الخميس ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
محبرة الخليقة (53)
بقلم حسين سرمك حسن

«المحبرة» للمبدع الكبيرجوزف حرب

ملاحظة: حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً.

صباحات:

لكن في مضمار عرض الشاعر للمقارنة بين الشعر والفلسفة، والإنحياز لصالح تفوّق الشعر، أجدنا – وبرغم دقّة تشخيصاته - بحاجة إلى وجهة نظر مغايرة، أعتقد أنها مكمّلة بالرغم من انحيازها للتصوّف من مقترب آخر. حول فشل لقاء الشعر والفلسفة بالتصوف، يقول الأستاذ محمّد الصباحي وهو يعلّق على لقاء الشعر بالتصوّف من خلال المراجعة والرحلة الشعرية التي قام بها الشاعر المغربي "محمّد السرغيني" لتجربة المتصوّف "ابن سبعين":

(ذكرني اهتمام الشاعر محمد السرغيني بابن سبعين برغبة القاضي والفيلسوف أبي الوليد ابن رشد في لقاء محي الدين ابن عربي. لقد تطلع شاعر فاس من وراء لقائه بابن سبعين إلى عقد الصلة بين الشعر و التصوف، أو بالأحرى بين الخيال والذوق وبين الجمال والعرفان، في حين أراد فيلسوف قرطبة من وراء لقائه بابن عربي أن يقطع في إمكان اتصال الفلسفة بالتصوف، والنظر بالكشف، والبرهان بالوجدان. فهل نجح الرجلان في لقائهما بالمتصوفين المورسيين؟ هل نجح الشعر والفلسفة بالتصوف، أم كان مآلهما الفشل؟ لقد كان لقاء ابن رشد بابن عربي لقاء حيا وتاريخيا، شهد به ابن عربي نفسه، ونقل لنا وقائعه على نحو رائع في الفتوحات المكية؛ أما لقاء السرغيني بابن سبعين فكان من وراء حجاب الزمن والكتابة والتحصيل. وبالرغم من الاختلاف بين طبيعة اللقائين سواء على مستوى الجنس القولي أو على مستوى الغاية، فإنهما انتهيا معا إلى مآل واحد، هو الفشل. والراجح أن مقاومة كل من الفلسفة والشعر لأي استدراج للذوبان في جنس القول الصوفي كان من أسباب هذا الفشل المزدوج، ولو أنهما لم يخفيا طمعهما في التعرف على مسالك التجربة الصوفية وتذوق بعض من لذاتها العارمة. لكننا يمكن أن نضيف سببا آخر لفشل اللقاء بين أجناس القول الثلاثة -الفلسفة والتصوف والشعر-، وهو أنها تصدر عن تجارب وجودية صميمية لا يمكن رد بعضها إلى بعض، بسبب اختلاف موضوعاتها -الوجود والواحد واللغة- وإن كانت تقتسم الشعور بعدم الاطمئنان إلى العادة وإلى الشائع والمتداول من الحقائق والأعراف والشرائع وأنحاء التعبير (...) لقد انتقم السرغيني لابن رشد؛ فقد كان الصوفي هو صاحب زمام المبادرة بقطع حبل التواصل بينه وبين الفيلسوف بشيء من المكر، فأبى الشاعر إلا أن يكون هو الغالق لباب الاتصال بين الشعر والتصوف والملابسة الداخلية بينهما ) (99).

لكن ألا يحتاج الثلاثة لبعضهم الآخر، حاجة تضفي على التجربة الإنسانية الكثير من ملامح الكمال؟

(بعد هذا الفشل المزدوج للفلسفة والشعر في سعيهما للقاء التصوف، نتساءل هل بوسع النظر أن يستغني عن الكشف، والخيال عن الذوق، هل يمكن لصناعة الكلمة والانفعال أن تستغني عن صناعة الذوق والجذبة، هل بوسع صناعة العقل وارتياضه أن يدير ظهره تماما لرياضة الروح؟ ليس في نيتنا قطعا أن ننكر ما للفلسفة والشعر من ذوق وكشف خاص بهما يغنيهما عن التطلع إلى فضاء الجذب والتجليات، ومع ذلك لا نعتقد أن في إمكانهما أن يقطعا مع التصوف على نحو مطلق، سواء على سبيل الاستئناس بأفق آخر، وعلى سبيل التعرف على التجربة طقوس الخارقة التي لا ينفك الشاعر يبحث عنها. أما التصوف فلا يستطيع بدوره أن يستغني عنهما معا: عن الفلسفة والشعر! ويشهد على ذلك ابن عربي نفسه، الذي لم يكن حريصا فقط على لقاء ابن رشد وعلى معاشرته ولو في غيبته، بل وأيضا على ممارسة الشعر والفلسفة معا في خضم جذبه وتجليه )(100).

وحتى جوزف حرب نفسه يكشف في بعض النصوص اللاحقة – ومن حيث لا يدري لأن الإشتغال اللاشعوري مشترك – عن حسّ صوفي باللغة (نصّ "اللغة"، ص 1351)، وفعلها (نصّ "الرحلة"، ص 1352 – 1353)، والرحلة إلى الله

(وما الكونُ ؟
لا قبّةٌ أو بعيدٌ. وليسَ المداراتِ
أو ما وراءَ السوادِ. وما هو هذا الذي لا
نراهُ. وليسَ المخبّأَ خلفَ الحواسَّ. ولا السرَّ
أو غامضَ البَعْدِ.. ليسَ قراءةَ تلكَ الخطوطِ
بكفّينِ في خالقٍ
فاتحٍ راحتيهْ.
وما الكونُ أنّيَ عشبةُ حقلٍ
تهبُّ عليها
رياحٌ نديّهْ.
فما الكونُ إلّا
ذهابيْ إليّهْ - ص 1355) (نصّ "مع الأشرعة").

إلى أن يقدّم وصيّة أخلاقية ذات مسحةٍ صوفيّة (نصّ "القليل الكثير"، ص 1365 و1366).

لكنْ يبقى للشعر مجال اشتغاله الخاص المتفرّد الذي يسمو من وجهة نظري على مجال اشتغال المتصوّفة والفلاسفة. فطريقه ليست مستقيمة في الوصول إلى المطلق كما يرى المتصوّفة بعد أن يوفّروا لها مستلزماتها الروحية، إنّ الشاعر لا يبغي "الوصول" أبداً ففي "الوصول" موت، وهو لا يلتحم بمطلقه مرة واحدة في حياته لأنّ مشكلته الكبرى هي في تحديد هذا المطلق الذي يعرفه المتصوفة والفلاسفة خير المعرفة. إنّه لا يفتش عن الشفاء وهدأة الروح بـ "الوصول"، ولكن عن الجراح وتسعيرها. وإذا كان الموت راحة بالنسبة للمتصوّف، وبحث ينتهي بيقين بالنسبة للفيلسوف، فإن موقف الشاعر من الموت متضاد لا يستقر على حال، فهو لا يستطيع مطلقاً الإقرار بتجربة الموت لأنّ في ذلك نهاية لخلوده وإبداعه، ولا يستطيع نكرانه لأنه متلبس بحياته، وهو ينظر إليه نظرة الإنسان البدائي:

(ليستْ طريقي في اكتشافِ الكونِ
واضحةَ المغامضِ،
مستقيمهْ. (...)
هي صعبةٌ ملأى بعتمٍ، وانحداراتٍ،
وصلبانٍ وأضرحةٍ،
وأشلاءٍ لمنْ مرّوا
قديمهْ، (...)
فإذا ظننتَ طريقَ هذا
الكونِ، نزهةَ طائرٍ
عندَ
الصباحِ،
فانظرْ عميقاً

في جراحيْ. – ص 1358 و1359) (نصّ "المرارات")، والعنوان يذكّرك بقسم "المرارات" الذي استولى عليه شبح الموت.

كما أنّ نرجسيّة الشاعر هي جزءٌ من دوافع إبداعه يسعى حثيثاً لإشباعها، وتوكيدها بحثاً عن مشاعر ألوهة يقاوم بها هواجس الفناء المؤرّقة الحارقة، في الوقت الذي يذوب الحضور الفردي لدى المتصوّف في حضرة المطلق ويعدّ نرجسيّته مرضاَ ينبغي أن يروّضه ويكافحه، في حين يدعو الفيلسوف إلى التواضع ومعرفة الذات بحدودها الحقيقية. الشاعر لا يتردّد، ليس في اعتبار ذاته متسامياً على محال المتصوّفة والفلاسفة حسب، بل حتى على رفاقه من الشعراء الآخرين:

(صوتي أقوى،
أضعفُ أصواتُ الشعراءْ،
وسيبهتُ صوتُ الحبرِ لديهمْ،
وتُصابُ بعدوى البرصِ
الصفحاتُ البيضاءْ. – ص 1360) (نصّ "الصوت والصدى").

بل هو لا يتورّع عن الشماتة بهم على طريقة سابقه العظيم ذي النرجسية المرضيّة الخلّاقة أبي الطيب المتنبي:

وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي
إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً
وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني
أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى

.. لكن الشاعر يوسّع دوره مشفوعاً بنرجسيته ليأخذ أبعاداً اسطوريّة تنبع من إمكاناته المخصّبة، فغيم الشعراء كثير رعد البرق، لكن قليل المطر (خُلّب !!)، في حين أن غيمه قليل رعد البرق لكن كثير المطر، و"الأخضر" فيه كثير وفائض. ويلتقي في النهاية بجدّه فتى الفتيان الذي قال من قبل: "أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها":
<poesie(وأنا
بينَ صدايَ وصوتيْ،
أختارُ الصوتْ.
همْ،
رفعوا في الأرضِ صداهمْ،
وأنا، أكملتُ بشعري صوتيْ،
وغفوتْ. – ص 1362).
وهو يحسم معضلة جنّي الإلهام على طريقتنا أو ربّات الشعر على طريقة اليونانيين، فيعلن – وهذه مداورة نرجسيّة أيضاً - أنّ جنّيه لا يأتيه من الخارج، فهو مسكونُ به، كما أنّه ليس مرتبطاً حتى بـ "صور" الأشياء، فصورها يُخرجها من أعماقه (نصّ "المسكون"، ص 1363 – 1364).

والمهم في إشاراته النرجسيّة هي الإشارات الإيحائية التي يماهي فيها دوره مع قوى الطبيعة وقوانين فعلها الخلّاقة المحيية والإنبعاثية، مثل الغيم الذي هو صاحب (أو شاعر) البراري الشاسعة، يذوّب تلك البراري في دواته مثلما يذوّب الشاعر الأشياء في محبرته – صار فعل الشاعر أصلاً للطبيعة ! – ويقضي الشهور الطويلة في "كتابتها" ليهبها زمرّد "أخضرها".. ويختم الغيم نصّه بالفعل / الحلم العصيّ الذي تتحسّر عليه نفس الشاعر الملتاعة، وهو أن يميت الموجودات ويحييها ثم يميتها ويحييها.. وهكذا:

( يمحوْ، ويحذفُ،
أو ينقّحُ،
كيْ
يبقى بها
في الريحِ
أطيبها.
فإذا مضى عامٌ،
يمزّقها،
برياحهِ،
ويعودُ يكتبها. – ص 1369) (نصّ "الرائع")

والمحو والحذف والتنقيح يذكّرك بالتماس الكون الشاعر الذي قدّمه الرسول الملاك إلى السيّد الشاعر أن يصحح وينقح وينقد ديوانه "الخلق" في القسم الأول، مثلما يعيدك العنوان "الرائع" - بالتداعى اللغوي والإشاري - إلى عنوان القسم الأول نفسه "الرائعة".

وتبيح للشاعر نرجسيّته الطافحة السخريّة من شغل الفلاسفة الذين كان علي الوردي يسخر منهم لأنهم – كما يقول – يختلفون حول عدد أسنان الحصان، ويتضاربون بالنعل، والحصان واقف قريباً منهم. وبالمناسبة فإن المعلّم الأول "أرسطو" كان مقتنعاً بأنّ عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل، وقد تزوّج مرّتين، ولم يكلّف نفسه بفتح فم إحدى زوجتيه، وحساب عدد أسنانها، وحسم هذه الأطروحة الخالدة:

( يُضحكني
الفلاسفهْ. (...)
ما أقلعوا إلّا التوتْ أكفّهم،
واشتعلَ الخلافْ.
كلٌّ على مجدافهِ. لكنّهمْ، كلٌّ
له اتجاههُ
في
غمسةِ المجدافْ. – ص 1378 و1379) (نصّ "الفلسفة").

ثمّ تصل النرجسيّة الضارية حدودها القصوى التي لا يستطيع لا الفيلسوف ولا المتصوّف زعمها لنفسه:

(قابضٌ
بيديَّ على الكونِ، ولنْ
أفتحَ يا حبرُ يديَّ.
فإنيْ
الحجرُ الغامضْ. – ص 1380) (نصّ "الشاعر").

ثمّ يأتي الفارق الأعظم بين الشاعر والصوفيّ ويتمثل بالروح التحرّشية وعدم الإستعداد للتسليم للمطلق بصورة ثابتة ومستمرة. علاقة الصوفي بربّه هي علاقة العبد بخالقه ؛ علاقة إقرار دائمة بأنه نتاج هذا الخالق، وأنه لا شيءّ بدونه، وضائعٌ خارج حضرته. والصوفي يسلّم بما يجري في هذه الدنيا من مصائر لأن الله قدّرها بموازينه العادلة التي لا تخطيء. ولذا فهو لا يحتج على ما يصيبه من خير وشر.. فكلّها مرسومة له في علم الغيب، بل هو لا يسمح لذاته أن تُصدر نأمة احتجاج منها على أبشع صروف الدهر ونوائبه التي تنزل به. بعض المتصوّفة كان يذكر الله ويمدحه ويشكره وسياط الطغاة تنهش لحمه وسيوف الجلادين تقطّع جسده. أمّا الشاعر فإنه يتمتع بأكبر خصال الناقد الأكبر تميّزاً، وهو الإصرار على استقلاليته ونبذ التبعيّة، وبالتالي الإحتفاظ بحقّه في القراءة المستقلة لـ "النصوص" والقرارات والحوادث:

(أعودُ
إليكْ،
وأقرأُ
ما جاءني
من يديكْ،
وأقرأُ كلّ نصوصكَ،
كلَّ نصوصِ سواكْ،
وما جاءَ قدْ خُطَّ في حجريّةِ
لوحٍ، وحُمّلَ فوق جناحيْ
ملاكْ. – ص 1402) (نصّ "أعود إليك").

يقرأ الشاعر النصوص التي تأتيه من المرجع الروحي الأعظم باختلاف العصور ليرى ويقارن "تطبيقاتها" على الأرض، فلا يرى غير الدماء.. دماء الضحايا تلوّن وجه الأرض، وصرخاتهم تهزّ عروش السماء. فيتساءل: أين هي سلطة الأنبياء؟ بل أين هي سلطة السماء التي وعدتنا بالعدالة والغوث عندما يتجبّر الظالمون. مثل هذا النوع من الخطاب والتساؤلات لا يمكن أن يمرّ على خاطر الصوفيّ المستقر أبداً خصوصاً حين يكون قطباً. لكن "القطب" الشعري كان منذ البداية في صفّ العقل يسعى لكي يديم نوره بجراح روحه، والعقل نفسه يستصرخه في صراعه ضد الغيب.. يستصرخه

كي يضيئه:
(قالَ
ليْ العقلُ: أنا القنديلُ. إنْ
أقبلَ ليلُ الغيبِ
جئنيْ
واضئنيْ. – ص 1386) (نصّ (القنديل").

وهو يضيء قنديل العقل بالتساؤلات، وليس بالتسليم المطلق، ويديم وهجه بالتعرّضات النقدية، لا بالخضوع الممتن. وهذا ما لا يمكن أن يقوم به الصوفي الذي لا يستطيع مطلقاً أن يقف من الله موقف المحاسب المستفز كما يفعل القطب الشاعر:

(عصورٌ
مضتْ.
وأنا كلَّ يومٍ أعيشُ انتظارَ
كلامكَ في العدلِ، لا
عدلَ. في الحقِّ، لا
حقَّ.
في الصبحِ، لا
صبحَ. في أبيضِ الروحِ، ليس
هناكَ بياضٌ،
هناكَ
دماءْ. – ص 1404).

إنّ الطرق الصوفية ومدارسها تتفق على حقيقة جوهرية هي أن التصوف هو تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية، هذه الأحكام التي لا يجوز إلا التسليم بها. لكن عين الشاعر تقارن هذه النصوص بغيرها خصوصاً نصوص الواقع وحقائقه الدامغة المعمّدة بالدم والعدوان:

(وأقرأُ نصّكَ منذ عصورٍ، وتطلبُ
منّيَ ألّا اصدّقَ
نصّاً
سواهْ.
وألّا اصدقَ إلّا الذي قدْ
رسمتَ لما قبلَ موتيْ، وما بعدّ موتيْ،
كأنّكَ مجرى، وأنّيْ
مياهْ. – ص 1494 و1405).

والمقارنة هذه مدوّخة، وقد تصل مستوىً شديد الأسى والسخط يرتعش الصوفيّ من مجرد التفكير فيه لا إعلانه كما يفعل الشاعر:

(فإنْ كنتَ لم تستطعْ جعلَ
عينيْ تصدّقُ هذا الذي كلّ يومٍ أراهُ،
فكيفَ اصدّقُ ذاكَ الذي
لا
أراهْ. – ص 1405).

واستخدم الصوفيون الخمرة في شعرهم وأحاديثهم كرمز، وهم تصيبهم في حالات الوجد الشديد في حضرة المطلق، نشوة شديدة تشبه السكر.. أمّا جوزف حرب فهو مستميت في حبّها، ومن المؤكّد أنه في خلقه الشعري قد استخدمها رمزاً، لكنه يخبرنا بتعلقه بها مادة صرفاً، فهي ليست دم الكرمة كما تُلقّب عادة، بل هي دم وجوده الشعري:

(يوماً، إذا الخمّارُ ماتَ، وما تبقّى
منْ نبيذِ الكرمِ كاساتٌ
كياقوتِ النهارْ،
ساشمُّ
رائحةّ الجرارْ. – ص 1398) (نصّ "أطلال").

وليس عليه حدّ... فقد بلغ الخليفة عمر بن الخطاب قول أبي محجن الثقفي: وإني لذو صبر وقد مات أخوتي
ولست عن الصهباء يوما بصابرِ
( الصهباء: الخمر) وقال عمر إن الرجل اعترف بارتكابه شرب الخمر، ومن ثمّ وجب عليه الحدّ. فاعترضه علي بن أبي طالب مذكرا له بقول الله في القرآن "والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كلّ وادٍ يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون"، فتوقف عمر عن إقامة الحد، إذ تبين أن للشعر – والإبداع عموما – خصوصية في استخدام اللغة استخداما جماليا " (101).

ولكن للشاعر مصدراً آخر أشدّ قوةً وتأثيراً من الخمرة الفعليّة في إحداث السكرة التي تعزّز الفكرة. فكرة الإمتزاج بالوجود و"كشفه". خمرة يمتحها من جرار محبرته فيسكر بها الوجود كلّه. خمرة الصوفي مقصورٌ مفعولها على ذاته في علاقته بمطلقه ودائرة وجوده. في حين أن خمرة الشاعر يمتد مفعولها لينسرب في عروق الموجودات كلّها. وخمرة الصوفي لها مرجعيّة رمزيّة هي الخمرة الحقيقية، أمّا خمرة الشاعر فمرجعيتها الرمزية هي ذاتها:

(حركاتُ الريشةِ وهي تخطُّ حروفَ
اللغةِ المختالةِ في
قمصانِ الحبرْ
طيفٌ
سكرانٌ بالشعرْ. – ص 1406) (نصّ "الريشة").

وبعد ذلك فإن الشعر ليس امتيازاً لصفوة هي قلّة "مختارة" تكابد وتجاهد للوصول والإلتحام بالمطلق كالمتصوّفة، ولا مجموعة مميّزة تحبّ الحكمة وتنزوي في محاريب التأمّل للوصول إلى الحقيقة مثل الفلاسفة، بل هو "ماء" الوجود الذي يسري في عروق الإنسان والطبيعة، فيجعلنا جميعاً شعراء، ولكن بمقادير تختلف متناسبة مع اختلاف كمّياته مثلما يختلف في البئر عنه في النهر والبحر (نصّ "كلّنا شعراء"، ص 1356 و1357). وهذا كان حال الناس القدماء البسطاء، كانوا كلهم شعراء، بلاشعور شفّاف لا تخنقه أتربة الكبت، ملتحمين بـ "الأنت" التي هي الطبيعة وكل الموجودات من حولهم، لم يعرفوا الخوف ولا العدوان ولا الحروب. ليس لهم مرتّب ولا نشيد وطنيّ.. وطنهم العشب والأشجار، ونشيدهم لحن الريح الحرّة. والشاعر يجعلهم مثلاً سامياً لنا نحن ابناء الغمّة الحاضرة، الذين لن نتخلص من نوازع الخراب إن لم نعد كلّنا شعراء:

(عاشوا على الرؤيا، وسرّ الحدْسِ
والصورةِ، والإيقاعِ، والعودةِ، والطوطمِ، ذابتْ
روحهم في الشعرِ قبلَ اللغةِ
الأولى،
وقبلَ الخطِّ
والأسماءْ.
يا
أيّها الأحياءُ والآتونَ، ما الأرضُ
سوى خرابها، إنْ لمْ تعودوا مثلما كنتمْ
جميعاً
شعراءْ. – ص 1377) (نصّ الجذور").

وهذه الوصفة هي العلاج الروحي الناجع ليتخلّص عالمنا من ضياعه، ويصحو من غرقه في آثامه وشروره المميتة. من دون أن نعود جميعاً شعراء بالمعنى الذي حدّده جوزف حرب، فإننا سنستمر في شمِّ رائحة الدم من كتاب التاريخ حين نجلس قربه (نصّ "رائحة" – ص 1381).. وسيستمر الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، أو هرّاً بسبعة ارواح تولغ في الدماء، وديدنها مطاردة الفئران البشرية المكسينة (نصّ "صيد الهرّ").. سنطالع كلّ صباح جريدة "الشمس" وهي تنقل لنا مآسي الكون الفاجعة والتي يصمّم الشاعر لها حركة تصاعديّة دراميّة تزداد شدّة خرابها مع زحف النهار نحو الليل لتبتلع الظلمة نور الآمال وتدقّ أجراس المراثي:

(وقرأتُ كيفَ تدقُّ أجراسُ المراثي.
أو يُصابُ القمحُ بالعفنِ المريرِ أمامَ فواهِ
الجياعِ. وكيفَ تُكملُ زحفَها الدّاميْ
المظالمُ
والحروبُ.
وبدأتُ أقرأُ كلّ يومٍ في السنينِ جريدةَ
الشمسِ. المآسي،
والمجازرُ،
والمراراتُ الطويلةُ، تملأُ الصفحاتِ
منها،
والخطوبُ.
وأظنُّ أنّ لأجلِ هذا، لم يوقّعْ
مرّةً فيها افتتياحاتها
إلّا الغروبُ. – ص 1392 و1393) (نصّ "الجريدة").

ولكنّ ولاء الشاعر للناس، وألمه المستعر لعالمهم المحفور بالحسرات، لم ينسه أبداً ضغوط أحاسيسه النرجسيّة ومتطلباتها. فهو ما يزال برغم الأشواط الطويلة التي قطعها من سنوات العمر والنضج الظاهر، يحمل جوهر المشاعر النرجسية الطفلية الأوليّة التي يشعر فيها الطفل بأن جسمه هو مركز العالم، والكون إنما يدور حوله ليستجيب لنداءاته الملحّة. مثل هذا الشعور محرّم على عقل الفيلسوف الصقري، ومحرّم على روح الصوفي الذائبة وجداً في حضور المطلق. الشاعر يعلن بلسانه أنّ ما يقضّ مضجع روحه هو مشاهد القتلى والجياع التي يغرقنا بها العالم كل لحظة، وأنّه يحبّ البحر والوردة والعصفور.. يحبّ الأرض، ويموت من أجل القضية، ويرفع قبضته ضدّ القمع والجلادين. لكن بوح نفسه يكذّب مقالة لسانه، فهي تعرفه، وتعرف أنّه مسكون بشعور أن العالم يبدأ منه ويرجع إليه:

(أبكي كلّما شاهدتُ قتلى أو جياعاً.
ليتَ ما تحتاجهُ ذي الأرضُ في دورانها
بيديْ.
لكنّني لو خُيِّرتْ روحيْ أمامَ الشمسِ أن يعلو
هتافٌ واحدٌ منها، سأهتفُ:
فليعشْ جسديْ. – ص 1389) (نصّ "أبدي").

ومع ذلك فيبدو إنّ هناك همّاً "سلبيّاً" كبيراً وفاصلاً "يميّز" الشاعر عن الصوفي والفيلسوف، وهو أنه يشعر بأن الموت يطارده في كلّ خطوة ويلاحقه كظلّه. الشاعر يركض مقطّع الأنفاس ويلهث دائما ويتلفّت، في حين ترى الصوفيين جالسين في حضراتهم أكثر اطمئناناً وهدوءاً بما لا يُقاس في توقّع الموت، بل هم ينتظرونه لأنه واحد من مفاتيح الوصول. امّا الفلاسفة فإنهم حتى عندما يناقشون حتميّة وصول المثكل وأنه مصير نهائي لا رجعة عنه، فإنهم يناقشونه بعقول باردة وقلوب متحجّرة أماتتها شدّة البحث والتجوال في الماوراء. التفكير بالموت يطأطىء هامة أعلى النرجسيات، ويتساوى عنده الأمير والفقير كما يقول جلجامش. والشاعر ينكسر تأججه النرجسي الذي جعله يتعالى على كل المخلوقات. وها هو يبثّ يأسه ومرارة إحساسه بالفناء إلى العريشة العارية الصفراء الذابلة في الخريف، والتي هي أكثر خلوداً منه حيث ستعود لتتفتح وتخضر في نيسان المقبل، في حين يكون الشاعر قد اجتُثت جذور عريشته بلا رحمة وإلى الأبد:

(أيّتها
العريشةُ العاريةُ
الصفراءْ
إنّا معاً
في حضرةِ الخريفْ،
لا ورقٌ فينا
ولا حفيفْ.
ماضٍ، ولن أعودَ.
أقبل المساءْ.
أيّتها العريشةُ
العاريةُ الصفراءْ
أدرككِ الخريفُ مثلي. سوفَ تمضينَ
كما امضيْ. فلا تنسيْ
إذا
نيسانُ جاءْ،
أن ترجعيْ
عريشةً خضراءْ. – ص 1412 و1413) (نصّ "أقبل المساء").

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى