الأحد ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٥

بَـدْرِيَّــــــة

الحسيـــــن بشــــوظ

لم يُكسبها اسمها من الصفة سوى نظارة وجهِها، الممزوج بالإجهاد الذي دأبت عليه منذ أن تخطّت بقدمَيْها، عتبة ذلك البيت الذي اكتسبَ رونقَه ونظامَه مِن نَصَبِ تلك الفتاة الضَّامِرة العضلاتِ، النحيفة السواعدِ، القصيرة القدّ.

لم يتسنَّ لِبَدرية الجلوسُ على مقعدِ الفصل رفقة أقرانها، ولا سَنَحَتْ لها الفرصة بالرّكض في جَنبات ساحة المدرسة، وترديد أشعار الطفولة، وأناشيد الأمِّ، وتمجيـــــــــــد الوطن.

لم تحضَ بمحفظة وردية، تُكدِّس فيها كُتُباً ودفاترَ، ومقلمة توزّعتْ في ثناياها جيوبٌ رُسِمتْ عليها شخصياتٌ كرتونية ذائعة الصيت .

ليس لها أن تنتظرَ أستاذا يدلفُ الى الفصل، ويبدأ الدرس، ليس لها أن تتشوَّقَ الى عطلة الأحد، وتُجدولَ ساعات يومهِ بين الراحة وتحضير واجبها المدرسي، ليس لها أن تستقصي عن عطلة الربيع متى أوانُها، وفي أيِّ الشهورِ هي ؟!
ليس لها أن تفرح بالنتيجة يوم أن تَزُفَّ خبر نجاحها الى والديْها، ليس لها أن تختار كعكة النجاح، ولا زي الحفلة.
كل هذا بالنسبة لها ترَفٌ وبَدْخٌ، وعليها ألا تلتفتَ اليه أبدا، فوَرَاءَها أسرةٌ أفرادُها بعددِ فِراخِ الطير، كلهم يَشرئبُّون بأعناقهم، ويفتحون أفواههم، في انتظار ما يجود به عليهم راتب (بدرية) الهزيل.

كأيِّ خادمةٍ في بيتٍ من بيوتِ أولئك الذين يستثمرون أبناءهم في العِلْم والتَّحصيل، ويستغلون فقرَ غيرهم لخدمتهم.
ملخصُ حياةِ بدرية، لا يتعدى تلك الجُدران الأربعة التي تُشَكِّل المطبخ، شأنُها محصورٌ في كل ما يحتاج أن يُغسل أو يُطهى، أو يُكنسَ أو يُكوى أو يُرتَّب، قاموسُها اللغويُّ صار خِصبا بكل المصطلحات التي لا تبتعد بها كثيرا عن عالمها الجديد، ومعلوماتُها محصورةٌ في نطاقــه.

لن يلومَها أحدٌ عن الطفولة التي ضيَّعتْها، أو التي أُجْبِرتْ على التفريط فيها، ولن يوبّخها أحد إذا لم تُحسن حفظ قصيدة أو شكل فقرة من النص، لن يلومها أحد إذا اعتذرتْ عن قراءة رسالة أو كتابة عنوان. ولكنها لن تُسامَحَ إذا أفرطتْ في رشِّ رذاذ الملح على الطعام، أو إن هي أحرقتْ رغيفا سهوا، أو حتى طالبتْ بشطرٍ من المال الذي تجنيه من وراء هذا العمل المُمِضِّ والمُضَني. فأبوها يَعُدُّ الأيامَ عدًّا، وكلُّهُ شوقٌ أن ينقضيَ الشهرُ ليَستخلص أجرة ابنته، ويطير بها الى البادية.
حتى عالمُها الخاصُّ لم تعد تملكه، فليس عندها ما يَستحقُّ أن تنسِبَهُ الى نفسِها، وتستمتعَ بملكيتِهِ، حتى الثيابُ التي على هيكلها النحيفِ أسمالٌ باليةٌ استغنى عنها أطفال الأسرة التي لا تتوانى في خدمتهم. عالمُها الخاصُّ خليطٌ من كياناتٍ شتى، تحاول أن تجد لنفسها موقعا ما، ولو رمزيا في هذا الخضم الذي يتبارى فيه الناس بين فقير يسعى للغنى، وغني يسعى للسلطة والسيطرة، ومجتهد يسعى للنجاح، وناجح يسعى للتميز، ومتوار يسعى للظهور...

في أيٍّ من هذه الطوائفِ تجد ذاتها المفقودة !!؟، ربما يلزمها أن تندرجَ ضمن هؤلاء كطائفةٍ جديدة، طائفةِ المفقودِ الذي يبحثُ عن ذاته.
ينالُها من الإجهاد ما لا تستطيعُ معه أن تفكر في عالمها المجردِ كيف تتمناه أن يكون، فذاكرتها مليئة بقائمة من الأوامرِ العاجِلة، التي يجب أن تُنجَز قبل أن ينضُجَ العشاء.

تأوي الى غرفتها المتواضعة تماما كتواضعِ هيأتِها، تضع رأسها على الوسادة، فتأتيها أسراب من الصور والأفكار التي ينسجها خاليها، وقِصصًا ومواضعَ تُؤنسُها في انتظار أن يحل عليها سلطان النوم.
تتذكَّرُ أمّها وحُضْنَةَ الوداعِ ودُموعَ الفِراقِ، تتذكَّرُ جفاءَ الأبِ ووداعَهُ الباهت، لعلّه كان مُحِقًّا في وداعه، فتصرّفه ذاك أصدقُ تعبيرٍ على ماهي فيه من الشقاء والبؤس، فهيَ لم تسافر لتدرس ولا لتعمل، إنما لتَخدِم عائلة مثل التي خلّفتْ وراءَها، إلا أن هذه تملكُ وتلكَ لا تملك.

تتذكّرُ إخوتها الصغارَ، وهم يتقافزون حول حقيبتِها حين عودتها إليهم، ستمضي عليها السُّنُونُ سريعا، ثم تطوي حِقبةَ طفولتِها، وتضعُها في رفِّ الذكرياتِ صفحة بيضاء.

أطلقتِ العنانَ لفكرِها وخيالِها الذي يطرق كل مكانٍ لها معه ذكرى جميلة، وكلَّ زمانٍ منحها من لحظاتِه رشفةً من سعادةٍ ناقصة، أو أمان موهوم.

جَسَدُها مازال هناك، محبوسا بين تلك الجدرانِ الصماء، محكوما عليه بالشقاء، وكلما انتبهتْ تألَّمتْ لكوْنِها ما تزال هناك في بيت الشقاء، فتُمعِنُ في السَّرحان حيث عالمُها الافتراضي.

يُكسِّرُ السُّكونَ طرَقاتٌ على بابِ غرفتِها لتستدعِيَ وعيها سريعا، وتتبعثرُ عناصِرُ عالمِها المُجَرَّد، لتفتحَ عيْنيها وتُبادرَ بالاستواءِ جالسةً على سريرها، إنها سيدة البيت، جاءتْ تستأذِنُها لعرضِ قائمةِ الأوامرِ لتباشِرَها مع خيوطِ الصَّباحِ الاولـــــــــــــى.

تُحرِّكُ بدريةُ رأسَها بالإيجابِ، ثم تُسْلِمُ رأسها لوسادتِها الواطِئةِ في محاولة منها لاستدعاءِ عالمها المجرد، فلا ترى أمامَها إلاَّ تلك الأوامرِ تتشكَّلُ وُحُوشًا تُطارِدُها، وكوابيسَ تُفزِعُها، وهي تركض هاربة، فلا تترُكُها إلاَّ مع رَنَّـةِ المُنَبِّـــــــــــــــــــــــــــــــــــه.

الحسيـــــن بشــــوظ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى