الاثنين ٣١ آب (أغسطس) ٢٠١٥
رُؤى ثقافيّة «173 »
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

العابثون بالتاريخ!

(23- اليهود.. وخِتان بني إسرائيل!)

يذهب (د. الصليبي)(1) إلى أن كلمة «يهود»، تعني: «شَعْب الوِهاد»، جمع «وَهْدَة»، إشارة إلى الجانب البحري لجنوب وغرب (الحجاز). وهكذا يسعى جاهدًا، بصورةٍ اعتباطيَّة، لإلصاق الكلمات التوراتيَّة بأيّ مفردةٍ في معجم اللغة العربيَّة. لا يعنيه بعدئذٍ أ كانت اسم مكان، أم قبيلة، أم كانت وصفًا، قديمة أو حديثة؟ بل لا يسأل أ هي صحيحة أم مصحَّفة؟ فلقد فتنته فرضيَّته واستغوته عن كل تلبُّثٍ أو تأمُّلٍ أو تدبُّرٍ أو منهاج؛ فأراد أن يمضي في تأويله إلى أقصاه، فلا يترك صغيرة ولا كبيرة إلَّا أوَّلها وأصَّلها في الجزيرة العربيَّة. إن كلمة "وَهْدَة" وصفٌ للمنخفضٍ الأرضيٍّ، حيثما كان. لكن المؤلِّف إذا لم تُسعفه الأسماء، لجأ إلى الصفات. أمَّا اسم اليهود، فكأنما (القرآن الكريم) كان يشير إلى اشتقاقه في قوله، على لسان اليهود: "إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ"(2). ومادة (هود) في العربيَّة تعني: رَجَعَ. ومن ذلك لعلّ بعض اللهجات الجنوبيَّة، كلهجات (جبال فَيْفاء) و(جبال الرَّيث)، اشتقّت اسم "الهَوْد"، بمعنى: حفل الخِتان، أو النكاح. من حيث هو رجوع إلى ذوي رَحِمٍ في مناسبةٍ كتِلك، تتجلَّى فيها صِلة الرَّحِم وعلاقة النَّسب. ولاسيما أن المختون في يوم الخِتان كان يمثِّل الذُّكورة، وما تعنيه عِرقيًّا، وكان لا بُدَّ له، من أجل ذلك كلّه، من أن يُلقي بين يدَي تلك العمليَّة الجراحيَّة سلسلة نَسَبه كاملًا، ونسب أخواله، في ثقةٍ وبلا تلعثم، في طقسٍ قَبَليٍّ مهيب. أمّا الشأن في هَوْد النكاح، فواضح. وممَّا يدل على أن "الهَوْد" مشتقٌّ من ذلك، أن نجد في العربيَّة قولهم: إن الهَوَادَة هي الحُرْمَةُ والسَّبَبُ؛ فتَهَوَّدَ، إِذا تَوَصَّلَ بِرَحِمٍ أَو حُرْمَةٍ، أو تَقَرَّبَ بِإِحْدَاهُمَا. مستشهدين ببيت (زُهير بن أبي سُلمى):

سِوَى رِبَعٍ لَمْ يَأْتِ فيهِ مَخَافَةً ** ولا رَهَقًا مِنْ عَانِـدٍ مُتَهَوِّدِ

قيل: المُتَهَوِّد: المُتَقَرِّب، أو المُتَوَصِّل بِهَوادَةٍ.(3) و"هاد"، في لهجة فَيْفاء بمعنى: حَضَرَ. يقولون: "هادَنْ عَبْلَةْ تَهُوْد"، أو "هادَنْ أُمُّ الصُّبْيَان". وهما اسما جِنِّـيَّـتَين، يستحضرانهما بهذا الدعاء، تذمُّرًا، أو تعبيرًا عن تأزّمٍ ما. وبذا فبدائل التأويل من هذا القبيل أوضح وأقرب من تكلُّفات الصليبي، رابطًا بين اسم اليهود وصفة الأرض التي ينسبهم إليها بلا دليل. ومن الواضح أنه لم يلجأ إلى صِفَةٍ هذه المرّة إلّا حين أعياه العثور على اسم مكانٍ ينسبهم إليه. ومع هذا، ولكي أَدُلَّه على أن بحر الأسماء بحرٌ طامٍ بلا ساحل، عَلِمَه من عَلِمَه وجَهِلَه من جَهِلَه، فسأُمِدُّه متطوِّعًا باسمٍ جديدٍ عليه. وأنا على ثقةٍ- كما يقول كاتب هذا المقال "اليهود.. وخِتان بني إسرائيل!"، (أ.د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي)- أنه لو عَلِمَه، لفرح به، ولما فوَّت الربط بينه وبين اسم "اليهود". ولا غرو فقد نَسَبَ مواضع من حوله إلى أسماء توراتيَّة وقِصص توراتيَّة شتَّى. ذلك المكان اسمه (امْوَهْدَة/ الوَهْدَة). مع أنه ليس بوَهْدَة، بل هو في أعلى جبل من جبال فَيْفاء. وهذا كان سيُعفي الصليبي من مغبَّة القذف باليهود إلى تهامة عسير أو الحجاز، لا لشيءٍ إلّا لعدم عثوره على اسمٍ جبليٍّ مناسب!

وأطرف ممّا سبق ربطه اسم (الأردن) بأماكن في جنوب شِبه الجزيرة تحمل حروف مادَّة (ريد)، كـ"رَيْدَة"، و"رَيْدان".(4) على الرغم من أن الرَّيْد في العربيَّة يعني: حَرْف الجبل عمومًا، أنَّى كان. وفي جبال فَيْفاء وحدها- على سبيل النموذج- آلاف الأرياد. وهي المدرَّجات الزراعيَّة على حروف الجبال وسفوحها. وهم يطلقون عليها: "أريادًا"، مفردها: "رَيْد". ومثل ذلك في جبال جنوب الجزيرة العربيَّة كافّة. أضف إلى ذلك عشرات المواضع المشتقَّة أسماؤها من هذه المادَّة في جزيرة العرب. وفي هذا السياق يصل بنا المؤلِّف إلى قِصَّة خِتان (بني إسرائيل) على (تلّ القَلَف: جبعت هـ- عرلوت). ليزعم أنها (قرية الغلف)، في وادي (أضم)(5) بمنطقة (اللِّيث). ونحن نعلم أن (الغلف) أصلًا: نباتٌ معروفٌ، لعلّ القرية نُسِبت إليه، ولا علاقة لها لا بالقُلَف ولا بالغُرَل! والغَلِف/ الغَلْف: نبتة متسلِّقة، أوراقها عريضة ملساء، كالأكفّ، تكثر في جنوب الجزيرة العربية عمومًا.(6) ويستنجد الصليبي(7) هنا بما نقله بعض المستشرقين عن منطقة (عسير) وما جاورها من أن محفل الخِتان كان يُجرَى على بعض المرتفعات. فإذا هو يفسِّر ما ذكروه بأنه تقليد قديم مذ عهد (موسى)! بل يذهب إلى أن تسمية أهل عسير الخِتان بـ"التَّعْلِيَة" هو بمعنى: أخذ المختونين إلى مكانٍ عالٍ، اتباعًا لذلك التقليد الإسرائيلي العتيق. والواقع أن منطقة عسير وما جاورها معظمها تلال ومرتفعات وأماكن عالية، وإنما يُقام الخِتان في مكانٍ بارزٍ من أجل العلانية والإشهار. فذلك "يومٌ شاهرٌ"، كما نقول في فَيْفاء، ولا كلّ الأيّام. ولا علاقة لذلك بطقسٍ من الطقوس الإسرائيليَّة التي خُيّلت إلى الصليبي. وكان حفل الخِتان حفلًا مشهودًا، يُتَّخذ له المكان المناسب؛ ولأنها تصاحبه أيضًا بعض الألعاب الاستعراضيَّة والرقصات الشعبيَّة. ويمكن بالتأكيد أن يقام في سهلٍ كذلك أو في وادٍ. أمّا الاصطلاح على الخِتان بـ"التَّعْلِيَة"، فإشارة إلى تَعْلِيَة القُلفة عن الذَّكَر، أي أخذ الغُرلة إلى موضعٍ عالٍ منه بقطع جزئها السُّفْلي. فـ"عُلِّيَ" في تعبيرهم هو كقول العرب: "أُطْحِرَتْ خِتانَتُه"، أي استُقصيتْ في القَطْع. وقد كانوا يُطْحِرون الخِتان ويُعَلُّونه جدًّا، ويتفاخرون بذلك، في ما كان يُعرف بـ"التجليد"، وهو أن يُؤخَذ من الجِلْد، وصولًا إلى العانة، وربما الفخذَين فالبطن. تلك هي التَّعْلِيَة وذلك معناها، ولا علاقة لهذا التعبير بمكان إقامة حفل الخِتان، أو أخذ الختين إلى مكانٍ عالٍ. غير أن تلك من افتراضات الصليبي، التي لا أوَّل لها ولا آخر، والتي لا تقوم على معرفة بيئيَّة أو ثقافيَّة، لكنها التخمينات، اعتمادًا على الحروف والكلمات.

أضف إلى هذه "الفانتازيا"، ذهابه إلى أن (أردن لوط)، (سِفر التكوين، 13: 10- 12)، هو: قِمَّة جبل (هَرُوب). لماذا؟ لأن مكانًا هناك اسمه (رَيْدان).(8) أمّا (سدوم)، فهو لديه: وادي (دامس)، و(عمورة): (الغَمْر)، على منحدرات هَرُوب، فوق دامس!(9) وأمّا (مِصْر)، فقد عرفنا مكانها من قبل، وهو: (المصرامة)، بين مدينتَي (أبها والخميس).(10) وإنْ ظلّ متردِّدًا في تحديد مِصْر، بين المصرامة المذكورة، ومكان اسمه (مَصر) في وادي (بِيشة)، و(المضروم) في مرتفعات (غامد)، و(آل مصري) في (الطائف)! ولقد أضفنا إليه أيضًا مكانًا خامسًا في فَيْفاء لا يعرفه اسمه: (مَصر). أمّا الفراعنة، فيرجِّح أنهم من قبيلة (الفرعا) في وادي بِيشة! كيف لا، و(الفاء والراء والعين) خير برهان؟! لكن من حقِّنا أن نقول كذلك: لِمَ لا يورد احتمالًا آخر، هو أن الفراعنة من (وادي الفَرْع)، في جبال فَيْفاء؟! ليُصبح وادي الفَرْع هو وادي الفراعنة، بدل وادي النِّيْل. لِمَ لا، ولدينا في الجوار من وادي الفَرْع أماكن بأسماء مِصْريَّة شهيرة، مثل: (المعادي)، و(المَحَلَّة)، ومَنَفَة (=منف)، والحَرَم (الهَرَم)، والقهر (=القاهرة)، و(الصَّعيد)، وفوق ذلك: (مصر)؟! وعادةُ صاحبنا أنه لا يفتِّش عن تاريخ المواضع والتسميات، فليتقبَّل هذا الافتراض الإضافي بصدرٍ تاريخيٍّ رحب، كما عهدناه! إن الفراعنة، إذن، كانوا "ولا بُدّ" من أهل وادي الفَرْع وما جاوره، وإنْ وهم الواهمون! وهكذا نستطيع بيُسر أن نُجري بحثًا كبحث الصليبي يحمل مِصْر الكنانة وغيرها على بساط الريح التاريخي إلى مكانٍ آخر؛ لأن كل اسمٍ هناك لن نعدم له مشابهًا- أو حتى مطابقًا- هنا. فإنْ كان التشابه بين أسماء المواضع كافيًا وحده لنَقْل الأُمم عن مَواطنها التاريخيَّة، فأَرِّخ ولا حَرَج!

حتى إذا ختم الصليبي كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب" بخاتمةٍ، ألحقَها بمُلحقٍ حول "آثار اسميَّة ليعقوب والأسباط في غرب شِبه الجزيرة العربيَّة"، جاء فيه بالعجب العجاب. من ذلك أنه قال: "يبدو أن الوطن الرئيسي لقبيلة (شمعون) كان في الجزء الجنوبي من منطقة جيزان [كذا!]، عند حدود اليَمَن، حيث هنالك قرية تسمَّى الشَّعْنون (ولعله تحريف للاسم)!"(11) وعلى هذا أصبحت أبجديَّة اللغة العربيَّة حيثما وردت بها الأسماء قابلةً لتستوعب التوراة جميعها، بـ"يبدو" و"لعلَّ" وأخواتهما. فيما هو- في مَواطِن غالبة- ما يفتأ يؤكِّد يقينه المطلق بما يستنتج، في عبارات كـ"لا شك"، و"بالتأكيد"، و"لا بُدّ". حتى إنه ليصحّ أن يسمَّى كتابه كتاب "لا شكّ ولا بُدّ"؛ لكثرة ما يكرِّر هاتين العبارتين ومرادفاتهما. هذا في الوقت الذي لا يقدِّم على"لا شكّه" و"لا بُدّه" أدلّةً يُعتدّ بها عِلْميًّا. وهو ما يدلّ على أنه يقينٌ مبيَّتٌ، سابقٌ على البحث والأدلّة. بل لا غضاضة في تشخيص حالته بالقول إنه يتبع منهاجًا مقلوبة نتائجه على مقدماته. من حيث هو قد انطلق من فرضيَّة جاهزة، باتت لديه عقيدةً راسخةً؛ فلم يَعُد يبحث، ولا يشكّ، ولا يتساءل، ولا يُراجع، وإنما بات وكده كلّه: كيف يلتمس الإثباتات لتلك الفرضيَّة المحتّمة، ومهما كلَّفه الأمر. حتى إنه إذا عجز عن العثور على أحرفٍ من كلمةٍ يمكنه أن يربط بها المفردات التوراتيَّة بالجزيرة العربيَّة، صاح قائلًا: أنا متأكّد أن الدليل هناك لكني لم أهتد إليه! وهذا فِعل معتقِدٍ عقيدةً عمياء، لا فعل باحثٍ موضوعيٍّ ومنهجيّ. ولو أنه توقَّف عند طرح الأسئلة الجوهريَّة لأطروحته، واكتفى بتسجيل الملحوظات الإشكاليَّة، والقضايا المثيرة، الجديرة بالبحث والتأمّل، ثمَّ ترك تأكيد إجاباتها لعِلْم الآثار والبحث العِلْمي المستقبلي، لبدا إلى سَمْت العِلْم والباحثين أقرب. ولأجل نزوعه ذلك لا غرابة أنْ بقيَ عند تصوُّراته الأُولى، لا يتراجع ولا يتزحزح طيلة العمر، حتى وافاه الأجل. فلا هو قدَّم براهينه المقنعة ابتداءً، ولا هو بعد ذلك واصل البحث، فسعى لاستدراكٍ، أو تَحَرٍّ، أو برهنةٍ، ولا هو ناقش الردود على كُتُبه، طيلة خمسٍ وعشرين سنة. وكأن ذلك كلّه لا يعنيه في شيء، بل ما يعنيه تثبيت دعاواه الوهميَّة، ولو بالصمت المطبِق. وما يفعل هذا باحثٌ، بل يفعله دغمائيٌّ، يتوكَّأ على عصا التاريخ، ويهشّ بها على غنمه، وربما كانت له فيها مآرب أخرى!

(1) انظر: الفصل 8، "أرض يهوذا"، من كتابه: (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 155- 174.
(2) سورة الأعراف، الآية 156.
(3) انظر: ابن منظور، لسان العرب؛ الزَّبيدي، تاج العروس، (هود).
(4) انظر: الصليبي، م.ن، 133- 134.
(5) يضبط الصليبي (إضم) هكذا، بهمزة مفتوحة. والاسم، حسب وروده عن العرب، بكسر الهمزة. كما في قول (النابغة الذبياني، (1985)، ديوانه، تح. محمّد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 61/ 1):
بانَت سُعادُ وأَمسى حَبلُها انجَذَما ** واحتَلَّتِ الشَّرعَ فالأَجزاعَ مِن إِضَما
(6) جاء في معجم (ابن منظور، (غلف)): "الغَلْفُ: شجر يُدْبَغُ به مثل الغَرْف، وقيل: لا يُدْبغُ به إلَّا مع الغَرْف. والغَلِفُ، بفتح الغين وكسر اللام: نبت شبيه بالحَلَق ولا يأْكله شيء إلا القُرود؛ حكاه أَبو حنيفة." والحقّ أن الناس كانوا يأكلونه، ولكن ليس إلَّا في سني القحط والجوع الشديد؛ لأنه شديد الحموضة، وذو مذاق حرّاق جدًّا.
(7) انظر: م.ن، 136- 142.
(8) انظر: م.ن، 142- 143.
(9) وادي (دامس) يأتي من جبال (مَنْجِد) وجهات (هَرُوْب). ويلتقي بوادي (صَبْيا) ووادي (قَصْي) في موضع يُسمَّى (مجْمَع الأودية)- شرق قرية اسمها (جَرّ جبريل)، أو (الجَـرّ الأعلى)- ليتشكّل من ذلك كلّه ما يُعرف بوادي صَبْيا.
(10) انظر: الصليبي، م.ن، 146.
(11) م.ن، 301.

(23- اليهود.. وخِتان بني إسرائيل!)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى