الخميس ٤ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم سلمان ناطور

أم الزينات والرمز الأخضر

دخل الزير ابن المهلهل على ظهر السبع.
ولم يجرؤ أحد على أكل حمير العرب.
الشارع المنفلت من دالية الكرمل شرقا يقطع مساحة شاسعة من كروم الزيتون.

يصعب عليك أن تتصور أن في هذه المنطقة كانت قريتان : الرحانيه وأم الزينات. تنحرف يسارا على مسرب وعري بحثا عن أثر لبيوت من حجر، لكنك تضيع بين أشجار الصنوبر التي غرستها "الكيرن كييمت "بعد أن وصلت جرافات الجيش وقلبت الارض في حزيران من ذلك العام الأسود، واذا عاد أهلها المشردون في مخيم جنين وكل بقاع الأرض، ليشاهدوا ما تبقى من قريتهم، فلن يجدوا سوى أشجار الصنوبر، الرمز الاخضر لتحويل "صحراء فلسطين القاحلة"!! الى كروم، وأحراش كمهمة وطنية قام بها طلائعيو " الهجرة الاولى والثانية والعاشرة "!

قال الشيخ المشقق الوجه الذي نتحدث عنه : " نشفوا الميّ. كانت حفنة من مية بير الناطف تطول العمر عشر سنين، خفا الله راح البير ".

هل يأتي يوم ويشرب ثانية من ماء بير الناطف؟ كم كانت هذه الامنية فاتحة حديث طويل معه، ينتهي بأكثر من حفنة ماء، وبأكثر من بئر، وبأكثر من كرم زيتون، خصوصا وان حكاية هذا البئر ترتبط بالزير ابن المهلهل، أكثر بكثير مما يرتبط به أكراد مستوطنة " عين عيمق " الذين يحرثون الارض ويفلحونها كمن يفلح أرضه "أبا عن جد"، دون خجل أو حياء.

قلب الشيخ المشقق الوجه حبات المسبحة بأنامله التي أصابتها رجفة خفيفة اشتدت كلما احمر وجهه وقطب جبينه كأنه يحاول أن يفجر قذيفة من الغضب، لكنه عدل وانفرجت أساريره وواصل حديثه بهدوء وروية. يحكى، على ذمة الراوي، أن الزير بنى على بير الناطف قصرا من رؤوس السباع التي انتشرت في المنطقة، وقيل أنه عندما نزل مرة ليشرب من ماء البئر وجد السبع نائما، فأراد له أن يواصل نومه، فتركه ريثما يستيقظ ويهجم عليه، وعندها يشهر الزير سيفه ويقطع عنقه، لكن السبع غدره، فافترس حماره، وقرر الزير أن ينتقم منه، فأمسك به وربطه وعبـأ قربة ماء، ووضعها على ظهر السبع، وركبه هو أيضا حتى أثقل عليه وهو يردد :

اللي بدو يأكل حمير العرب بدو يزازي تحت القرب
ودخل أم الزينات مكرما معززا على ظهر السبع، فتعلم أهلها منه درسا في الشجاعة، حتى أنهم نظفوا المنطقة كلها من السباع.. ومنذ ذلك الحين لم يجرؤ أحد على أكل حمير العرب.. الى أن جاء والتهمهم لقمة سائغة هم وحميرهم.

ابو زيدان الشوشاري يتحدى أهل الطيره
وينتصر لأهل الداليه في طوشة عين الشماليه
الحديث عن الزير ابن المهلهل يرتبط على لسان الشيخ بالحديث عن أبي زيدان الشوشاري.

"كان زلمه شجاع وتحدى أهل الطيره! كانوا يحترموه فوق ما تتصور. مرة اتهموا أهل الداليه بقتل زلمه من دار الماضي، أهل الطيره هجموا على الداليه، يومها كان أبو زيدان خيال الحصان نازل في الداليه، وقعت الطوشه عند عين الشماليه، وولع ضرب الدمش، وراحوا ياكلوها أهل الداليه لولا أبو زيدان، خلع الحطة عن راسه وضربها في الارض وصاح :

 باطل! أنا أبو زيدان!
أهل الطيره وقفوا في وجهه ولما رأوه قالوا : هاي كل أهل أم الزينات فازعين للداليه. تركوا المنطقة ورجعوا".
هكذا كان أبو زيدان الشوشاري، شخصية معروفة في أم الزينات، "كان واحد من هالناس البسطاء، كريم وبيته مفتوح، خيال الحصان، ويوم أن ولد ابنه زيدان أهداه أهل الداليه كل أراضي وادي الملح، ويوم عرس أولاد الشوشاري حضر كل أهالي المنطقة، من المي للمي، ومن عرب الصقر للبحر".

فمن يعرف عن أبي زيدان الشوشاري؟ ومن يعرف أولاد أبي زيدان؟ ربما أنهم في جنين وربما أنهم في سوريا وربما انهم خلف البحار والمحيطات. لماذا لا يسألون عن الشيخ الذي نتحدث عنه وهو يتحدث عنهم في كل مكان وفي كل مناسبه؟

طلب منا الشيخ أن نبلغهم تحياته، أن يكتبوا اليه. انه يريد أن يتعرف عليهم بعد هذا الفراق الطويل. كان صديقا حميما لوالدهم. أكتبوا اليه. سيذكركم وستذكرونه، على الرغم من الشقوق التي تقطع وجهه طولا وعرضا.

صدقنا وما صدقنا..لحتى شفنا في عينينا
قلنا منعرفهم من يكنعام
"كأننا كنا نستعد للرحيل"..
قال الشيخ الذي نتحدث عنه. أم الزينات كانت كل عمرها مهددة بالتشريد. من أيام تركيا ومن أيام الانجليز وحتى تلك الايام السوداء. وصلت فرقة مجهزة بكامل عتادها، وحاصرت البلد على ثلاث جهات. تركوا الجهة الشمالية للهجيج، "وبلشوا سلخ رصاص.. على اللي رايح وعلى اللي جاي، عن جنب وطرف كنت تشوف رصاصهم يزخ علينا مثل المطر". بعد يومين دخلوا القريه، وأقاموا مقر للقيادة على البيادر، ودارت مجموعة في شوارع القرية تنادي :
 يا عالم! يا ناس! كل واحد يسلم ويطلع على البيادر.

لم يستطع الشيخ الذي نتحدث عنه أن يواصل حديثه دون أن يتوقف هنيهة، كأنه يحاول أن يتذكر كل كبيرة وصغيرة، كأن الشريط الذي كان يلف ويدور في ذاكرته احتاج الى "مونتاج" لتنظيم المقاطع والمشاهد كي يصعد الحدث الدرامي الى حالة التوتر، كأنه فنان يريد أن يكون صادقا، أن يعيش، ولو للمرة الالف، الحدث الذي يصوره، من تلك الايام.. والساعات المعدودة التي تقابلت فيها البواريد الطليانيه المبرده بالمترليوز الانجليزي.. كانت أخبار دير ياسين والطنطوره قد وصلت الى أم الزينات.

 كنا نسمع عن اليهود أنهم بيقتلوا الاطفال وبيبعجوا المرأه الحبلى بالسكين.. ما بقي في راسنا عقل لما شفنا أول واحد منهم حامل بارودته وبيقطع شوارع بلدنا.. ما بقي في راسنا عقل، صدقنا وما صدقنا.. كنا نقول منعرفهم من حيفا، من يكنعام، يوم يوم عايشين معهم، ما صدقناش، لحتى شفنا في عيننا..

كان الضابط لطيفا لدرجة أنه ترك
له حق الخيار : الموت أو خربة أم الدرج
كان مختار البلد، يوسف العيسى، جالسا في بيته. دخل عليه جندي وطلب منه أن يمثل أمام القائد ليسلم القرية. أخرجه من بيته وهو يحمل "الشرشوح، ملحفة بيضة على عراط طويل" ويقطع الطريق الى البيادر ليقابل حضرة الضابط يهودا من " يكنعام " الكمبانية التي تبعد عن القرية اربعة كيلومترات. لم يشفع له أنه يعرفه من قبل وأن حق الجيرة على الأقل يتطلب من يهودا أن يحترم جاره القريب في هذه الظروف الصعبة التي " أصبح فيها رأس مال الزلمه فشكه مصديه "

قال له : أنا بصفتي مختار البلد، مسؤول عنها.
فسأله الضابط يهودا : وأين أهل البلد؟
فأجاب: أنا أهل البلد. شو بدك مني؟
فقال الضابط : بدي اياهم ييجوا على البيادر، روح صيح يطلعوا على البيادر.

فمشى المختار والى جانبه ثلاثة من الجنود هو يصيح :
 يا أهل البلد اطلعوا سلموا على البيادر!
وكان معظم الاهالي اكتشفوا "باب الجهة الشمالية المفتوح" فحملوا ما استطاعوا حمله ونزحوا.
سأل الضابط المختار:
 البلد كبيره. وين باقي الناس؟
وكشف له المختار ان " الناس خافت من القواس فهربت في انصاص الليالي ". وطلب من الضابط، بحق الجيره، والمعرفه القديمه، والخبز والملح أن لا يهجر من بقي في القرية، لكن " الضابط ملعون، بده يزيح الناس "، فقال له : لا أستطيع أن أبقيك، لأنني لا أحمل الاوامر بأن أبقيك هنا.

كان الضابط يهودا من يكنعام "لطيفا وانسانيا"، فلم يجبره على الخروج من الجهة الشمالية، كان لطيفا لدرجة أنه ترك له حق الخيار " لأي جهة بدك تروح ". واختار يوسف العيسى... خربة أم الدرج. "بعد دقائق سمعنا طلقات رصاص، عن مسافة كيلومتر.. ثم دخلت فرقة، وين ما شافوا واحد، قوسوه، قتلوا اربعة، واحد أجوا عليه وهو نايم في الفرشه واللحاف. قوسوه.. متزوج وعنده أولاد.. اسمه محمد السليم الحردان..."

قديش بابنا عالي؟ ما كنش يفوت منه.
القول انهم ذبحوه في السكين
 اسماعيل العرف "كان زلمه جهام، وكان يملك دارين، واحده في أم الزينات وواحده خارجها ".

من يعرف أين اسماعيل العرف، وفي أي دار يسكن، في أم الزينات أو خارجها؟ هدموا بيته الاول وهدموا بيته الثاني. بينما كان في طريقه الى " العزبه "، أوقفته مجموعة من الجنود، " على مسافة أكم متر من القرية، كان شاب مهزوم من البلد ومتخبي في جب سريس. سمعهم بيسألوه : وين رايح؟ قال لهم : رايح على العزبه أطل عليها! قوسوه، وقتلوه، جثته مدفونه في السنسله ".
الحج عبد الغني كان أغنى رجل في أم الزينات. كان يبلغ الثمانين من عمره. بينما جلس في بيته وحيدا، دخلوا عليه، فاستقبلهم كما تعود أن يستقبل الضيوف.

 تفضلوا!
 ماذا تفعل هنا؟
 هذا محلي. تفضلوا اشربوا قهوه.
ويقول الشيخ الذي نتحدث عنه، على ذمة الراوي، أنهم تفضلوا وشربوا القهوه.. وقوسوه وقتلوه. وخرجوا من بيته، ودخلوا دار الشيخ يوسف، وكان في البيت شاب " شو شاب، زلمه قديش بابنا عالي، ما كانش يفوت من هالباب، كان يشتغل في الاي. بي. سي. فتشوه فوجدوا معه دفتر تسجيل. فأخرجوه من البيت وأخذوه الى الزيتون، وهناك قتلوه. والقول أنهم ذبحوه بالسكين ".

كانوا سبعة شبان.خرج واحد من دار بشير..
ورجع يصيح : " الأولاد مقتلين في خبيزه "
قبل أن تسقط أم الزينات، خرج خمسة رجال مع زوجاتهم الى أم الفحم وعاره هربا من الموت. حملوا جملا بالطحين وما استطاعوا أن يحمّلوا شيئا من عفش البيت وعبروا عند " مربط خبيزه ". على الطريق أنضم اليهم شابان هربا من الطيره. لم يعرفوا أن هناك من ينتظرهم، كانوا " ماشين وعندهم الله واحد "، فطوقوهم، وصاحوا بهم :
 وقفوا. ارفعوا ايديكم. سلموا!
هجم عليهم حوالي عشرة جنود، وأخذوا يفتشونهم. كانت بنت المختار تلبس شالا من الحرير، ولما مد الجندي يده الى زنارها سقطت أوراق فلسطينية، قالوا للبنت : هاتي المصاري اللي معك.
نفضت الزنار، فسقطت " المصاري " أكثر من الف ورقة فلسطينية.
سألوا البنات : لوين رايحين؟

وفتشوا الجمل. فوجدوا شوال طحين و "قرطومة" فشك انجليزي وسلاح "بيك".
أمروا النساء بان يتابعن طريقهن الى أم الفحم، وأمروا الرجال بأن يقفوا صفا واحدا. كانوا سبعة شبان : يوسف أبو مهارج، عادل الحسين الدبور، حسين رجا فحماوي، حافظ عبدالله فحماوي، صبري كيوان فحماوي واثنان من الطيره لم يعرف اسمهما الشيخ الذي نتحدث عنه.

كان واحد من بلدنا من دار بشير.. زلمه فش اثبت منه.. خرج من أم الزينات ومشى على طريق خبيزه.. على البيادر شاف جثث الشباب ملقحه على الارض، عرفهم واحد واحد.. صبري وعادل وحافظ.. رجع الى البلد يصيح :

 الاولاد مقتلين في خبيزه.. الاولاد مقتلين في خبيزه..
قصة أم الزينات لم تنته عند بيادر "خبيزه". فبعد ان اكتشف أهلها أن هذه البيادر تحولت الى مسلخ.. "يقتل فيها الرجال كما يقتل الذباب..." حولوا اتجاههم الى دالية الكرمل بحثا عن ملجأ ولكن لحقوا بهم الى هناك، ولم يكن تشريدهم ممكنا الا بخديعة.
قالوا لهم : كل واحد يريد أن يسافر الى " حي العرب "، يسجل اسمه وأغراضه ونحن نوصله الى منطقة جنين. أحضروا لهم الباصات والشاحنات، فركبوا باصات اليهود حافين عريانين وحملوا أغراضهم على الشاحنات. "وعند مفرق المنصوره تابعت الشاحنات طريقها الى حيفا وأوقفوا الباصات وأمروهم كل واحد ينزل بثيابه. النسوان والاطفال أوصلوهم الى اللجون. وأخذوا كل الرجال من فوق 14 سنة الى معتقل عتليت. وهناك أمضوا 8 أشهر حفيانين عريانين. كل 30 زلمه في غرفه. كانوا كلهم طبقة واحدة. ما فرقوش بين غني وفقير، ولا بين متدين وجاهل، ولا بين وجيه وقطروز، اللي كان يقاومهم واللي كان يتآمر معاهم، عاملوه نفس المعامله. ما رحموا حد، وبعد 8 أشهر رموهم عند الحدود.. حتى بعد ما هدموا البلد، ظلت دورياتهم تحرس المنطقه، مرة راح زلمه عاجز، عمره خفا الله يا ربي 70 سنه، راح على البلد ليحوش صبر، كان راكب على الحمار، لحقته سيارة جيش لعند سيح الحج.. ولما مسكوه قوسوه ورموه على الارض.. هيك بدون سبب... بعد ما مسحوا وشردوا أهاليها.. بدهمش أم الزينات تكون واقفه.. بدهمش يكون الها أثر.. زرعوا الارض شجر صنوبر.. حتى ما حد يعرف أنه كان في قريه اسمها أم الزينات...

مرة في موظف سأل ابني هذا، لما كان صغير ( أشار بيده الى ابنه الذي تجاوز الخمسين عاما، وجلس صاغيا لم ينبس بكلمة) :
 من فين انت يا ولد؟

أجابه : أنا من أم الزينات..
فقال الموظف : والضراطه.
فأجابه الطفل : والضراطة منك ومن أمك وأبوك وحكومتك واللي جابك على هالبلاد.
ابتسم ابنه وقال : والله العظيم صارت معي، وذكر اسم الموظف.
(عن "وما نسينا، أو سيرة الشيخ المشقق الوجه)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى