الأربعاء ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥
بقلم عصام شرتح

شعرية المتحولة النصية الكبرى في شعر حميد سعيد

مدخل تعريفي:

يعد النص وحدة نصية متحولة كبرى بوصفه بنية علائقية مكتفية بذاتها؛ لأنه ينطوي على رؤية مكتملة هي حصيلة الرؤى الجزئية النصية التي تصب كلها في أتون الرؤية النصية الكلية للقصيدة ؛ ومن هذا المنظور" فالنص ليست له شيئية أو تشيؤ ذاتي؛ وليست له خصوصية أو فرادة خاصة به ، وليس" النص" " معنى" مقنن تفرزه اللغة فيه. فكل شيء رهين اللحظة التي تتحول إلى لحظات متناسخة، على حسب " حالة" الاستجابة من ذات إلى ذات، ومن ثم؛ فالنص يتشكل على مدى زاوية النظر إليه، وعلى حسب" رؤية" الناظر إليه في لحظة بعينها"().

فالنص هو اكتمال منظورين، منظور المبدع، ومنظور المتلقي؛ ومن أجل ذلك لا يكتمل النص من منظور الكثيرين من نقاد الحداثة- إلا بالمتلقي الواعي القادر على مراودة النص وفك شفراته وتحليله ؛ واستخلاص ما في باطنه من قيم جمالية ورؤىً ممغنطة لتطلعاته وأهدافه النصية؛ يقول الناقد حسين جمعة:" فالمبدع لا يعيش في فراغ ، فهو ابن وسط ما، وزمن ما، وثقافة وبيئة محددة.. والأدب مرآة لذلك كله؛ وإن صِيغ صياغة فنية.. والقارئ حين يمارس ذلك إنما يستنطق العناصر الفنية للنص في ضوء المناهج النقدية والعلوم المساعدة من جهة؛ وفي ضوء ما يمتلكه من أدوات ذاتية وموضوعية تهيئه لإعادة إنتاج النص بشكل جديد دون أن يجور على دلائله التوثيقية من جهة أخرى"().

ومن منظورنا: إن العلاقة بين المبدع والقارئ علاقة جذب وإغراء؛ فبمقدار ما يولد المبدع في نصه عناصر اللذة والإثارة والمتعة بمقدار ما يستثير القارئ، مولداً فيه رغبة جامحة إلى تفكيك نصه والتفاعل معه بعلاقة رغبة وقربى روحية تجمع النص بقارئه؛ والمبدع بالمتلقي بجامع الألفة والرغبة والتلاقح الروحي، يقول رولان بارت:" وحدها القراءة تحب الأثر، وتقيم معه علاقة رغبة ، أن تقرأ هو أن تشتهي الأثر، هو أن تريد أن تكون أنت الأثر"().

وهذا القول يدلنا على أهمية القارئ في إنتاج النص ؛ فهو لا يقل قيمة ولا أهمية عن المبدع ذاته؛ وما توجه النظريات الحديثة إلى القارئ إلا دليل أهميته في العملية الإبداعية بوصفه المنتج الآخر للنص، أو المبدع الثاني له.
وقيمة النص كمتحولة نصية كبرى لا تتحدد بفاعليته النسقية فحسب؛ وإنما بحسن تنظيمه واختياره لعلائقه اللغوية؛ وتكثيف دلالاته ؛ وتنشيطه لمضمراته النصية، تبعاً لمتطلبات الحراك الشعوري، ومعطيات النسق اللغوي المثير ؛ يقول علي جعفر العلاق:" القصيدة الحقة لا يحددها الشكل وحده؛ فالشكل ليس إناءً منفصلاً عن فيض الذات، بل هو تجسيد حي ملموس لكل ما يمور في عقل المبدع وروحه من توق وألم وتوجسات؛ لذلك؛ فالتقليدية ليست مقصورة على القصيدة العمودية فقط؛ إن الكثير من القصائد المحسوبة على الحداثة هي تقليدية حتى النخاع؛ الافتقار إلى حيوية اللغة ، ضمور المخيلة ، تفكك البناء، خفوت الإحساس الفردي.
هكذا، يظل الشكل الشعري معطىً متاحاً للجميع، وتركة لا يدعي ملكيتها أحد. إنه لا يعني شيئاً إذا لم تحوله الموهبة إلى قوة روحية وشعرية فاعلة، وجزء حي من عمل متماسك لا تنفصل عناصره ، ولا تتباعد مكوناته . إن القصيدة ، عمودية كانت أم حديثة، ليست جمعاً بين عناصر أو مكونات شكلية أو وجدانية : ليست اللفظ زائداً المعنى ، وليست الشكل وقد ملأناه بموضوع ما ، بل هي المعنى محسوساً، أو الشكل ، بكل عناصره، وهو ينضح بالدلالة والإيحاءات"().
وثمة وعي معرفي- لدى أدونيس- بفاعلية النص كوحدة نصية كبرى تتكون من وحدات نصية صغرى، وتبعاً لهذا؛ فهي متغيره بكيفيتها النصية الخاصة، إذ يقول:" لن تسكن القصيدة الحديثة في أي شكل ثابت... إن للشعر الجديد أشكاله الخاصة؛ فللقصيدة الجديدة كيفيتها الخاصة، وطريقتها التعبيرية الخاصة، ولها بمعنىً آخر، نظامها الخاص بشكل القصيدة الجديدة هو وحدتها العضوية، هو واقعيتها الفردية التي لا يمكن تفكيكها، قبل أن يكون إيقاعاً أو وزناً . ولا تقوم هذه الوحدة العضوية بشكل تجريدي، لأننا حين نفصلها عن القصيدة، تصبح وهماً. ليس لهيكل القصيدة الجديدة واقعية جمالية إلا في حياة القصيدة- في حضورها ، وحدة وكلاً. لذلك يجب أن تكون القصيدة شيئاً تاماً تتداخل، وتتقاطع بحيث أن كل جزء منها يأخذ معناه من الكل للقصيدة بهذا المعنى، نوع من الغائية الداخلية"().

وبهذا التصور، تبدو القصيدة متحولة نصية كبرى، لا ينفصل فيها الشكل عن المضمون، ولا تستقر على شكل ثابت؛ فهي متغيرة وحضورها الفني كامن في شكلها وحدة ًوكلاً؛ بحيث تتضافر فيها الوحدات النصية كلها، لتحقيق غايتها الجمالية ؛ وهذا يدلنا:" أن الشكل الشعري لا يستمد وجوده إلا من عناصر مادية تشكل المستوى المحسوس للنص؛ كلماته، صوره، إيقاعاته، صياغته اللغوية، أنه يمارس نشاطه في الطبقات المادية، ولا أقول الخارجية للنص، بعيداً عن قرار العميق النائي، وبذلك، فهو يختلف عن البناء الذي هو هندسة داخلية شديدة التخفي، تربط بين وحدات النص الشعري ، وأنسجته ، وتضعها جميعاً في اتجاه تتنامى فيه حتى نهاية القصيدة. إنه ثانياً ،جهد تنظيمي يخطط لعناصر النص اتجاهها، وطريقة حركتها ومستوى التفاعل بينها للوصول بها إلى أقصى تأثير ممكن.

وفي الوقت الذي يفصح فيه الشكل عن نفسه على المستوى المادي للنص، فإن البناء لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى إنجاز ما يدعوه رينيه ويلك" الشكل الداخلي للنص" ؛ هذا الشكل الذي يحتضن" الاتجاهات السيكولوجية والفلسفية"؛ وقد جمعت حول مركز واحد مفترض، أي إن البناء نشاط ينظم ، بخفاءٍ ممتع عناصر النص وحركته الداخلية معاً: جسد النص وما يتفجر عنه من حيوية روحية وجمالية"().

ومن هذا المنطلق؛ فإن النص الحداثي غدا أكثر قدرة على التحول والتغاير مما سواه؛ وهذا دليل ثرائه وانفتاحه وتغاير أوجه شعريته؛ وهذا يعود- من منظورنا- إلى تغاير شكله أو نسقه اللغوي؛ إذ إن النص الشعري لا يستقر على شكل ثابت أو محدد، إنه نشاط بؤري لحراك الذات وانفتاحها على الحياة؛ تبعاً لذلك" ليس النص المفتوح سمة ملازمة للنصوص المعاصرة، وإنما يجده القارئ في النصوص النثرية التي تبث في غير اتجاه، وتومئ أكثر مما تقول، وتحتوي في بنيتها على غير طبقة لكل منها لسان خاص بها ينوب عنها في الكلام ضمن الزمن والظرف اللذين نشأت من خلالهما هذه الطبقة؛ ولذلك يمد النص ألسنته ، ويستنطق الغياب، ويحاور المسكوت عنه، فهو –كما ذهب إلى ذلك بارت- يشبه بصلة؛ لكل طبقة منها حجم وخصوصية، وإن كانت الطبقات تشكل في نهاية الأمر هذه الثمرة، لكن هذه السمة تكاثرت في النصوص المعاصرة؛ نتيجة لأسباب كثيرة وأهمها؛ تقدم الوسائل المعرفية والتقانية والصناعية من جهة، وطبيعة العصر الذي يتطلب السرعة والغنى والتنوع والتعددية والاختلاف من جهة ثانية"().

ومن هذا المنطلق، يمتاز الإبداع الشعري بالانفتاح والطرافة؛ لأن الطرافة هي التي تخلق لذة ما هو شعري أو شاعري؛ فـ" الإبداع في الفنون، ومنها الشعر، يتصف بالندرة والطرافة ، كونهما سمتين رئيسيتين، لا يستغني عنهما جوهر الإبداع عامة؛ لأن الإبداع نادر بالقياس إلى ما حوله؛ وإلا لم يكن إبداعاً ؛ والطرافة صفة في الإبداع؛ إذ هي صفة في النوع الاستثنائي ، ولعل المتلقي ينسجم مع النادر في أدائه الطريف في معانيه بما يكون فيه ذلك الانسجام مدار تأمل في القراءة، ومثار تجليات في التأثير، والغرابة بعد كل هذا انطباع المتلقي حين تدهشه ندرة المعنى وطرافته ، فهو يعنى بأسباب الغرابة ومعطياتها ، وقد يكون الابتكار انطباعاُ ثانياً أعلى من الغرابة، حين يستوحي من النص معاني أكثر عمقاً أو أجلى في استشراف الواقع"()

وما ينبغي الإشارة إليه، والتأكيد عليه في هذا المقام:أن القارئ الحصيف عنصر مهم في عملية إنتاج النص؛ واكتمال وحدته النصية، أو فعاليته النصية- كما اشرنا إلى ذلك سابقاً- ونؤكده الآن: إذ :" إذ إن للقارئ دوراً فعالاً في عملية إنتاج النص ذاته؛ فليست العلاقة بين النص والقارئ علاقة تسير في اتجاه واحد، من النص إلى القارئ، وإنما تسير في اتجاهين متبادلين، من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص، فبقدر ما يقدم النص للقارئ، يضفي القارئ على النص أبعاداً جديدة، وقد لا يكون لها في النص؛ وعندما تنتهي العملية بإحساس القارئ بالإشباع النفسي والنصي، تتلاقى وجهات النظر بين القارئ والنص. عندئذ تكون عملية القراءة قد أدت دورها – لا من حيث إن النص قد استقبل ، بل من حيث إنه قد أثر في القارئ؛ وتأثر به على حد سواء"().

وهذا دليل أن القارئ يؤثر في النص كما أن النص يؤثر في القارئ، بتفاعل نصي مزدوج الأثر والفاعلية؛ وتبعاً لهذا، لا يكتمل النص كوحدة نصية كبرى إلا بالقارئ الذكي المبدع الذي يرصد تحولاته النصية، متتبعاً وحداته متمماً لمعناها، رافداً تحولاتها وحركتها النصية؛ وبذلك؛ يتنامى النص كوحدة نصية كبرى إبداعية ، غاية في التجذر والاكتمال النصي.
وما ينبغي ملاحظته والتدليل عليه، هو: أن دراسة النص كوحدة نصية كبرى لا يتم بحثه بفاعليته النصية المثلى إلا في خضم ثلاث تقنيات، أو مؤثرات فنية، هي( 1- التكامل 2-التفاعل 3- التماسك)، وكل تقنية من هذه التقنيات تشكل ركيزة من ركائز الوحدة النصية الكبرى والتلاحم النصي؛ وهذه الوحدة النصية الكبرى تمثل النص بكامله، بمؤوله الفطن الذي يتممه ويرفده؛ وتبعاً لهذا، سندرس كل تقنية على حدة؛ لإبراز مؤثراتها النصية، وفاعليتها في تشكيل النص كوحدة متحولة كبرى متفاعلة من أدنى مرتكزاتها النصية؛ إلى أعلاها بخصوصية فنية وتفاعل نصي على المستويات كافة.
شعرية التكامل:

إن خاصية " التكامل" من أبرز خاصيات النصوص الشعرية الحداثية التي تنبني على وحدتها النصية وفاعليتها النسقية، من حيث التضافر والتفاعل والتلاحم والانسجام رغم تشكيلها المقطعي؛ إذ " تتصدر القصيدة المقطعية قائمة الشعر العربي الحديث، فهي تجسد نظاماً جمالياً يضعه الشاعر بعد مكابدة تجربة وجدانية طويلة، لذلك ، فإنها تمتاز بتنوعها وشمولها وإحاطتها بالفكرة الشعرية من جوانبها كافة، وبالإضافة إلى ذلك فإن طبيعة تشكيل القصيدة المقطعية تمنح القارئ فرصة التوقف المتكرر بعد انتهاء كل مقطع لاسترداد الأنفاس أولاً، واستكشاف الخيط الواصل بين التوقيعة وما يسبقها ويليها من توقيعات"().

ولهذا؛تشكل كل توقيعة:

" عنواناً مستقلاً، وكأنها قصيدة مستقلة، وهذا ينعكس على البنية الإيقاعية التي تتنوع تنغيماتها في كل مرة، لتتساوق مع الدلالة التي تتضمنها توقيعته؛ مما يشي بوجود خيط دلالي يربط بين توقيعات القصيدة ويؤالف بينها، ويحقق الانسجام والتماثل فيما بينها. وكل توقيعة تقوم بذاتها وتحقق كيانها المستقل"(). لكن في إطار المجموع أو الرؤى النصية الكلية تجدها متكاملة متلاحمة في مغزى دلالي عام ؛أو رؤية كلية شاملة. وهذا دليل:" أن صلابة وفعالية النص ليست هي التي تؤدي – فقط- إلى تفرده وتميزه ، فله إلى جانبه ذلك المعطى الجمالي الذي لا بد من تفحصه وتحليل طاقته الإبداعية، ومن ثم لا معنى للفصل بين هالة أسلوبيته الخارجية، وبين لب الدلالات المطروحة من خلال الأداء، ولا معنى كذلك إلى افتراض فكرة قبلية تسبق اللغة ، ولا محل للفعل بين الفكرة وما يغلفها من تعبير، فاللغة مجموعة من السبل التعبيرية التي تتزامن مع الفكرة أو الأفكار"().

فقد وقف فدايك على أبرز الخصائص النصية التي تختبر مدى فاعلية النص وتكامله فنياً؛ فأدخل في نظرياته عناصر مهمة تتعلق بمستوى المنتج، ومستوى المتلقي واختلاف المعارف، وأشكال الانحراف، والتابع الخطي للجمل، والعلاقات الداخلية بين المتتاليات الجملية، والترابط بين الأبنية الصغرى والأبنية الكبرى الكلية، وكيفية تخزين المعلومات واسترجاعها، وأوجه الفرق بين عمليات الذاكرة قصيرة المدى وعمليات الذاكرة طويلة المدى (من علم النفس المعرفي) وطرق الفهم والتفسير، وغيرها من العناصر التي تبرز تداخل علم النص مع علوم أخرى ، وتقدم إيضاحاً للعمليات يصعب للغة أن تنتهي إليها بشكل مرضٍ().

وما ينبغي التأكيد عليه؛ أنه ثمة وعياً فنياً- عند حميد سعيد- بأهمية التكامل النصي في قصائده؛ إذ تتضافر جميع المقاطع في قصائده؛ لتكتمل رؤاها الجزئية بتفاعل نسقي يشي بالتفاعل ،والالتحام النصي؛ وهذا دليل على انسجام قصائده وفاعليتها الشعرية على المستوى المقطعي والنصي في آن معاً ، وهذا ما ستضطلع به الدراسة باستشراف نقدي دقيق؛ وفق ما يلي:
التكامل على المستوى المقطعي:
بدايةً ، نعرف خاصية التكامل بقولنا هي خاصية نصية تعني تكامل القصيدة دلالة ورؤية، من حيث منتوجها الإبداعي والفني والرؤيوي والدلالي، لاحتوائها الدلالة وحراكها النصي؛ بحيث تبدو وكأنها مصممة من سابق، وليست وليدة لحظة آنية أو حالة شعورية عابرة أو سريعة.

وتبعاً لهذه التقنية ومعانيها تتحدد درجة نضوج الشاعر، وجودة إبداعه من حيث فعالية الهندسة التشكيلية التي تنبني عليها قصيدته ؛ ومقصديتها الواعية ، وأسلوبها الفني المثير، من حيث فنية التشكيل وتضافر الدلالات واستثارتها في النسق الشعري، لتبدو متكاملة من أول كلمة فيها إلى آخر كلمة في قفلتها النصية ؛ مما يعني أن ثمة وعياً فنياً ملحوظاً في ربط العلاقات والأنساق اللغوية باستثارة نصية تؤكد جودة ابداعها وسموقها الفني.

أما ما نقصده بـ[ التكامل على المستوى المقطعي] ، فهو تضافر المقاطع فيما بينها على المستوى النصي من أول مقطع في القصيدة إلى آخر مقطع في تشكيلها ؛ مما يعني أن ثمة تضافراً وتلاحماً وانسجاماً بين المقاطع على المستوى النصي، وهذا التضافر والانسجام هو ما يحقق التكامل الفني على المستوى المقطعي وينجز أثره على المستوى النصي.
ويعد التكامل المقطعي بؤرة تفاعل الرؤى وحيثياتها النصية ضمن القصيدة؛ ولهذا؛ يبقى النص الشعري الحقيقي متأبياًعن أحادية المنظور ؛ أو التحليل الأحادي؛ لأنه ينبني على رؤى شمولية منفتحة ،متكاملة فيما بينها؛ وإن بدت مشتتة في بعض الأحيان، فسرعان ما تتوحد في رؤيا عامة ومنظور بؤري عميق؛ وهذا يدلنا أن:" النص يظل متأبياً على أحادية " التحليل"؛ و " علمانية" التفسير ، فهو روح إنساني ، وليس جسداً لغوياً فقط؛ ومن ثم فإن إحصاء ما يبدو على جسد النص، والركون إلى ما يحيله، يظل منفصلاً عن روح الإبداع المتلبسة بذلك الجسد، ذلك الروح يظل جوهراً. له تعينه الخاص به، فالشعر فن إنساني، ونشاط روحي، ينغرس في كنه الذات الإنسانية، وهي شديدة التعقيد ، كثيفة التركيب، ومن ثم ، فالإبداع شعراً أو نثراً لا يمكن أن نستكشف ماهيته بمجرد إحصاءات مقترضة من العلوم الرياضية. فالحقيقة جد مختلفة بين البرهان الرياضي ووسائله، وبين البرهان الشعري؛ والحقيقة الشعرية؛ وهناك أيضاً مفارق واضحة بين ما هو نتاج مشاعر ووجدان، وبين ما هو نتاج نشاط ذهني وتجريد فكري"().

وما ينبغي تأكيده :أن الشاعر حميد سعيد يملك مقدرته الفنية العالية على صوغ قصيدته ، بإحكام نسقي ومقصدية دقيقة؛ وتشكيل فني مقطعي متكامل؛ إذ إن كل مقطع من مقاطع قصيدته يتضافر مع الآخر، بالتحام نصي موحد، يشي بمظاهر التآلف والتضافر والانسجام كافة ، كما في قصيته( يا جارة الدم والدمار) التي أهداها إلى بيروت، إذ يقول فيها.

" في كلِّ يومٍ كنتُ أضربُ في شوارعَك القصيَّة
من يرافقُني إليكِ الآن؟
من كانتْ تعلمُني القراءةَ في دفاترك..
استباحَ قميصَها البحرُ البعيد
وأصبحَ العشاقُ ينشرونَ في أرقي عليها
لم أرَ امرأةً سواك
ولم أرَ امرأةً سواها
منذُ أن رحلت .. وأنتِ تراودينَ دمي المباح
وقد كبرنا..
أصبحَ الولدُ العصيُّ ينامُ في الحلمِ العصيّ
وما كبرت..
وكنتُ أخشى منكِ لا أخشى عليكِ
فأنتِ مبهمةٌ وقاسيةٌ
ولكنا نحبُّك رغمَ قاموسِ الشتائمِ
حينَ نحزنُ أو نحاصرُ أو نخاصمُ من نحب
نراك في أحلى صفاتك بين أيدينا..
وفي الكأسِ الجميلِ
يا مرَّةَ الشفتينِ من ظمأٍ ومن سهرٍ طويل
حييتِ من حلمٍ قتيل..
أنا سنصعدُ من صعودكِ نحوَ بدءِ المستحيل..
***
أحاولُ أن أجيءَ إليكِ قبلَ رحيلِ أحبابي
وقبلَ تفرُّقِ السمارِ من أهلي وأصحابي
وأعرفُ أن خلفَ الظهرِ روم.. ثم روم.. ثم روم
علمتنا الحرب..
إن بني العمومةِ بائعوك..
وعلمتنا أن نقاتلَ دونهم
يا جارةَ الدمِ والدمار..
أراكِ متعبةً .. أنامُ على يديكِ
وفي قميصي من غبارِ البصرةِ.. احتضنتك..
وهي تقاتلُ الأعداء..
بينكما دمٌ وبويب..
بينكما الخليجُ وطفلةٌ قتلوا هواها"().

بداية ، نشير إلى أن التكامل المقطعي- في قصائد حميد سعيد - يتأسس على التناغم الدلالي؛ وكأن ثمة خيطاً دلالياً خفياً يشدها بوتر دلالي منظم من أولها إلى آخرها؛ مما يعني أن ثمة تفاعلاً دلالياً بين المقاطع؛ وهذا التفاعل ينعكس على مجرى الرؤية ومغزاها الدلالي العام؛ فالشاعر استطاع أن يولف بين البنية المقطعية للقصيدة ومغزاها الدلالي العام؛ وهذا يعود إلى موضوعها النصي الموحد؛ وأسلوبها السردي المتتابع؛ يقول أدونيس:" إن الشعر العربي الجديد أصبح ذا بناء تركيبي سمفوني، يتيح له أن يحتضن الحياة كلها والواقع كله. إن هندسة داخلية خفية تسيطر عليه وتوجهه. مقابل القصيدة- الكلمة، والقصيدة- الفكرة ، والقصيدة- الانفعال، وهي نماذج أصبحت تاريخية ، تشرئب القصيدة الجديدة ، القصيدة الرؤيا. القصيدة هنا ليست بسطاً أو عرضاً لردود فعل من النفس إزاء العالم ، ليست مرآة للانفعال- غضباً كان أو سروراً، فرحاً أو حزناً؛ دائماً هي حركة ومعنًى تتوحد فيها الأشياء والنفس، والواقع والرؤيا، إنها بهذا المعنى ، القصيدة الواقع لكل أعماقه وأبعاده ، أو القصيدة – الحياة"(). وهذا ما أسسه حميد سعيد في قصائده بمعنى أنها ترصد الواقع أو الحياة وتتجرد عنها في آن؛ لتحايث عالمها الحر المنفتح، وتنمو وتتطور في أفق ممتد لا تحده الحدود؛ ولا تقيده القيود مما يجعل قصائده غنية بإيحاءاتها ومضموناتها النصية.

وبالنظر- في مؤثرات " التكامل المقطعي- في المقبوس الشعري- نلحظ أن التكامل يبدو جلياً من خلال بداعة النسق اللغوي السردي، بحس جمالي يعكس رشاقة السرد؛ وبداعته ، ناهيك عن الصور الحساسة الدافقة التي ترصد شعوره الدافق حباً وتحناناً إلى بيروت، إذ يصورها بصور جمالية، تارة بامرأة حسناء تراوده في حلمه؛ وتمنحه صدودها؛ وتارة تدنيه منها وتمنحه وصالها، وبذلك تشحنه بالحيوية والإشراق لتحقيق المستحيل؛ إن بداعة الرؤيا، ومدلولها بما تحدثه من توحد شعوري تحرض القارئ على استشفاف أبعادها وتلاحمها النصي؛ إذ نلحظ أن المقطع الثاني جاء امتداداً شعورياً للمقطع الأول، مبيناً إحساسه إزاء معاناتها وجراحاتها المتتالية في ظل الاعتداء الصهيوني عليها في أكثر من مرة، مؤكداً أن العرب أبناء جلدتنا وعروبتنا قد باعوا قضاياهم المصيرية، واستكانوا للذل والعار ؛ فتركوا بيروت تقاتل لوحدها ، وتعاني مرارة الأسى والخراب والقتل والدمار؛ كما هي حال البصرة التي عانت الويلات والدمار والقتل كذلك تجمعها مصير مأساوي دام ٍوإحساس حزين جارح؛ وبذلك تكامل المقطعان معاً في بلورة الرؤية النصية بمدها الشعوري وإحساسها المأساوي الجارح؛ وهذا دليل أن التكامل المقطعي عنصر من عناصر ثراء النص وتحفيزه دلالياً؛ نظراً إلى توحد الرؤى وتلاحمها في بناء نصي متماسك، يشي بالتآلف والتلاحم والانسجام. وهذه خصوصية جمالية نصية تمتاز بها قصائد حميد سعيد المقطعية؛ تبعاً لهذا؛ يتأكد لنا؛ أن " أبنية المقاطع تتراوح في أطوالها ، وفقاً للدلالة التي يشي بها كل مقطع من مقاطع القصيدة"().
التكامل على المستوى النصي:

ونقصد بـ[ التكامل على المستوى النصي]: تكامل حيثيات النص ومقاطعه كافة ؛ لتبئير الرؤية النصية، وتحقيق تكاملها الفني، إذ إن التكامل النصي خصيصة علائقية كبرى تسهم في تفعيل النص جمالياً، من خلال تلاحم الانفعالات والأحاسيس والمداليل اللغوية في أتون رؤية نصية متلاحمة متكاملة ؛ يقول علي جعفر العلاق:" لا شيء يفوق الشعر في قدرته على إثارة الداخل الإنساني ، وما يصطرع في دهاليز النفس من عناصر الضعف والقوة؛ أو النبل والوضاعة"().
والتكامل كخاصية بنائية ليست دليلاً على شعرية النص، إن لم يكن النص- بالأساس- سامقاً فنياً، ترفده تقنية التكامل كطاقة إضافية تضاف إلى طاقته النصية الإبداعية ، لتزيده أثراً وعمقاً فنياً؛ يقول رجاء عيد:" فخاصية النسيج المتلاحم هي التي تمكّن من الحكم على عمل فني بأنه غير مرضٍ على الرغم مما يتمتع به من هيكل هندسي متكامل"(). ثم سرعان ما يؤكد على أهمية الوحدة والتلاحم النصي بقوله:" إن الوحدة الأدائية نلمسها من حيث التناسق والتلاحم ( تلاحم السابق باللاحق) ، وذلك جميعه له ملمح جمالي خارجي؛ وهذه الوحدة مطلوبة في أي عمل أدبي"().

ومن هذا المنطلق ؛تأتي خاصية التكامل النصي كعنصر تحفيزي إضافي لتفعيل الشعرية ؛أو الإثارة النصية؛ إذ تشكل النسيج المتكامل للبنية النصية المتفاعلة أو التفاعلية؛ لتحقيق تماسكها الفني؛ إثر التفاعل الخلاق بين الحيثيات النصية ضمن الإطار المقطعي والنصي في آن؛ وتبعاً لهذا" يرسم التماسك البنائي والتناسق الهيكلي لمقاطع القصيدة إحكاماً في غاية الدقة، وهذا ينعكس على الإيقاع، وليس المقصود بالتناسق الهيكلي الأطوال الواحدة والأشكال الثابتة، وإنما هو التناسق بين الدلالة وطول المقطع، أولاً؛ وبين المقطع وما يسبقه ويليه من انسجام ثانياً؛ وعلى هذا، فإن تعاقب المقاطع القصيرة والطويلة يساعد على منح القصيدة الإيقاعية ، لأن التعاقب المتفاوت الطول يبرز الحركة النفسية وتقسيماتها، وفقاً للتجربة الوجدانية المصورة؛ ومن هنا؛ يتم توزيع المقاطع الشعرية توزيعاً شاعرياً يستفيد من الدلالة الخاصة في كل مقطع "().
وما ينبغي تأكيده: أن الشاعر حميد سعيد قد وظف التكامل على المستوى النصي ؛لإبراز جانب مهم من جوانب التلاحم العلائقي في بنية قصائده المقطعية؛ لتبدو ذات ركيزة عضوية منسجمة؛ متكاملة رغم كثرة عدد مقاطعها؛ لتصل في بعض قصائده إلى اثني عشر مقطعاً أو أكثر؛ وهذا يعني أن ثمة وعياً فنياً بأهمية التلاحم النصي في قصائده المقطعية؛ لتشي بجو من التفاعل والانسجام والتكامل، كما في قصيدته( إنها ليست أمريكا.. والت ويتمان... إنها ليست أمريكا.. إدغار ألن بو) التي نقتطف منها المقطعين التاليين:

" كلَّما حاولَ إدغار ألن بو .. كتابةَ أحلامِهِ
لم يجدْ في المعاجمِ.. ما يتخطَّى به خوفَه
ليسَ من عاشقٍ في المدينة..
أو شاعرٍ..
ليسَ من ساحرٍ..
سيقولُ لسيدةِ النزلِ.. بارككِ اللهُ..
تسألُه من يكونْ؟!
ويقول أحبكِ.. تضحكُ !! ثم تقولُ..
أما أنا فأحبُّ البطاطسَ .. يا سيدي
وأحبُّ المقانقْ
***
أخرقٌ وكئيبٌ.. غرابُ ألنْ بو
الكالحُ المتهجمُ..
روحُ الظلامِ.. الذي جاءَ منهُ غرابُ ألن بو
كانَ الجحيمُ يوقظُ الغرابَ الأخيرَ .. في سلاستِه
ويسميهِ .. جورج دبليو بوش..
الأخرقَ الكئيبَ والكالحَ المتجهمَ
ويسميه.. حارسَ حقلِ شياطينِه..
الأخرقَ الكئيبَ والكالحَ المتجهمَ
هذا الذي يقيمُ الخرائبَ في ظلالِ الأساطيرِ..
ثم يقيمُ الخرابْ
***
جورج دبليو بوش..
من سيقرِّبُ الآنَ من جيفةٍ في إهابكََ.. منك؟
ومن سيقرِّب بينَ الصواعقِ والغاب؟
من سيوحِّد بين الصلاةِ وسوطِ العذاب؟
أيها الصبيُّ الكحوليّ..
كن وقحاً وغليظاً وفظاً.. وكنْ سافلاً
مثلما أنتَ..
كنْ قاتلاً.. مثلما أنتَ .. لكنا سنكونْ
أرأيتَ الشعوبَ تخرجُ من كلِّ فجٍّ عميقْ؟
أرأيتَ أحبَّتنا.. يقطعونَ عليكَ الطريقْ؟"().

بداية، نشير إلى :إن التكامل النصي- في قصائد حميد سعيد- يعتمد وحدة الفكرة ؛ أو جوهرية الرؤية ذاتها في عدد من مقاطع القصيدة؛ وكأن ثمة خيطاً دلالياً يشدها من أولها إلى آخرها؛ هذا من جهة، وقد يلجأ الشاعر إلى تقنيات أخرى يوحد مقاطعها ، بالارتكاز على ظاهرة التكرار مثلاً والتي تشكل ركيزة أساسية من الركائز النصية التي تقوم بتمتين أواصر القصيدة، وشد محاورها الدلالية وخيوطها كافة من جهة ثانية؛ مما يعني أن ثمة تكاملاً فنياً بين مقاطع قصائده يقوي علائقها وركائزها النصية؛ وهذا دليل أنه من الممكن أن " يحقق البناء الشعري القائم على أساس تقطيعي وقفات دلالية وموسيقية معاً، مما يجعل الإيقاع موحداً رغم نغماته المتنوعة، بسبب الانتقال من موقف شعوري يحمل مكانه المحدد وزمانه الخاص به إلى موقف آخر يحمل المكان والزمان المختلفين. وقد يكون الانسجام والوحدة العضوية شرطين لا غنى عنهما في القصيدة المقطعية. وإلا تحولت القصيدة إلى أحجار لا روح فيها مبنية دون تصور أولي أو مشروع هندسي تقوم عليه"(). وهذا ما عمد إليه حميد سعيد في مقاطعه الشعرية إلى تمتين علائقها النصية بأسلوب ارتكازي يقوم على عبارة مكررة؛ أو جملة علائقية مركزة لتكون نقطة توليف المقاطع وجذبها المحوري في القصيدة.

وبتدقيقنا- في المقبوس الشعري- نلحظ أن الشاعر يبئِّر الرؤى على موضوعة نصية واحدة ، تقريباً؛ وهي تبيان الشراسة الأمريكية الممثلة بـ[ جورج دبليو بوش] و [ إدغار ألن بو] ؛ فكلاهما رمزان للغطرسة الأمريكية والهيمنة الظالمة على شعوب الأرض، دالاً من خلالهما على الخراب والدمار اللذين يحملانهما للعالم، ولهذا ، عمد الشاعر في كل مقطع من مقاطع قصيدته إلى تركيز أوصافهما ، ليعبر من خلالهما عن الغطرسة الأمريكية الظالمة في عالمنا المعاصر التي جرّت أشكال الويلات والقتل والدمار والخراب كافة إلى العراق ؛ وهي شخصية [ جورج دبليو بوش] ؛ هذه الشخصية التي استخدمت كل أشكال العنف من قتل وتنكيل ونهب وسلب ودمار للتراث العراقي وأهله؛ فبدت الجمل كافة ارتداداً سلبياً لأوصاف هذا المجرم الظالم؛ وهذا ما جسده بوضوح في المقطع الثالث عبر الجمل التالية: "كن وقحاً وغليظاً وفظاً.. وكن سافلاً مثلما أنت"؛ وكأن الشاعر يجسد ثورته العارمة أو الفاجعة كلها إزاء هذه الشخصية الفظة التي تركت وقعها المدمر على روحه ونفسه؛ بإيقاع انفعالي هائج؛ وهذا دليل:" أن العلامات اللغوية في سياق النص لها فاعليتها المتشيئة في كينونتها؛ والتي تتعدى فكرة كون النص حقيقة واحدة؛ ومن هنا يظل " الاحتمال " هو الركيزة المرجعية للنص؛ وتظل المعاني- لا المعنى الواحد- هي الاحتمالات الواردة والمتجددة"().

وتبعاً لهذا، أدى التكامل النصي فاعليته في توحيد أواصر القصيدة ورؤاها؛ لتصب في بوتقة واحدة وهي تقريظ هذه الشخصية الدنسة في تاريخنا العربي المعاصر بأسلوب تعروي مثقل بالأحاسيس والانفعالات الغاضبة.
شعرية التفاعل:

إن خاصية " التفاعل" خاصية علائقية مهمة في النصوص الشعرية رفيعة المستوى، تلكم النصوص التي تغامر في نسقها الشعري المتفاعل ومضمونها الرؤيوي والدلالي الثر، ومن هذا المنطلق، يمكن أن نعد " القصيدة سلسلة زمنية من الكلمات ؛ مهما يكن الشيء الذي تعبر عنه، وذلك يؤثر على المادة التي يحاول الفنان في كل حال أن ينتج تأثيره فيها.. والعمل الفني مصمم على أن ينتج تأثيراً، فالصورة ترسم لينظر إليها، والقصيدة تنظم لتقرأ ، وبالتأثير الذي تسبغه علينا نحكم عليها"(). ومن أجل ذلك نحكم على القصيدة التي تؤثر فينا بالتفاعل وحراكها الكوني المنفتح.

وبثقة كاملة نقول: إن خاصية" التفاعل": خاصية بنائية ترفع سوية النص فنياً ، إثر تفاعل الجزئيات النصية الصغرى ، لخلق التلاحم النصي، خاصة ، حينما تتفاعل الجمل، وتنبض الكلمات بإيحاءات جديدة تكتسبها في سياقها النصي الجديد المتفاعل؛ وقد كانت الناقدة بشرى البستاني محقة في قولها : " إن القصيدة حدث سري أو صرخة منغومة أو شيء ينطلق بعيداً في الظلام، لكن الحقيقة أن ميلاد القصيدة لا يتضمن قطباً كهربائياً واحداً مغروزاً في أعماق الذات ، بل قطبين اثنين هما الإنسان والعالم إزاءه"(). والشاعر بتفاعله مع هذا العالم؛ وتأثره به؛ يعكس هذا التفاعل لا شعورياً على البنية النصية لقصائده ؛ وتبعاً لهذا تزخر الكلمة الشعرية في النسق النصي بتفاعلها الثر بدلالات لا حصر لها؛ وهذا ما أشار إليه الدكتور رجاء عيد بقوله:" من منجزات القصيدة الجديدة أن الكلمة لا تعني جسدها اللفظي ، وإنما تعني ما تستدعيه طاقتها اللغوية من مدلول آخر يتشكل في سياقها ؛ وإنما – القصيدة – تحرر المفردة من إسار الجملة ، أو من حدود العبارة،وقد تعبث – كذلك- بالدلالات في علاقاتها النمطية ، وكأن المعنى لذلك- هو جدلية المعنى في تلبساته وتحولاته ، وربما يستحيل ضبطه في منطق دلالة واحدة، تشير إلى واقع مادي محسوس، أو تصور ذهني محدود"().

وهذا ليس بغريب على نصوصنا الحداثية التي تعتمد التفاعل أسلوباً فنياً في رفد الكلمات بطاقات دلالية لا حصر لها في سياقها النصي ؛ تبعاً لهذا :" تشكل ركناً أساسياً من أركان آلية إنتاج النصوص وتحفيزها جمالياً"() . و من هذا المنطلق ذهب الدكتور سعيد حسن بحيري إلى تحديده النص من منظار أبنيته اللغوية؛ قائلاً:" النص إذن- وحدة كبرى شاملة لا تضمها وحدة أكبر منها، وهذه الوحدة الكبرى تتشكل من أجزاء مختلفة تقع من الناحية النحوية على مستوى أفقي، ومن الناحية الدلالية على مستوى رأسي. ويتكون المستوى الأول من وحدات نصية صغرى تربط بينها علاقات نحوية، ويتكون المستوى الثاني من تصورات كلية تربط بينها علاقات التماسك الدلالية المنطقية؛ ومن ثم يصعب أن يعتمد في تحليل النص على نظرية بعينها، وإنما يمكن أن تنبني نظرية كلية، تتفرع إلى نظريات صغرى تحتية تستوعب المستويات كلها"().
وما ينبغي التأكيد عليه: أن خاصية" التفاعل" من أبرز خاصيات نصوص حميد سعيد الشعرية على الصعيد الفني، والتماسك الدلالي ؛ نظراً إلى ما تحدثه من ترابط الرؤى، وتلاحم المضامين، وثرائها الدلالي؛ لتؤدي إلى اكتناز الرؤية وتخصيبها فنياً؛ وهذا دليل :" أن الإشارات اللغوية التي تحدث أثرها في القارئ تظل مشدودة إلى المبدع في طاقاتها البلاغية اللغوية ، لإيصال الرسالة التي يرسخها في لغته وتراكيبه الفنية، وهي رسالة يقصد إليها عقله، بوصفها أساس المعنى ، وإلا أصبح النقد فوضى ، وغدت القراءة عبثاً"().

ويمكن أن نقسم التفاعل- إلى نوعين، تبعاً لما هو ملحوظ في قصائد حميد سعيد؛ وهما:
التفاعل على المستوى المقطعي:

ونقصد بـ[ خاصية التفاعل على المستوى المقطعي] : تفاعل المقاطع فيما بينها في الرؤى والدلالات ؛ بحيث تتلاحم رؤاها النصية المقطعية كافة؛ وهذا التفاعل من شأنه أن يعزز شعرية القصيدة ، ويمنحها تألقاً على المستوى النصي؛ وتبعاً لهذا، يقول عبد الله حمادي:" توجب على العمل الإبداعي الرفيع أن يكون مسكوناً ومبطناً بتعدادية الإفضاءات الإيحائية داخل إطاره الفني الأحادي الذي ينفتح فيه الفضاء لفاعلية مختلف الإيماءات حتى تهيئ المناخ المتاح لإحداث الانفعال، لأن المتلقي، وهو يلج أغوار القصيدة لا يستقبل ظاهرة المعاني المتلبسة بظاهرة الألفاظ بقدر ما تلبس إحساسه معنى المعنى"(). وبهذا الأسلوب المتفاعل بين الألفاظ ودلالاتها تتعدد إغراءات الألفاظ في نسقها الشعري لتثير فاعليتها النصية، وتحقق توازيها النصي.

ويعد التلاحم المقطعي عنصراً مؤثراً في شعرية حميد سعيد المقطعية ؛ إذ إن المقطع يتلاحم في مدلوله مع الآخر؛ ويتفاعل معه في حيثية نسقية متوازنة؛ تشي بالتكثيف والفاعلية ، والتناغم والإيحاء، كما في قوله:

" اللصوصُ الصغارْ..
يخدمونَ اللصوصَ الكبارْ
واللصوصُ الكبارْ..
أقبلوا فرحينَ بما حققَّ اللصوصُ الصغارُ..
أكملوا بالحرائقِ.. ما لم تنلهُ الفيالقُ
واقتسموا حفلاتِ الدمارْ
بينَ نار ونارْ..
سيقالُ لمنْ أرخوا المواجعَ بغداد..
أو للجراحِ التي عبثتْ بصفاءِِ مروءتِها
رحمةً بالتتارْ.. رحمةً بالتتارْ.. رحمةً بالتتارْ.
ليسَ من شجرٍ آمنٍ.. أو منازل آمنةٍ..
ليسَ من رحمٍ آمنٍ..
كلُّ أمٍّ تحاولُ أن تبعدَ الموتَ عن بيتِها.
الطيورُ محرَّقةٌ والبلابلُ تائهةٌ ومياهُ الفراتينِ مقرورة
العواصفُ سودْ..
البراعمُ.. سودْ..
الينابيعُ سودْ
***
لا عهدَ لي بشفافيةِ التواريخِ..
كلُّ التواريخِ يخفي الكثيرَ من اللغظِ..
حيث تحلُّ البلاغةُ في مواضعِ ...
تخفي الكثيرَ من الأسئلة.
لكن بغداد..
مهما دجا ليلُها.. يتبينُ خطُّ البياضِ وخطُّ السوادِ بها
وتفرِّق بينَ البناةِ وبينَ الغزاةْ
بينَ عشاقها والزناة
......
......
تحتَ قصفِ صواريخهم وقنابلِ أحقادهم تتحفزُ بغداد
يقبلُ من كل ذرةِ رملٍ .. نبيٌّ يحفُّ بهِ الشهداءْ
ويقبلُ من كلِّ بيتٍ بها فتيةٌ أمناء
وتقبلُ راياتُ بغداد .. تلك التي خفقتْ منذ كانت..
وتقبلُ بغدادُ من بسملاتِ حرائرها
من قبابِ مساجدها وشموخِ منائرها
من هدى..
كأنَ آي الكتابِ هداه
من مدى
ليس غير العراقِ مداهْ"().

بداية نشير إلى أن: " التفاعل المقطعي"- في قصائد حميد سعيد- خصيصة علائقية تربط فيما بين المقاطع؛ وتثير فاعليتها النسقية، إذ إن تفاعل الكلمات في أنساقها، ينعكس على الجمل ؛ وتفاعل الجمل في أنساقها ينعكس على المقطع، وتفاعل المقاطع فيما بينها ينعكس على النص تماسكاً، وانسجاماً، وتوازناً نصياً؛ وهذا يدلنا على أن" النسق الجيد يترابط فيه كل عنصر بسواه في علاقة دلالية حتى تتولد استمرارية ترابطية"(). وهذه الاستمرارية الترابطية ليست مصدر الفاعلية النسقية فحسب؛ وإنما قد تكون مصدر تحفيز النسق الكلي، وركيزته الإبداعية الكبرى" وهذا التراتب يتشكل بدءاً من البنية الصغرى؛ ووصولاً إلى البنية الكبرى، أي النسق الكلي للنص"().وتبعاً لهذا؛ يندرج التفاعل المقطعي" ضمن ما يسمى بـ[ جمالية التفاعل النصي]؛ او [ ركائز العلم النصي]؛ " فعلم النص يتصدى لدراسة النصوص المختلفة، وأبنيتها ، ووظائفها بمعايير علمية مشتركة؛ على أن الأبنية العليا، والأبنية الدلالية الكبرى للنصوص يتميزان بخاصية مشتركة؛ إذ لا يتجددان بالنسبة لجمل أو لمتتاليات معزولة عن الجمل؛ وإنما بالنظر إلى النص كله، أو إلى أجزاء كبيرة منه على الأقل. والأبنية العليا لا تسمح لنا بأن نتعرف على أبنية أخرى محددة وشاملة فحسب ، بل تحدد في الآن ذاته النظام والترتيب الكلي لأجزاء النص؛ ومن هنا؛ فإن البنية العليا ينبغي أن تتألف من وحدات ذات مراتب محددة مرتبطة بأجزاء النص المتراتبة"(). وهذا دليل على أن الأبنية النصية متضافرة فيما بينها، لا يمكن دراسة البنى النصية الجزئية منفصلة عن النظام التراتبي النصي الكلي.

وبالنظر- فيما تثيره تقنية " التفاعل المقطعي"- في المقبوس الشعري- من إيحاءات ودلالات ، نلحظ أن الشاعر يحقق التفاعل الرؤيوي بين المقطعين، على مستوى الدلالات ، والرؤى ، والمداليل؛ بأسلوب تعروي كاشف عن مظاهر الفساد والانحلال كافة التي عاشتها بغداد في مرحلة من المراحل؛ من انحلال، وفساد ، وظلم وتفرقة وسوداوية وقتامة، بصور يغلب عليها الطابع التعروي الكاشف؛ في حين جاء المقطع الثاني منحرفاً برؤيته عن المسار النصي الأول؛ لكنه متضافر من حيث الرؤى والحيثيات النصية ، بالانزلاق بالصور من طابع سوداوي قاتم إلى طابع إيحائي مشرق؛ محملاً التاريخ المغلوط جريرة تزوير الحقائق، فما بغداد إلا رمز الحضارات وتطورها وإشراقها على مر التاريخ، فهي مصدر زهو حضارتنا العربية وتاريخنا العربي الحافل بالبطولات والأمجاد المشرفة؛ وتبعاً لهذا، تتفاعل الدلالات بالمضادة أو الاختلاف بين رؤية المقطعين؛ مما يجعلهما على تجاذب وتفاعل على المستوى النصي، وهذا دليل أن التفاعل المقطعي – في المقبوس السابق- يمثل صورة من صور التماسك النصي والتضافر النصي بين المقاطع؛ مما يجعلهما بغاية التفاعل والمغنطة النصية، وتبعاً لهذا يمكن القول: إن النص الإبداعي المتكامل هو نص تفاعلي يرقى الشاعر فيه مستويات من الرؤى المتفاعلة، قد لا يستطيع المبدع ذاته تلمس مثل هذا التفاعل النصي المثير، لأن" النص المبدع قد يخفي بعض أسراره حتى عن مبدعه ، مقاوماً الزمن وغباره وانتصاره معاً. ولذلك كان من العصي على النقاد والدارسين تعريف الشعر تعريفاً جامعاً مانعاً، لأن فيه ما سيظل دوماً كامناً يلتف بغلائل غموضه الفني التي تزيد متلقيه إغراء بالمعاودة"().
التفاعل على المستوى المقطعي:

ونقصد بـ[ التفاعل على المستوى النصي] تفاعل المقاطع أو الجمل فيما بينها تفاعلاً تاماً، يشي بالتآلف، والتناغم، والانسجام؛ مما يعني :أن ثمة تكاملاً في الرؤية، أو توحداً في المنظور الأدبي، وتنظيماً في العمل الشعري من شأنه أن يرفع وتيرته الشعرية، ويزيد من درجة تآلفه وتناغمه وانسجامه؛ وهذا يدلنا أن ثمة "تناسقاً في النص الشعري [ الرفيع المستوى] على مستوى المتواليات اللغوية المشكلة لعلائقه؛ وهذه المتواليات لها انتظام معين على مستوى العلائق التي تربط فيما بينها"(). لتحقيق تفاعله النصي وتضافره على مستوى الرؤى والدلالات؛ وهذا يشي بأن" النص – حسب جيرار جينيت- طرس يسمح بالكتابة على الكتابة؛ ولكن بطريقة لا تخفي تماماً النص الأول الذي يظل مرئياً ومقروءاً من خلال النص الجديد؛ وهذا يعني أن النص الجديد يخبئ نصاً آخر"().وتبعاً لهذا المنظور، يحقق النص الشعري الرفيع أعلى مستويات أو درجات تفاعله من حيث دقة التنظيم وجمالية الرؤية ، وتضافرها الدلالي وانسجامها الفني.
وما ينبغي تأكيده: أن التفاعل على المستوى النصي- في قصائد حميد سعيد- تفاعل تضافري منسجم على مستوى الرؤى والدلالات يملك قدرته وفاعليته القصوى على توجيه المتلقي إلى فاعلية النص، واكتشاف عنصر تفاعله، وانسجامه على شاكلة التآلف والانسجام في المقاطع التالية:من قصيدته الموسومة بـ[ محاولة لإعادة رسم الجورنيكا]:

تستفيقُ العصافيرُ.. ترسمُ دائرةً بنثارِ الغيومِ
وتهبطُ في بلاثا مايور..
تسترقُ السمعَ للمنشدينَ الهواة.. تبارحُها
ثم تهبطُ في ساحةِ الجامعهْ،
نشرتْ صحفُ البارحهْ
العصافيرُ تبدأُ مشوارها بالحوارِ الصباحيِّ
تقرأ أشعارَ غارثيا لوركا
تطيرُ لتهبطَ في ساحةِ الجامعهْ
***
بدأ السجناء القدامى يحلون في الذاكرهْ
والعصافيرُ تبحثُ عن فرحٍ واحدٍ لم يرَ الحزنَ..
عن مدنٍ لم ترَ الشفرةَ القاطعهْ
***
إنها الساعةُ التاسعهْ
تبدأُ الآنَ خيخون ليلتَها
والعصافيرُ تبحثُ عن مقعدٍ فارغٍ
من سيسقي العصافيرَشاياً..
ولم تأت ِالكسندرهْ
***
تبحثُ الأرضُ منذُ ثلاثينَ عاماً عن الفعل
يخرجُ من دمِها الضحكُ..
عن سيدٍ يرثُ الجسدَالمترمِّل
كانَ السجينُ المؤجَّلُ .. يطرقُ أولَ بابٍ يصادفه
تفتحُ البابَ الكسندرهْ"().

بداية، نشير إلى أن " التفاعل النصي" 0 في قصائد حميد سعيد وليد تفاعل الحيثيات المقطعية الجزئية، المشكلة لشبكة علائقها اللغوية؛ إذ إن " الرؤيا" لا تكتمل بتمامها إلا باجتماع الرؤى في إطار من التناغم والخلق اللغوي المنسجم، مما يشي بطابعها التفاعلي من أدنى وحداتها النصية المشكلة إلى أعلى وحدة نصية أخرى مشكلة لشبكة علائقها النصية. يقول أدونيس:" يجب أن تكون القصيدة شيئاً تاماً تتداخل ، وتتقاطع ، بحيث أن كل جزء منها يأخذ معناه من الكل. للقصيدة بهذا المعنى، نوع من الغائية الداخلية"(). هذه الغائية هي الخيط الدلائلي الخفي الذي يربط بين الوحدات النصية لتحقيق ائتلافها وتناغمها النصي.

وبالنظر- فيما تثيره الرؤى الجزئية المقطعية على المستوى النصي- نلحظ أن كل مقطع يشكل جزءاً في اللوحة الشعرية، لتقوم اللوحة على أربعة قوائم متماسكة متفاعلة؛ تكتمل من خلالها ظلال اللوحة وعناصرها المشكلة لها؛ ففي المقطع الأول يرسم الشاعر ظلال العصافير والغيوم المحيطة بها، ثم يستدعي شخصية ( غارثيا لوركا) ؛ ليشكل بؤرة اللوحة ، ودفقها الشاعري؛ في حين يأتي المقطع الثاني؛ ليشكل العنصر الأبرز في اللوحة من خلال الاعتماد على المشاهد البصرية المرئية الحسية، لتبدو اللوحة أقرب إلى عدسة المشاهد بحراكها البصري إثر رصد حراك العصافير؛ لتملأ سماء اللوحة وظلالها المرئية، أما المقطع الثالث؛ ويأتي تمثيلياً بأبعاد حسية لظلال اللوحة بإحساس دعابي لا تغيب عنه ملامح الفكاهة عبر شخصية خيخون والكسندرة ، بتماهي بصري مشهدي حسي للحراك اللوني في اللوحة عبر تمازج المحسوسات بالمرئيات بالمجسدات؛ لخلق التوازن اللوني في ظلال اللوحة وأبعادها الترسيسمية الدقيقة؛ ثم يأتي المقطع الرابع ، ليكسب التلاعب اللوني والتشخيصي للأشياء خصوبة الإيحاء في اللوحة؛ وهذا دليل أن التفاعل النصي عنصر ضروري في تحفيز انسجام النص وتفعيله النصي، مما يجعله غاية في التنامي والإيحاء الشعوري. وهذا يدلنا : أنه:" كلما ازدادت القصيدة إحكاماً وتعقيداً قل عدد قرائها المتمرسين ، أعني القادرين على الوصول إلى نقطة الاندماج بالنص وتفجير مكنوناته الفكرية والوجدانية والبنائية"(). وهكذا، يبدو لنا أن التفاعل النصي عنصر جوهري من عناصر قصائده اللوحاتية، لتحقق فاعليتها القصوى في التحفيز والتفعيل الإيحائي النصي، وهذا دليل أنه في " العمل الفني الأدبي تتفاعل وظائفه تفاعلاً غائياً، أي تفاعلاً متوجهاً نحو غاية، وهذا التفاعل يحدث على نحو يكسب العمل طابعاً مميزاً به، ومن خلاله يبقى ويحيا على النحو الذي يكون عليه، تماماً ، مثلما أن الكيان العضوي الحي تكون له مجموعة من الوظائف التي يعبر بها عن أسلوبه المميز في الحياة"().

شعرية التماسك:

إن خاصية " التماسك" ، من أبرز الخاصيات النصية التي التفت إليها علماء اللغة؛ خاصة ما أسماها بعضهم بـ" خاصية التماسك الفني" الذي يحدث في النصوص الأدبية رفيعة المستوى؛ يقول سعيد حسن بحيري:" ينبغي أن نفرق هنا بين الربط الذي يمكن أن يتحقق من خلال أدوات الربط النحوية (الروابط)، والتماسك الذي يتحقق من خلال وسائل دلالية في المقام الأول؛ ويمكن تتبع إمكانات الأول على المستوى السطحي للنص، إلا أن الثاني يتمثل في بنية عميقة على المستوى العميق للنص، يمكن أن تقدم أيضاً لطرق الترابط بين تراكيب ربما تبدو غير متسقة أو مفككة على السطح؛ وتبعاً لهذا يرى" فدايك" أن التماسك يتحدد على مستوى الدلالات ، حين يتعلق الأمر بالعلاقات القائمة بين التصورات ، والمتطابقات، والمقارنات، والتشابهات، في المجال التصوري ، كما يتحدد على مستوى الإحالة أيضاً ، أي ما تحيل إليه الوحدات المادية في متوالية نصية"().

ولما كان النص الشعري شبكة من العلاقات النصية المتفاعلة؛ فهذا يعني أنه ينطوي على طبقات نصية متداخلة، ومؤشرات لغوية فاعلة، تتأسس عليها معطياته الدلالية؛ وتبعاً لهذا" يعتمد الترابط على المستوى السطحي على وسائل لغوية ذات وظيفة مشتركة، أما التماسك الآخر الذي يعني الوحدة، والاستمرار، والتشابك ، فيقوم على قواعد وأبنية تصويرية تجريدية؛ وقد أدت هذه الخاصية إلى الاختلاف بين علماء النص في محاولاتهم- المتكررة والمتباينة المداخل لاكتشافها. وهذا التماسك الكلي يتجاوز الأول ، لكن تحقيقه غير ممكن دون كفاءة تتخطى كفاءة الشخص العادي؛ كفاءة المفسر الواعي: فهو الذي يبرز خواص أي نظام للتفكير؛ ويتصف بالدينامية، ويستند إلى أنواع مختلفة من المعارف؛ وكما يتجاوز نحو النص نحو الجملة يتجاوز التماسك الدلالي الترابط النحوي؛ ويتجاوز التماسك الدلالي الأبنية النحوية السطحية للنصوص ليتصل بمجمل عالمها الدلالي والشعري"().

وبهذا التصور ، يبدو التماسك في النسيج اللغوي النصي بؤرة تفاعل الرؤيا والمضمون النصي الذي تخطه القصيدة، لتحقق فاعليتها النصية؛ وهذا – بدوره- ينعكس على الرؤيا النصية ، وتعيينها النصي؛ يقول سعيد توفيق:" إن العمل الفني لن يكتمل وجوده كموضوع جمالي إلا عندما يكتمل تعينه . وفكرة العمل الفني الأدبي هي ذروة العمل الأدبي"(). في تماسكه وتفاعله النصي.

ويتخذ" التماسك"- في قصائد حميد سعيد- نمطين بارزين، أولهما – التماسك على المستوى المقطعي وثانيهما- التماسك على المستوى النصي.
التماسك على المستوى المقطعي :

لا شك في أن التماسك المقطعي هو جزء من التماسك النصي، وكلما تضافرت الأنساق النصية وتفاعلت فيما بينها كلما ازدادت فاعلية النص ، ودرجة تماسكه؛ وهذا يعني أيضاً أنه كلما تعمقت رؤياه الشعرية وتغلغلت في ثنايا أنساقه وتشعبت في شبكتها النصية ؛ كلما استمدت عناصر فتنتها النصية ورؤياه العميقة المحفزة للمكاشفة النصية والتأويل النصي. وتبعاً لهذا فقد :" أكد فندايك أن تصور البنية الكبرى لا يؤدي إلى تصور التماسك الكلي بين وحدات النص الكبرى فحسب؛ بل يؤدي كذلك إلى تصور التماسك الجزئي بين الجمل والمتوليات الجملية أيضاً؛ ومن ثم فإن تحليل النصوص يعتمد على رصد أوجه الترابط والانسجام والتفاعل بين الأبنية الصغرى الجزئية والبنية الكلية التي تجمعها في هيكل تجريدي"().
وما ينبغي الإشارة إليه أن التماسك المقطعي- في قصائد حميد سعيد- لا ينعكس على مستوى المقاطع وحيثياتها النصية، وإنما ينعكس على علاقة الكلمات، والتشكيلات داخل الأنساق الجميلة ذاتها؛ مما يعني أن التماسك خاصية علائقية مهمة من خصائصها النصية. للتدليل على ذلك نأخذ قوله من قصيدته( بلاثا مايور) ما يلي:

" يمطرُ الشجر..
تمطر الريحُ..
أبوابها تمطرُ..
كانت الحانةُ الحجريةُ باردةً " ليلُ بغداد أبهى"
وكانت تعلِّمُ عشاقَها الخوفَ
" بينَ الرصافةِ والجسرِ.. ماتَ الأحبةُ"
لو تعرفينَ الحقيقة..
كنتِ تعرَّيتِ لي..
إنني أول العاشقين
***
تلعبينَ معي لعبةً نتبادلُ فيها المواقعَ..
أعطيكِ حبي..
وتعطيني ساعةً أنتِ فيها
***
بلادي أعزُّ عليَّ من العينِ
أغلى من العينِ ابهى
بلادي .. الفراتُ.. النخيلُ
الهوى،
أنت تحترمينَ التسولَ والنومَ بين الكؤوس
تغطينَ نهديكِ بالعملةِ الأجنبيةِ والبوسترات
في ساحلِ النارِ.. روضكِ الشره..
الطعمُ يحملُ رائحةَ البحرِ..
ما حذرتكِ المياه
فتقدمتِ طائعةً حلوةً
ترقصينَ لسنارةِ الصيد..
للصائدين"().

بداية؛ نشير إلى أن خاصية" التماسك المقطعي" -في قصائد حميد سعيد- ليست وليدة التماسك النسقي بين أمشاج الجمل الإسمية والفعلية فحسب؛ وإنما وليدة التماسك والتضافر فيما بين المقاطع لتشكيل رؤيتها النصية، بهندسة شعورية متلاحمة، تشي بالتماسك، والتضافر النصي ؛من مقطعها الأول إلى مقطعها الأخير؛ وهذا يعني أن ثمة تنظيماً دلالياً للمقاطع في بلورة الرؤية الكلية التي تطرحها القصيدة ، لدرجة أن قصائده تحشد طاقتها النصية الإيحائية كلها، لإثارة القارئ بالتفاعل النسقي الذي من شأنه أن يضاعف مردوده في خلق التماسك الفني بين الأنساق اللغوية والرؤى المقطعية كافة.
وبالنظر فيما تحدثه الحيثيات المقطعية من تماسك نصي على مستوى المؤثرات أو المحفزات النصية نلحظ أن الشاعر حميد سعيد يبني قصيدته على مناوشة جمالية شعورية لبلاده التي عاش في كنفها، وامتشق في ظلالها أجمل سني العز والشموخ والإباء؛ محاولاً استدراج القارئ إلى حيثيات هذه المناوشة الجمالية التعبيرية بالتناص تارة[ بين الرصافة والجسر.. مات الأحبة] ؛ وبالمجاورة النسقية التي تجترح ألقها الفني من بداعة ماثيره المجاورة من مشاعر ومحفزات تارة أخرى؛ وهذه المشاعر بقدر ما فيها من الشفافية والرقة بقدر ما فيها من الشجن والإحساس بالأسى على ذكرياته الغناء؛ والتي أفلت وتلاشت معها الأحلام والأماني الخضراء؛ ففي المقطعين الأول والثاني نلحظ جمالية التآلف والتماسك النصي بالدعابة الشعورية والتناص الموحي الذي يعزز مظاهر حنينه إلى بلاده، ثم يحاول أن يستظهر حبه لها، واحترامه إياها في المقطع الثالث من خلال الفخر بها وبغلاوتها على قلبه ونبضه وفؤاده، محاولاً الإشادة بمكانتها العظيمة السامقة على قلبه وعالمه الوجودي؛ وتحذيرها بالخطر المحدق بها من كل جانب ، إثر تعاملها مع الغرب، لأن الغرب لا يجلب إلى بلادنا إلا الدمار ومظاهر الخراب كافة؛ وهكذا؛ تتماسك الرؤى المقطعية؛ وتتضافر فيما بينها، لتحقيق رؤية نصية متكاملة ، تشي بالتآلف والانسجام ، مما يجعلها غاية في الائتلاف والتفاعل والترابط النصي؛ وهذا دليل أن " التماسك على المستوى المقطعي وليد تضافر الرؤى وتلاؤمها وانسجامها ضمن النسق الشعري، وليست خارجة عن نطاقه إطلاقاً، وتبعاً لهذا:" فإن منتوج النص يوصف بأنه مسيج بمنظومة كبرى من النصوص والخبرات والثقافات؛ يتكيف معها تبعاً لطبيعته"(). وهذا التكيف هو ما يجعل نصه مسكوناً بعلائق متفاعلة شتى؛ تجدها على الرغم من اختلافها وتشعبها متلاحمة في النسيج الشعري النصي المتكامل.

التماسك على المستوى النصي:

طالما أن النص شبكة لغوية منظمة من الأنساق والعلائق النصية المترابطة على مستوى الدوال والمدلولات؛ فإنها لا تنتج شعريتها بتمامها وكمالها إلا بتكامل هذه الشبكة والتحامها في رؤية نصية واحدة أو مشتركة؛ وما ينبغي تأكيده في هذا الخصوص أن خصيصة " التماسك النصي" تضفي على النص طابعاً نصياً منسجماً خاصة عندما يكون وحدة نصية كبرى تجمعها وحدة شعورية متكاملة، أو رؤيا موحدة كبرى هي حصيلة الرؤى المقطعية المتوازنة أو المتضافرة في النسق الكلي المشكل لشبكة القصيدة وعلائقها النصية؛ وهذا الانسجام من شأنه أن يضفي على النص طابعاً شعورياً موحياً من حيث عمق الرؤيا ووضوح المقصدية ؛ وتبعاً لهذا، يحقق التماسك فاعليته وفق ما يسمى بـ[الانسجام النصي]؛ إذ " من الممكن أن يتحقق الانسجام النصي من عناصر لا متجانسة، وهذا ما يقصده" أنجاردن" حينما يصف بنية العمل الفني بأنها " انسجام متعدد الأصوات" فهو يعني – بذلك- أن شأنها شأن الانسجام أو التناغم الموسيقي الذي ينشأ من أصوات عديدة لا متجانسة تنتمي إلى طبقات مختلفة. هذا الانسجام يكمن في القصد الفني، والقدرة على خلق هذا الانسجام بين عناصر لا متجانسة هي الإبداع الفني"().

والتماسك هو حصيلة تفاعل العناصر اللامتجانسة/ والمتجانسة في القصيدة؛ فيبدو النص أشبه بالخيوط النسيجية المتداخلة التي تدخل في تركيبه خيوط عدة من عناصر مختلفة ومتباعدة وألوان مغايرة؛ فإذا ما نظرت من خلالها إلى المجموع لبدا لك تناغمها وانسجامها وحسن إحكامها وفنيتها الآسرة، وتبعاً لهذا، يعد " التماسك النصي" خصيصة علائقية نابعة من مصدرها الفني" التناغم" و " الانسجام" سواء أكان ذلك على المستوى المقطعي، أم على المستوى النصي ؛ لأن النص هو حصيلة تفاعل الأنساق اللغوية وعلائقها الجزئية ؛ ومن خلال فاعلية هذا الانسجام والتفاعل الخلاق تتحقق فاعلية التماسك، وتؤدي ثمارها النصية؛ وهذا دليل أن التماسك النصي لا يأتي هبة أو منحة للنص، ولا يأتي عن رغبة أو دافع داخلي إلى تحقيق هذه الغاية؛ وإنما يأتي عن تلاحم شعوري وحراك نفسي داخلي متوتر، يصقله الوعي الفني بالبناء المقطعي والتنظيم النصي؛ ولا يمكن للنص الشعري أن يكون شعرياً بامتياز دون توافر خاصية التفاعل والتلاحم والتماسك النصي. وبناء على هذا؛ فإن الشاعر مهما عمد إلى تزويق نصه فلن يرقى بشعريته إلى المستوى الفني اللائق الذي تحققه تقنية "التماسك النصي" التي هي مرجعية شعورية داخلية بالأساس ، تنشأ لحظة الإحساس بالموقف الشعوري. أو لحظة الانفعال الأولى في مرحلة الانبثاق النصي أو لحظة المخاض الشعري، لا يصطنعها الشاعر اصطناعاً؛ ولا يخلقها خلقاً ، وإنما تنشأ فجأة نتيجة إفرازات الموقف العاطفي الشعوري الموحد ، أو لحظة الإحساس الشعوري الأولى في النسق الشعري.

وما ينبغي تأكيده:

أن الشاعر حميد سعيد استطاع أن يعزز الموقف النصي، ويزيد من فاعلية موازنته النسقية؛ فالقصيدة – لديه- تحقق تماسكها التام من تضافرها النسقي، ابتداء من الجزء، وصولاً إلى الكل؛ ومن الكل وصولاً إلى الجزء، مما يعني أن خاصية التماسك النصي- في قصائد حميد سعيد- خصيصة علائقية مهمة تحقق أقصى درجات التفاعل والانسجام النصي . ففي قصيدته الموسومةبـ[ تخطيطات بالفحم والدم على جدران المتحف العراقي] نلحظ توازنها النسقي، وتضافرها المقطعي، وتماسكها النصي، فكرة تجر أخرى، ورؤيا تجر مثيلاتها في التركيب، بحس شعوري متناغم يزيد تلاحم القصيدة ، وتماسكها النصي ، كما في قوله:

"

السومريونَ أفاقوا من سماسيرِ الرؤى..
فانفتحتْ على جحيمِ العالمِ السفليِّ .. ألفُ بابْ
وجاءَ ربُّ الجندِ من ممالكِ الحقدِ .. إلى أوروك..
منتقماً..
فاشعلَ النيرانَ في نخيلِها.. وأشعلَ النيرانَ في الأعنابْ
أيقظتُ المليكَ البابليَّ من سباتِه البعيدِ ..
ضجةُ اللصوصِ في الأسواقْ
وفزعتْ كاهنةُ المعبدِ في آشورْ
أهذهِ نهايةُ الكونِ.. وهذي فورةُ التنورْ؟!
خائفةٌ عشتارُ.. قانتٌ تموز..
من هؤلاء؟!
انتزعوا الألوانَ من ثمارِ حقله
وجرَّحوا الألحانَ .. في ليالي الحانْ
نهبوا ما أبدعَ الزمانُ.. من كنوزْ
***
القادمونَ من أرومةِ الخلِّ .. ومن مستعمراتِ النملِ..
من بقايا مدنٍ منسيَّة.. من حقبٍ وحشيةٍ..
من عفنٍ في الروحِ
من عجينٍ فاسدٍ..
ومن سلالاتِ الخرابِ والخرائبِ..
من هو أنكيدو؟!
تقولُ المرأةُ البغيّ. لم يكن لي صاحباً
ولم يذقْ من ثمراتِ جسدي.. حلواً ولا مراً
ولم يكن خلا لكلكامش .. ما رافقهُ يوماً إلى الماءِ..
الذي خبأ فيهِ الجدَّ سرَّ الموتِ والحياة
........
........
ترتجفُ النصوصُ في أصابعِ اللصوصْ
تسَّاقطُ القصائدُ الأولى.. كما الأسنانِ في الشيخوخةِ
اقتربتُ من كاهنةِ المعبدِ..
كانتْ تتخفَّى من أزقةِ الكرخِ .. وكأن دمُها
يمتدُ من جراحِها إلى فضاءِ الموت.. في المتحف
كانَ ناصر بعل يبكي.. بعد أن جرَّده الغزاةُ من خوذتهِ
حيث رأى الليلةَ.. في مواسمِ الأسلافْ
النارَ والرمادْ.. النارَ والرمادْ.. النارَ والرمادْ.
ليس سوى مرثيةٍ سوداءَ صارتْ البلاد"().

بداية، نشير إلى أن " التماسك النصي" – في قصائد حميد سعيد- يتأسس على طبقات نصية متضافرة ؛ إذ إن كل طبقة تشد الطبقة الأخرى في علاقة تضافر ، وتوازن، وانسجام نصي؛ يسهم في تعضيد رؤية القصيدة ، وتحقيق تمماسكها وانسجامها النصي. وهذا يدلنا على أن التماسك النصي- في قصائد حميد سعيد- ليس وليد تخطيط مسبق ، وإنما هو نتاج تفاعلي خلاق بين رؤيته الوجودية ، وتفاعله مع العالم المحيط ؛ وهذا هو أسلوب الفن الشعري الراقي الذي يرومه كل فنان أو مبدع في تشكيل نصه: "فما الإبداع الفني سوى نتاج تفاعل أو لقاء خلاق مستمر بين الفنان والعالم. وأسلوب الرؤية لدى الفنان لا يوهب له، وإنما يكتسبه من خلال خبرته بالعالم وبأعمال الآخرين ، دون أن يكون قادراً على أن يميز ما الذي اكتسبه من العالم؛ وما الذي تعلمه من الآخرين، وما الذي تمخضت عنه قريحته"().

وبالنظر- فيما تثيره تقنية " التماسك النصي من مؤشرات فنية في المقبوس الشعري ، نلحظ أن الشاعر اعتمد التوازن النسقي عبر تضافر الرؤى وتفاعل حيثياتها النصية ضمن النسق من خلال استحضار الأسطورة لتحكي واقعنا المعاصر، فأسطورة [ عشتار/ تموز] آلهة الخصوبة البابلية القديمة ارتكزت عليها القصيدة ، لتشكل بؤرة دلالتها ومركز إشعاعها الفني، فهي الأرضية أو اللسان، أو الترجمان الناطق عن واقع العراق الراهن في المقطع الأول؛ للدلالة على التحول في حياة العراق من النعيم إلى الجحيم ؛ ومن يبايع الخصوبة والحيوية والجمال، إلى مظاهر العقم والاضمحلال والزوال؛ وتبعاً لهذا التحول ، تتحول الرؤى والدلالات في المقطع الأول، لتثير حراكها النفسي والدلالي؛ في حين جاء المقطع الثاني ، مرتكزاً على الدلالات الجدلية وتفاعلها ضمن النسق ، بالاعتماد على الأنساق الجدلية أو الثنائيات الضدية أو الرموز الأسطورية المتقابلة كـ[ أنكيدو/ كلكامش] ، و [كاهنةالمعبد/ ناصر بعل] ، و[ النار / الرماد]؛ لتكون رحم الخصوبة، والانبعاث ، أو الانبثاق ؛ من رماد المعاناة وجراحها إلى نيران القوة، والحضارة ؛ والإشراق وخصوبتها ؛ وبذلك تعمقت دلالات القصيدة بالتماسك النصي عبر فاعلية الأسطورة وتلاحمها النصي؛ فالشاعر حميد سعيد يملك الرؤية النصية العميقة التي يجذرها على فاعلية الأسطورة ورؤياها العميقة من جهة؛ ويملك الفاعلية المعرفية المثيولوجية القصوى على أن يترجم هذه الرؤية بفاعلية نصية قصوى تتجاوز الرؤى النصية السطحية إلى ما تحدثه الأسطورة من إيحاءات ترصد الواقع، وتربط بين ما هو آني، بما هو ماضوي، وبما بماهو مستقبلي من جهة ، لعقد المفارقة بين الواقع الماضوي المشرق للعراق ، والواقع الحالي الذي غدت فيه بغداد شبحاً أو فزاعة سوداء، دلالة على المآسي والمجازر التي تحدث في بغداد واحدة تلو أخرى ، وبذلك ، يتضافر المقطعان معاً في بلورة الرؤية النصية وتعميقها بتماسك رؤيوي وتلاحم دلالي فاعل، لتقوم الأسطورة بتعضيد هذا التلاحم الدلالي بالمقطعين لتأكيد الفاعلية النصية؛ وهذا يدلنا على أن التماسك النصي- في قصائد حميد سعيد- تماسك رؤيوي يرتكز على ما تبثه الرؤى العميقة عبر الأساطير والرموز التاريخية لفك إيحاءاتها لتجذر إبداعها الرؤيوي. وهذا دليل تحول المعاني وزوغانها في قصائد حميد سعيد لتكثيف الرؤى النصية وتعميقها وتعزيزها دلالياً؛ دون أن يخفى أثر تماسكها النصي وحراكها الشعوري الرؤيوي المكثف بالارتكاز على ما تثيره الأساطير من عمق ورؤى نصية مبئرة للرؤية؛ وحدثها الأسطوري المحايث لزماننا الراهن ، بمعنى أن الشاعر يقتنص الأحداث والبنى الأسطورية من الأٍساطير البابلية القديمة؛ لتفعيل نصوصه وتناميها فنياً ودلالياً؛ يقول علي جعفر العلاق؛ في هذا التوظيف الفني الذي اعتمده الشعر العراقي ما يلي:" كان الشعر العراقي- وهكذا حكم لا يخلو من استثناءات طبعاً- ابن الحرقة الدائمة والعذاب اليومي وكان أيضاً ، ابن بيئة شعرية شديدة الوعورة ، بيئته عجنت حجارتها بالحبر والدم والماء. لقد ورثت هذه البيئة جذوة القلق؛ والتفجع ، والارتطام بالموت منذ القدم: من نواح كلكامش على أنكيدو ، مروراً بكل ما شهدته هذه البلاد العجيبة، بلاد ما بين النهرين من مجازر وأعراس وحضارات، إنها بيئة هذا الغناء المثقل بالأسى والحنين، وفظاظة هذه اللحظة المريرة التي نقف أمامها برعب أقسى من الموت، وذهول أعمق من الصلاة أعني هذه اللحظة العراقية الخاصة ، حيث لا ملاذ إلا الشعر والعذاب ، ولا فضاء إلا الأقمار السوداءْ والأنهار الخربة"().. وهذا القول دليله النص السابق لحميد سعيد الذي يتضمن توظيفاً فنياً مؤثراً للأساطير البابلية القديمة ، لإحداث أثرها الفني وتكثيفها الدلالي، وخصوبة قصائده على المستوى الرؤيوي. فالقارئ لقصائد حميد سعيد ينبغي أن يبحر في فضائها؛ وهو متسلح ببعد معرفي ومحزون ثقافي مثيولوجي في علم الأساطير والرموز التاريخية، يعني ينبغي أن يملك الطاقة المعرفية وهو متسلح:" بنشاط إدراكي خاص ليكون قادراً على تأمل عاطفي لمجمل انسجام الكيفيات الجمالية الذي تتأسس عليه القيمة الجمالية النهائية للنص المدروس أو العمل النصي المدروس "(). لأن نصوصه عميقة الرؤى والحيثيات النصية، لذلك تتطلب مهارة في الكشف ؛ وعمقاً في التقاء حيثياتها النصية العميقة.

وتبعاً لهذا، تتحدد جمالية التماسك الفني- في بنية القصيدة لدى حميد سعيد- بمقدار تحفيزها للرؤى وتحقيق تفاعلها وتناغمها النصي، وكلما تملك القارئ القصيدة ، وولف بين عناصرها المتباعدة ؛ وتتبعها بعمق وإدراك حسي عميق كلما استطاع أن يكشف مغرياتها النصية، ويستظهر مضمراتها النصية الخبيئة وعلائقها الرابطة التي تمثل ذروة تنامي فاعليتها النصية وبعدها المعرفي.

شعرية الانسجام:

تعد خاصية "الانسجام" من الخاصيات النصية الفاعلة في تحفيز لغة الشعر، بوصفها: الخلفية النصية الأساس لفاعلية النصوص الإبداعية، ومصدر شعرية بنيتها واكتنازها جمالياً؛ فالبنية النصية إن لم تحقق عنصر التوازن والانسجام فإنها لن ترقى إلى مستواها الإبداعي الشائق أو الرائق الذي يتوق إليه الشاعر في تمثله الفني لموضوعه الشعري؛ والانسجام بالمفهوم النصي العام هو التوليف الفني بين العناصر المتجانسة واللامتجانسة ، والمتوافقة والمتنافرة ؛ لإبراز عنصر تماسكها، وانسجامها ، وتفاعلها النصي؛ وطالما أن العمل "الفني ليس موضوعاً مثالياً، لأنه موضوع مصنوع فهو نتاج لنشاط قصدي من جانب الفنان"(). وهذا يعني أن إدراك القيمة الجمالية لإبداعه، لا بد وأن ينطوي على متحققاته النصية المثلى، ولعل أبرزها الانسجام النصي الذي يعني تفاعل الأجزاء النصية، وتأكيد توازنها وانسجامها في بنية قصدية نصية مكتملة أو متكاملة.

وأبرز ما يميز الانسجام في العمل الفني أنه انسجام فني رائق تتحقق غائيته بمقدار أبراز عنصر الفن أو الجمال في بنية العمل الأدبي ذاته الذي هو في المحصلة انسجام في الرؤية ، وانسجام في التشكيل أو التركيب الفني نسقياً، يقول عالم الجمال دوفرين:" فالعمل الفني يجد غايته في الموضوع الجمالي، ويفهم من خلاله.. وبعبارة أوضح.. إذا كان الموضوع الجمالي يستمد وجوده من العمل الفني . ويتضح معناه من خلال الرجوع إليه فإن العمل الفني يجد حقيقته في الموضوع الجمالي"().

ومن هذا المنطلق؛ فإن خصوبة العمل الفني ليست وليدة إدراكه ، وإدراك علاماته اللغوية ومستتبعاتها النصية بقدر ما هي وليدة انسجامه وتفاعله النسقي، ومن أجل هذا تعد تقنية" الانسجام الفني" من أبرز ما يميز النصوص الشعرية الخصبة ذات الفاعلية القصوى من الإثارة والتحفيز النصي.
ويمكن أن نقسم الانسجام إلى نوعين في شعر حميد سعيد على نحو ما ظهر لنا جلياً في قصائده ، وهما:
الانسجام على المستوى المقطعي:
الانسجام على المستوى النصي.

الانسجام على المستوى المقطعي:

ونقصد بـ[ الانسجام على المستوى المقطعي] :

تضافر المقاطع فيما بينها، لإبراز التفاعل والتضافر النصي على مستوى تفاعل الرؤى المقطعية في كلا المقطعين، استجابة لتفعيلها النصي، وتماسكها الدلالي؛ وهذا من شأنه أن يفاعل الرؤى والمحفزات النصية، لإثبات عنصر الإثارة والتحفيز النصي.

ومما لا شك فيه أن عنصر الانسجام المقطعي لا يقل قيمة عن التماسك أو التفاعل النصي؛ لأنه عنصر مكمل لكل منهما، بل رافد لهما في عملية التشكيل الشعري أو الخلق النصي؛ ومن هذا المنطلق، فإن الشاعر المبدع لا يبني نصه بناء عشوائياً كيفما اتفق وبالطريقة الاعتباطية للتشكيل ، وإنما بهندسة تشكيلية نسقية محكمة، تحقق الانسجام البصري والدلالي في آن، وبقدر ما يحقق الشاعر التوازن والانسجام المقطعي في تشكيل قصائده بقدر ما يثير القارئ، ويستدرجه إلى فاعلية نصوصه الشعرية لمطالعتها وتأملها، ومحاولة كشفها، وتحليلها النصي.

ويعد حميد سعيد من أبرز شعراء جيل الستينيات من القرن الماضي عناية واهتماماً في تشكيل قصائده بهندسة فنية معمارية محكمة ، محققاً أقصى درجات الانسجام الفني إن على صعيد انسجام المقاطع وتوازنها في القصيدة؛ وإن على صعيد التفعيل النصي وتفاعل الحيثيات النصية كافة في قصائده؛ مما يجعلها بغاية التركيز والتفعيل النسقي في منحاها وتشكيلها الفني؛ ففي قصيدة( وردة الكتابة) لحميد سعيد نرى تفاعل المقاطع وانسجامها لتحقق توازنها النصي وتفاعلها الإيحائي ، كما في قوله:

"واقفاً بينَ سرِّي ونجوايَ..
ماذا سأخفي عليه؟!
أناديه من أولِ الصحوِ.. يا أولَ الصحوِ
إني نسيتُ الذي كانَ .. كلَّ الذي كانَ..
من وردة الكتابةِ .. حتى وعود الغناءْ..
واقفاً بين روحي وفتنتها
بينَ بابي إليه.. حيثُ بهاء الرضا
وبابي إلى ما مضى.. حيث جمرُ الغضا
واقفاً بين روحي وروحي..
واقفاً بيننا..
***
سرَّني..
أني أبادلُها وحشتي بالرضا
سأقولُ لها .. أنتِ التأخرتِ .. فالتفتُ
حاولتُ نسيان ما لم أعدْ أتذكرهُ الآن..
منشغلاً كنتُ..
أرسمُ وجهاً وأمحوهُ.. ثم أعودُ لأرسمه
وتعلمتُ أسماء لبنى وليلى
تعلمت أسماء ألزا وغالا
حينَ فاجأني وردها
ما رأيتُ سواهُ..
وما عدتُ أذكرُ غيرَ أسمها"().

لا بد من الإشارة بداية إلى أن الانسجام على المستوى المقطعي – في قصائد حميد سعيد- وليد تنظيم الرؤى وحيثياتها النصية؛ فيبدو كل مقطع شعري وليد تفاعل المقطع الآخر وانسجامه في فضاء رؤيوي نسقي متفاعل منظم بعلائق إسنادية مؤثرة في استجرار الدلالات وتحفيزها نصياً بعلائق مترابطة، مما يجعلها غاية في الاكتناز والتفعيل النسقي، وتبعاً لهذا؛ تأخذ الكلمات في قصائده أبعادها الدلالية المؤثرة من حسن تنظيمها وانسجامها ضمن النسق، فتعبر بملفوظها وشكلها الهندسي المنسجم ضمن القصيدة ، وليس فقط بما تدل عليه فحسب؛ يقول سعيد توفيق:" إن المعنى الكلي لجملة ما ليس حاصل جمع معاني الكلمات المنطوقة، فالكلمات المنطوقة ليست لها دلالة بذاتها وبمفردها ؛ إنما تكتسب دلالتها داخل السياق ، أو في الأسلوب الذي به يقال ما يقال، أو يكتب ما يكتب، وهكذا ؛ فإن المعنى في اللغة يكون كامناً أو مضمراً بين السطور المرئية، وفي العلاقات الكامنة بين الكلمات المنطوقة أو المكتوبة، فاللغة تعبر بما يكون بين الكلمات بقدر ما تعبر بالكلمات نفسها، تعبر بما لا ينطق أو يقال مثلما تعبر بما ينطق أو يقال"().

وبهذا تكتسب الكلمات في النسق الشعري أضعاف ما تكتسبه في لغة النثر من الدلالات والإيحاءات المتجددة إثر كل قراءة أو تأويل نصي جديد.

وبالنظر فيما يحدثه الانسجام من تفاعل نصي متوازن- في المقبوس الشعري- نلحظ توازن الأنساق بين المقطعين، ففي المقطع الأول يثيرنا الشاعر بالمتوازنات النسقية[ الرضا- جمر الغضا- مضى] محققاً درجة من التلاحم والتمازج النصي بين الأنساق لتفعيل إيقاعاتها الصوتية المنسجمة من جهة، وتفعيل درجة تحفيزها النصي من جهة ثانية؛ في حين جاء المقطع الثاني مرادفاً للمقطع الأول في منحاه الغزلي وتوازيه النسقي، بإحساس عاطفي متوازن يشي بتآلف المقطعين وتوازنهما معاً ؛ وبقدر ما يحقق النص توازنه النصي يحقق كذلك توازنه المقطعي والعكس صحيح كذلك؛ فالشاعر يخلق مزاوجة نصية شعورية بين إحساسه الغزلي التراثي القديم ونزوعه إلى مسميات قديمة[ لبنى – وليلى] وهي رموز للغزل الحسي من جهة والغزل الصوفي من جهة ثانية؛ وبين إحساسه المعاصر ونظرته الغزلية المعاصرة لمسميات حداثية في الطراق الراهنة المعاصرة أو الحياة الحضارية الراهنة[ أليزا/ وغالا] ،وهذا التحديث الرؤيوي في المنظور النصي هو ما جعل منظوره للتراث معاصراً ، ومنظوره للغزل المعاصر متجدداً وحداثاوياً في آن؛ وبذلك يحقق الانسجام توازنه في حركة المقطعين؛ مما يعني أن ثمة وعياً تنظيمياً وانسجاماً في حركة قصيدته بين المقطع والمقطع الآخر؛ مما يجعلها ذات وقع جمالي جذاب تحقق أقصى درجات الانسجام المقطعي بين الأنساق اللغوية كافة ، دلالة على تنظيمها وإحكامها النصي.
الانسجام على المستوى النصي

ونقصد بـ[ الانسجام على المستوى النصي] :

انسجام المقاطع ، والحيثيات النصية في النص الشعري على المستويات كافة، ليتعدى الانسجام حاجز المقطع الجزئي إلى النص بوصفه خاصية نصية كبرى تفاعلية ، تستثير القارئ، وتحفز عناصر جماليته. ويعد الانسجام على المستوى النصي فاعلية نصية بارزة في قصائد حميد سعيد، لأنه يؤسس فاعليتة نصوصه على التمازج والتفعيل النسقي؛ ليستثير القارئ ، ويدفعه لا شعورياً إلى التفاعل مع حيثيات قصائده النصية ومضمراتها الدلالية لفك مستغلقاتها النصية ، والتأثر بما تبثه أو تحدثه من ظلال إيحائية مبئرة للحدث أو الرؤيا النصية ، فكم من القصائد المتكاملة فنياً تحض القارئ على مطالعتها وتغريه إلى تفكيكها وفك طلاسمها ، نظراً إلى انسجامها الفني وتوازيها النسقي.

ففي قصيدة[ من نافذة في مشفى .. رأيت وطني] ، تتضافر المقاطع ، وتحقق انسجامها الكامل على المستوى النصي بين المقطع والمقطع الآخر، لدرجة التماسك والانسجام المطلق ، وكأن الشاعر يصف حالة شعورية واحدة ، تربط مقطعه الأول بالمقطع الأخير، كما في قوله:

" وانظر من نافذةٍ في المشفى الموحش..
كنتُ أحاولُ أن أخرجَ من غابةِ روحي
سوداءٌ غابةُ روحي
الصمتُ يحاصرُني..
وثواني الساعةِ ديناصوراتٌ تمشي في حقلِ القارِ..
وفي هذا المشفى لا شيءَ سوى الوحشةِ..
أكنتُ محاطاً بطيورٍ فاقعةٍ سود؟!
...... ..
....... ..
موتى أحياءْ
ويدخلُني وجعِي في حرمِ النومِ.. ويخرجُني وجعِي
الحمَّى منتجعِي..
في الغيبوبةِ كنتُ أراكِ .. وفي الغيبوبةِ ناديتكِ
خيِّلَ لي أنكَ تسمعُني
بل إنكَ تسمعني.. من يسمعُني إن لم تكُ تسمعني".
***
تطوِّقني الجدرانُ البيضُ وتنغلقُ
لا أرضٌ في هذي المقبرةِ البيضاء. . ولا أفقُ
في الخاطر شيءٌ مما كانَ ومما سيكونُ.. كواكبٌ تهوي
أنهارٌ تحترقُ..
رملٌ يزحفُ
كلُّ عروسٍ شاركَها الرملُ فراشَ العرسِ..
وأولدها قحطاً وسراب
من نافذةٍ في المشفى الموحشِ صرتُ أراكَ بعيداً
وما عدتُ أراكَ..
وما عدتُ أرى
كيف أقولُ لمن يسألني . هذا وطني"().

بداية ، نشير إلى أن " الانسجام النصي" – في قصائد حميد سعيد- وليد تضافر الرؤى ، وتوازنها النسقي وانسجامها، لتحقق أقصى درجات التكامل والتوازن النصي؛ وهذا يعني أن ثمة قصائدَ لحميد سعيد تشتغل على الانسجام النصي ، لتحقق فاعليتها النسقية وتوازنها النصي؛ وبذلك ، تكون القصيدة – لديه- شعلة من التماسك والتلاحم النصي.
وبالنظر- في فاعلية الانسجام النصي- في المقبوس الشعري- نلحظ انسجام القصيدة من مقطعها الأول إلى مقطعها الأخير؛ وهذا الانسجام وليد تضافر الرؤى وتوازنها النصي؛ فالقصيدة تطرح رؤية نفسية شعورية إزاء المعاناة المرضية ومأساة الاغتراب ، بصدى شعوري اغترابي حزين، يطرح معاناته المرضية برابط شعوري يجمع بين إحساسه بالموت، وإحساسه بالحنين إلى الوطن؛ فيصف حالته ، ويتوجه إلى وطنه بصدى اغترابي ممزوج بالحنين والأسى والأنين ؛ وبذلك يأتي الانسجام عنصراً نصياً فاعلاً في التحفيز النصي والتناغم الدلالي.
وما ينبغي أن نؤكده في النهاية:

إن فاعلية المتحولات النصية- في قصائد حميد سعيد على المستوى النصي- تسهم في تعزيز منحاها الجمالي ، وتأسيسها الفني؛ وهذا يدلنا أن شعرية حميد سعيد على مستوى المتحولات النصية تصل إلى غاية الفاعلية والتجذير الفني والتنظيم الإيحائي بالحراك المنظم عبر فاعلية[التفاعل/ والتماسك/ والتكامل/ والانسجام] ؛ وهذا مصدر خصوبتها وغناها الجمالي والمعرفي والفني على المستويات كافة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى