهـا
النساء.. يتعلق بها الأطفال.. التمائم وقطع القماش.. وما الفـرق
بين الموسمين..؟؟ موسم الحرث لابد أن تسـبقه أمطار، تبلل الأرض
لتقتات البذرة في مراحلها الأولى.. لكن عباس ليس في حاجة إلـى
مطر.. فالسطل دوما بجانبه مملوء بالماء.. يرش على بذوره.. فيعطيها الحـيـاة..

تطلب زائرة من عباس أن يرش قليلا من الماء على قبر يبدو أنه حديت
العهد بهده المدينة.. مهمل الجوانب ليس فيه من زخرف القبور المجاورة شيء..

 على القبر أن يتوفر على الشاهد،على الأقل.. كي لايضيع وسط هذه
المدينة.. يـاسـيـدتـي..

 وكم يتطلب ذلك من المال.. يـا سـيـدي..؟؟

 أنت وإيـمـانك.. يجيب عباس..

تضع السيدة بعض الدريهمات من مال الدفين في كف عباس ممزوجة بدموع
الترمل.. وضع ما ناولته اليد في جيبه.. ورش القبر بما جادت بـه عـين الزائرة من دموع، تم انكب على نقش اسم الدفين.. لقبه.. وتاريخ وفاته بخط مفكك غير مقروء على حجر..

أنت مـبـروك.. إنه اسم على مسمى.. هكذا تمتم عباس..

 كان موتك يوم الجمعة عيد المؤمنين.. وهذا أكبر دليل مبشر بالجنـة

 إنك فقير الحال يا مـبـروك.. وهذا واضح في قبرك المنسي.. ويبدو
كذلك أنك قد تعذبت في دنياك.. لأن همومك وأحزانك بارزة على وجه
زوجتك التي زارتك هذا اليوم.. لكن لا بأس.. فها أنت تستريح في حياتك الثانية إنهم يقولون:

 كل من تعذب في الدنيا، يستريح في الآخرة والفقير يصبح غنيا هناك
تحرك العطف في قلبه.. ذكره الغنى بفلوس الزائرة المغلوبة التي تسلـمـا قبل قليل..

تنهد.. وقف على الفور يرتعد.. حوقل.. ثم قال: اللهم اجعل آخرنا خير من أولنا.. ثم قبض على الفلوس وجرى خلف الزائرة لكن سرعـان
ما انتقل وسخ الدنيا من كفه ليوسخ قلبه من جديد.. توقف في منتصف الممر ثم عاد ليبدأ رحلة ثانية عبر القبور بحثا عن عمل جديد والسطـل في يده اليمنى والفأس في اليسرى.. يقول عـبـاس:

 كلما لامست يدي الأرض لأقيس شبرا منها، ونصيب الساكـن
الجديد يخيل لي أني أعاهد صاحب هذا القبر على أن يكون هذا آخـر
ما أحفر، ووسط عويل ونواح أسمعه ولا أحس به أدلي الجسد الهامد
إلى القرار وأغطيه بالتراب.. أرشه بشيء من الماء.. أنفض الغـبـار
من يدي لتحـل مـحله نقـودا كالـعـادة فأنسـى الـعـهـد

+++++++++++++

لكن هذه المرة لماذا يسير عـبـاس في اتجاه المخرج الرئيسي للمقبرة
على غير عادته..؟؟ يتخطى القبور تارة وكلما تخطى قـبرا تلتـف
النباتات المتوحشة حول رجليه تكاد تسقطه على الأرض فيستعـين
بعصا فأسه لينتقل إلى الممرات الغير المعبدة..

متى كانت هذه الممرات..؟؟ ومـتى كانت القبور تعـرقل تنقلاتـه
و تحركاته داخل هذه المقـبرة..؟؟ غريب.. ليس الأمر ولكنه هـو
الغريب في هذه المقـبرة اليوم.. لا يعرف كيف يمشي.. ومن أيـن
يمر.. غـريـب.. فلأول مرة يشعر عـبـاس بأن المسـافة الفاصلة
بين المخرج وقبره هذا اليوم مسافة طويلة والمشي فيها شاق ومتعب
و لأول مرة يشعر بأن شيئا داخل صدره يتحرك وكوامنه تتـأرجح
لكنه حـتى الآن لم يعرف مصـدر هذا الإحـسـاس الـغـريـب

يخرج عباس وعلى مقربة من الباب الخارجي تلامس وجهه ريح العشية
كعادتها لكنه لأول مرة يشم فيها نتانة الجسد المتفسخ ورائحة إفرازات قلب مطعون بداخله.. فتنتصب أمامه صورة زوجته الدفيـنة بقامـتها فيختفي سواد عينيه في بياض كفنها الناصع.. يرتبك.. تصطك ركبتـاه يلتفت إلى المقبرة كأنه يبحث عن شيء لكن السور العالي يمنع بصـره
فيركض عائدا عبر الباب، ليعانق القبر ويدق الفأس مكان الشاهـد
كأنه يكتب بحروف بارزة: - هـذا قـبر زوجـة حفـار القبـور..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى