الأحد ١٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
بقلم جميل السلحوت

رواية «فانتازيا» في ندوة اليوم السّابع

ناقشت ندوة اليوم السّابع الثقافيّة في المسرح الوطني الفلسطينيّ في القدس رواية "فانتازيا" للأديب المقدسيّ سمير الجندي، الصّادرة قبل أيّام عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي العراقيّ فاخر محمد، في 152 صفحة من الحجم المتوسّط.

قال جميل السلحوت:

جاء في موسوعة ويكيبيديا:" الفنتازيا هي تناول الواقع الحياتيّ من رؤية غير مألوفة، ما يعني أن هنالك شكّاً في عالم الرّواية إن كان ينتمي إلى الواقع أم يرفضه، وفي نفس الوقت هو معالجة ابداعيّة خارجة عن المألوف للواقع المعاش".
وفي معجم المعاني الجامع" فانتازيا(الثّقافة والفنون) خليط من أحداث دراميّة تجمع بين الفكاهة والتراجيديا".
ويبدو أنّ الكاتب سمير الجندي أراد تجريب الفانتازيا في كتابته، فجاءنا بهذا النّصّ الرّوائيّ، خصوصا وأنّه جاب عواصم الأقطار العربيّة من خلال مشاركة "دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس" التي يملكها الكاتب قد شاركت في "معارض الكتاب الدّولي" في هذه العواصم، وسمير الجندي المولود في القدس، ويعيش فيها، زار العواصم العربيّة وهو يحمل أفكارا ورديّة عمّا عرف بالرّبيع العربيّ، الذي انطلق من تونس عندما أحرق الشاب محمّد بوعزيزي نفسه في 17 كانون أوّل-ديسمبر- 2010 احتجاجا على رفض الشّرطة التّونسيّة قبول شكواه ضدّ شرطيّة تونسية صفعته على وجهه، وانتقلت عدواها إلى مصر، ليبيا، اليمن، سوريا وغيرها. وبما أنّ الشّعوب العربيّة بنت آمالا كبيرة في تغيير أنظمة الاستبداد التي دمّرت العالم العربيّ وأخرجته من التّاريخ، إلا أنّها صدمت بأنّ "هذا الرّبيع" لم يكن سوى خريف أحرق الأخضر واليابس، وزاد العالم العربيّ خرابا على خراب، لكنّ صدمة سمير الجندي-كما أبناء شعبه الفلسطينيّ كانت كبيرة، وبحجم الأمنيات الكبيرة التي بنوها على "هذا الرّبيع" وحلموا من خلالها أن يتمّ تحريرهم وخلاصهم من الاحتلال.
من هنا يبدو لي دافع سمير الجندي لكتابة روايته"فانتازيا"، أو على رأي مثلنا الشّعبيّ"هيك مضبطة بدها هيك ختم"، أيّ أنّ التّطوّر اللامعقول لما يسمّى بالرّبيع العربيّ، أملى وجود أحداث غير معقولة في رواية "فانتازيا". لكن سمير الجنديّ خلط الواقع بالخيال، فتجواله في مدينته القدس، وحديثه عن حاراتها، بعض مقدّساتها، أسواقها، بعض حاراتها، أزقّتها وشوارعها أمر واقعيّ، وكأنّي به يُذكّر العربان بالمدينة العظيمة التي أضاعوها، لكنّ "ربيعهم" أخطأ البوصلة.
وانسجاما مع فكرة الكاتب الجنديّ بعبثيّة الواقع العربيّ، التي تفوق الخيال، فقد التفّ على المألوف في بناء الرّواية العربيّة، وخاض التّجريب في سعيه للحديث عن المرحلة، فتلاعب بجماليّات اللغة وبالخيال الخصب؛ ليأتينا بهذا العمل الأدبيّ، والقارئ لاصدارات الجندي السّابقة سيلاحظ كيف طوّر الكاتب لغته، وكيف كان جريئا في الخروج على المألوف في فنّ الرّواية. وأعتقد أنّه جاءنا بجديد لم نعتده من قبل. على أمل أن نرى رأي النّقاد والأكّاديميّين بهذا الجديد.

وتحدّث عزيز العصا فقال:

سمير الجندي؛ فلسطيني-مقدسي، من قرية دير ياسين الفلسطينية المحتلة في العام 1948، التي تعرّض أهلها لأسوأ وأبشع مذبحة عرفها التّاريخ المعاصر، على أيدي قادة الحركة الصهيونية الذين أصبحوا قادة الدولة العبريّة فيما بعد. تجرّعت أسرته مرارة النّكبة، فاحتضنتها القدس، وآوتها، ووفرت لها الدفء من أنفاسها الحارة، وهي تحتضن أبناءها وتذود عنهم في مواجهة المغتصبين من كلّ الأجناس والألوان.

وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده للمقدسيّ "سمير الجندي" فهو روايته "فانتازيا" في طبعتها الأولى، وهي تبدأ بغلاف يحمل لوحة للفنان العراقي "فاخر محمد"، ويحمل غلافها الأخير "وجع الكاتب من الانتظار المتعاقب، ويفتت نفسه البعد عن أميرة الهوى". وما بين الغلافين نصّ، يُقدّم له النّاقد العراقيّ "خضير الزيدي"، ويتوزّع على (155) صفحة من القطع المتوسّط، يحتضن (12) محطة لقطار سردي جاء بنمط مختلف عمن سواه من النّصوص الرّوائية؛ فبقدر ما هو متعلق بالمحبوبة-القدس المكبلة، التي تعاني فحيح الأفاعي وتنهشها الكلاب المسعورة، فإنّه يصب جام غضبه على المتخاذلين والمتقاعسين، ويعلن براءته التّامة، من كلّ من لا يقبض على قدسه كالقابض على الجمر.
منذ اللحظة الأولى لاستلامي الرّواية، أخذت أدور في فلك العنوان، لعلي أتنبّأ بالدّلالات التي يشير إليها. وعندما توقفت، بشئ من التّعمق، وجدت أن "الفانتازيا" جنس أدبيّ يعتمد الأساطير، والخوراق وما وراء الطبيعة أساسًا في الحبكة الرّوائيّة، وأنّ الأحداث تدور في فضاءات وهميّة، أو في كواكب يسود فيها السّحر وقوى الآلهة وأنصاف الآلهة. وعند مقارنتها مع كلّ من الخيال العلميّ والرّعب، نجدها تمتاز عنهما بخلوّها من العلم والموت النهائي، علمًا بأنّ الأجناس الأدبيّة الثّلاثة متفرعة من الخيال التّأمّليّ.

كما أن مراجعة بحثيّة سريعة، تفضي إلى أنّ هناك أعمالًا كثيرة لكتّاب وفنانين، وسينمائيين، وموسيقيين، من الأساطير القديمة وحتى تاريخه، ذات الشّعبية الواسعة لدى الجمهور، لما فيها من جاذبية قوية؛ بسبب قدرتها على أخذ المشاهدين في رحلة جميلة في فضاء الخيال، في أجواء من التّشويق والإثارة القائمين على الغموض. ومن أبرز ما يمكن الإشارة إليه في هذا المجال "حكايات ألف ليلة وليلة".

تقوم رواية "فانتازيا"، قيد النّقاش، على نصّ يتراوح بين الخيال الفانتازي، وما فيه من ظلمة وانعزال وانعزاليّة، وبين الواقع الملموس على المستوى الزمكانيّ الذي تدور أحداثه في القدس وبغداد وتونس والقاهرة وعمّان.
يطلُ علينا "سمير الجندي"، منذ بدايات روايته، وهو يحتار بين غوصه في الحلم، أو خروجه من حلم لم يعش فيه أصلًا، ليبحث عنه في الأزقّة وفي الصور وفي العقول الهرمة، أو بين المطارات (ص: 11-12)، ومما بقوله: "أحمل في ذاتي أملًا بالعيش وحدي مع نفسي، في بقعة منعزلة من العالم، في ركن قصيّ؛ فأنا في غربة اجتماعية مع قريتي" (ص: 9، 29)، ثم "يختفي عالمه في حلم شرّير" "ص: 11".

لقد حقق "الجندي" حالة من التّزاوج بين الخيال الذي جعله يتحرّر من قيود النّصّ والرّتابة والتّراتبيّة التي تفرض على الكاتب، في أغلب الأحيان، القيافة التي تحمل في طياتها شيئًا من الضّلالة والتّستر على عيوب المجتمع وآفاته. وصمّم شخصيّات روايته، من الرّاوي-البطل، وهو الكاتب نفسه، والمحبوبة-المدينة أو المدينة-المحبوبة، التي مارس معها "فانتازيا"، منحته حرية التعامل معها ومحاورتها وتلقي الرسائل المختلفة منها، وأسند ذلك بشخصيّات ثانويّة "هشّة" تمّ توظيفها في خدمة النّصّ في مواضع مختلفة، دون أن تبقى على طول الخيط الرّوائيّ.
أمّا بشأن معمار الرّواية، فإنّها تتّكئ على بنية مكانيّة تنطلق من القدس، وتمتدّ حتّى تصل بغداد، تونس، القاهرة وعمان، وأمّا البنية الزّمانية فأخالها تعالج ما يدور في زماننا الحاليّ، من خلال التّكنولوجيا المعاصرة التي يستخدمها في التّواصل مع محبوبته، عبر "الرّسائل النّصّيّة على جهازه النّقّال"، ومن خلال وصفه للثّورات التي شهدتها بعض العواصم العربيّة بعد العام 2011.

حول بنائية الرّواية، فإنني أتفق مع ما يقوله النّاقد "الزّيدي"، في أن ما يهمنا فيها: قيمها المعرفيّة، واختلافها من خلال تحديد بلاغتها ورصدها لحقل السرديّات، والمستوى الجماليّ، وصياغة لها القدرة على تضمين أحداث تتداخل فيها الغيبيّات والشّكوك والواقعيّة في تواشح غريب علينا. وأرى ضرورة التّوقّف عند الأبعاد المعرفيّة والمعلوماتيّة التي أراد "سمير الجندي" تمريرها بين ثنايا روايته هذه، وهي كثيرة ومتعدّدة، منها:

أوّلًا: سمات المجتمع:

لم يختر بطل رواية "فانتازيا" الانزواء مع كتبه والتّواصل مع محبوبته، إلا بعد أن اكتشف أنّ "مجتمعنا يكاد يخلو من القيم الإنسانيّة التي تكوّن ذائقة أيّ مجتمع على هذه الأرض"، ثمّ يسترسل في وصف الرذجال الذين يسيرون بلا هدف، ويحيون كالبهائم، والنّساء بائسات متهتّكات لا أحلام لهنّ ولا خيال (ص: 10)، وفي ذلك تعميم سوداويّ لرجل مقدسيّ يجب أن يتسلّح بالأمل في مواجهة التّحديات، وأن إدراك الواقع التّعيس لا يعني الهروب ولا يباركه، لكنّه لو برّر العزلة برغبة في التّصالح مع الذّات أو ترتيب الأفكار أو غير ذلك لكان أجمل بكثير.

ثانيًا: أشكال الاحتلال وأثره على المجتمع:

أشار "سمير الجندي" إلى الاحتلال بأشكال مختلفة، منها، تؤكد بشاعته، وتبيّن دوره في إيذاء الشّعب الفلسطينيّ، منها "الصياد الغريب" القادم من وراء البحر، الذي صار هو "الرّجل الوحيد في قريتنا، يصيد وحده، ويزرع الأرض ويحصدها، ويزرع وحده، وذكور قريتنا استمرأوا الكسل وطابت لهم المهانة" "ص: 32"
- ثعبان استيقظ من سُباته الشّتوي، بعد أن بّدّل جلده، وحضن بيضه، وبلسانه داعب كلّ شئ حتّى خرج خروجًا آمنًا "ص: 35-36"
 الاحتلال يشبه البعوض، فالبعوض يقتل الملايين ويُغير على قلب الإنسان أو جزءًا من نظامه، لينقل له أمراض خطيرة تؤدّي إلى هلاكه، والاحتلال يقوم بهذا الدّور في القدس وفي فلسطين جميعها "ص: 50"

في إشارة إلى تململ التّاريخ والحضارة في القدس من وطأة الاحتلال وصلفه، وفي وصفه لما يحدثه من صخب وجلبة وأذى يمتد إلى أعماق القدس، بل أعماق أعماقها، يشير إلى أنّ "الكلاب تنبح طيلة الليل، والشيخ الهندي لا يعرف النوم" "ص: 54"
ونرى في ذلك تعزيزا لحالة الخنوع والاستسلام للقادم من خلف البحار، دون مواجهته والحدّ من أثره. كما أنّ الشّيخ الهندي اكتفى بالانزعاج من نباح الكلاب دون أن يوجّه الأجيال إلى كيفية مواجهة هذا النّباح والتّخلص منه.
ثالثًا: وصف جميل للقدس:
ابتدع "سمير الجندي" في روايته هذه طريقة للتّجول في القدس، وهو يصف آثارها ومكوناتها الحضاريّة، وحاراتها وأبوابها وأزقتها ومؤسساتها التّربويّة، ومقاهيها التّاريخية وأفرانها وصناعاتها الحرفيّة الجميلة، وسورها الجميل، وأناسها الطيّبين؛ رجالًا ونساءً. إلا أنّه لم ينس تذكير القارئ بأنّ هذا كله يخضح لاحتلال بغيض، فها هي القدس تظهر فتاة جميلة تشكو من وحش "يأسرها ويطبق على أنفاسها" (ص: 45). ثم يتساءل: أين هو الفارس الذي سيأتي على صهوة موجة؟ (ص: 59)، وفي ذلك تكرار للسّؤال التّقليدي الذي يتكرر من أكثر من سبعين عامًا.

رابعًا: يصف عواصم الأمّة:

بعد تلك الرّسالة القادمة من القدس-المحبوبة التي تصف واقع الأمّة بعد تآمر العالم عليها، يقوم البطل بجولة في عواصم الأمّة، متمثلة في: بغداد، وتونس والقاهرة وعمّان. فيصف جماليّات تلك العواصم، وما تزخر به من حضارة وعمران، وحركة دؤوبة من قاطنيها البسطاء الطيّبين، وأسواقها، وأنهارها وبحارها التي تحتضنها كما تحتضن الأمّ وليدها، وما في ملامحها من بؤس وأحزان. وكان في كل مرّة يبحث عن حبيبته في تلك العواصم، فلم يجدها.

كما سجّل ما وجده من تعاطف مع فلسطين وأهلها، بخاصة الحروب التي شنّها الاحتلال على قطاع غزّة، وما خلفته من مآسٍ على أبناء هناك (ص: 118)، ولعلّ ذروة التّعاطف تتمثّل في إيمان العرب بأنّ "الصهيونيّ قاتل بامتياز" (ص: 120)، في حين أنّ هناك من يدعو إلى اعتبار وجود الاحتلال أمرا طبيعيّا في المنطقة. وفي وداعه لتونس يقول: "أنا وأنت ننحدر من نصّ واحد منسيّ (...) غدًا أجمل أيامنا، وربّما اليوم، وبالتّأكيد ليس الأمس" (ص: 125). ويتوقف، مليًّا، عند التّشابه بين القاهرة والقدس؛ الأبنية تتشابه، والوجوه تتشابه، والأدعية هي هي (ص: 131). ثم يشير إلى الثّورة المصريّة على نظام "حسني مبارك"، ثم تبدُّل الأنظمة بأحزاب لم تطبّق ما ترفعه من شعارات "ص: 136-139."
بإشارة من المحبوبة-القدس، يتّجه إلى عمان، بصحبة ماجد؛ إبن يافا، فيبحران في البحر الأحمر، في رحلة مع الثّيران، حيث "الطّريق إلى عمّان وعرة المسالك" (ص: 146)، ويصف الصّناعة في عمّان، التي يديرها الهنود والبنغاليّون، كمن يربّي غيمة حتى تكبر وتتّسع، ولكنّها تمطر في أرض أخرى (ص: 147). تختتم الرّحلة ببقاء "ماجد" في عمّان بعيدا عن يافا، ويعود البطل إلى قريته المتهالكة، لكي يلتقي محبوبته-القدس في القدس ولا مكان غير القدس.
خلال رحلته تلك، يتلقى العديد من الرسائل "الفانتازية" التي تبثّها المحبوبة التي يتابعه طيفها كظله، منها: لو لم تكن حبيبي، فماذا تودّ أن تكون؟ فيقول لها: "أكون فيلًا! (ص: 82)، و"النّاس لا يموتون.. نعم.. لا يموتون، ولكن يتحوّل شكلهم إلى صور أخرى تعرفها الحجارة والمآذن، والوجدان النّقيّ المتحفّز للشّهادة" "ص: 91-92."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى