الثلاثاء ٩ شباط (فبراير) ٢٠١٦
علي الوردي: (50)
بقلم حسين سرمك حسن

الرائد في تطوير مفهوم اللاشعور عراقياً وعربيا ً

لم يسبق الوردي أحدٌ في العراق في طرح مفهوم اللاشعور:

(( إن الإنسان يسير بوحي العقل الباطن أولا ثم يأتي العقل الظاهر أخيرا لكي يبرّر ما فعل ويبهرجه ويطليه فيظهره أمام الناس بالمظهر المقبول.. وقد يجوز لنا القول بأن الإنسان يعمل ثم يفكر، وهذا عكس ما كان القدماء يظنون به، فيه بعدئذ.. لقد كان القدماء يعتقدون بأن الإنسان حيوان عاقل. والواقع أنه حيوان متحذلق. فهو متعاقل لا عاقل. يتظاهر بالتعقل وهو في الحقيقة مجنون... على وجه من الوجوه... ))
( علي الوردي )
( خوارق اللاشعور – 1952 )

كان طرح مفهوم اللاشعور آنذاك – في الخمسينات – مسألة جديدة على الثقافة العراقية لم يسبق الوردي أحد فيها على الإطلاق من حيث سعة الإحاطة بهذا المفهوم أولا، وتوظيفه في مجال علم الاجتماع ثانيا، وتبسيطه - وهو المفهوم الفرويدي المعقّد - ثالثا، وكثرة ما كتب الوردي عنه رابعا. صحيح أن ( سلامة موسى ) هو أول كاتب عربي طرح مفهوم ( العقل الباطن ) لكنه لم يُغنه ويثريه مثلما فعل الوردي، وبدا – أي موسى - وكأنه يتراجع عن المفهوم أو كأنه يضطرب عليه في مؤلفاته الأخيرة، حيث تحوّل عنه إلى استخدام مصطلح "العقل الكامن" الذي لم يقرّه الوردي، كما أنه لم يوظّفه بالسعة وبالصورة العملية التي انبرى لها الوردي. وهذا هو ما لاحظه الوردي بنفسه أيضا حيث قال:

( إن وجود هذين النوعين المتناقضين من القوى في العقل الباطن هو الذي منعنا من متابعة الأستاذ سلامة موسى في تسميته بالعقل الكامن. ويظهر أن سلامة موسى لا يؤمن بالقوى النفسية الخارقة ولذا فهو قد لا يرى في العقل الباطن غير الرغبات المكبوتة والعقد الكامنة التي تحاول الظهور إلى طبقة الوعي على شتى الصور والأساليب. إني أتمنى أن يُتاح لهذا الكاتب اللوذعي الاطلاع الكافي على الأبحاث العلمية الحديثة في موضوع القوى النفسية الخارقة. فلعلّه يميل أخيرا إلى التصديق بها بعد أن اصطبغت بصبغة العلم وجُرّدت من أقنعتها الغيبية القديمة) (348).

وحول التسمية: اللاشعور أو العقل الباطن، أشار الوردي إلى اختلافه مع سلامة موسى في هذا المجال حيث يميل الأخير إلى استخدام مصطلح " العقل الكامن " في حين يميل الأول إلى تداول مصطلح " اللاشعور ":
(( إن اصطلاح العقل الباطن قد جاء به إلى العربية الأستاذ سلامة موسى، الكاتب المصري المعروف. وإليه يُعزى الفضل في نشره بين القرّاء العرب هذا الإنتشار الكبير. وقد حاول هذا الكاتب مؤخرا أن يطلق عليه اسم العقل الكامن بدلا من العقل الباطن على اعتبار أن فيه صفة الكمون والتحفّز ومحاولة الظهور. ونحن نميل هنا أن نبقي على اصطلاحه القديم لأسباب معينة ربما اطلع القاريء على بعضها فيما يلي. أما اصطلاح اللاشعور الذي أخذ مؤخرا يحل محل العقل الباطن فهو ترجمة حرفية لكلمة ( uncocious ) في اللغة الإنكليزية، ونحن نرجّح استعماله أحيانا مكان العقل الباطن ليسره وسهولة النسبة إليه )) (349).

اللاشعور وليس العقل الكامن كما يقول سلامة موسى:

ولكن الوردي يعود في الفصل الرابع من كتابه هذا إلى تذكير القاريء بأنه لا يعتبر العقل الباطن جهازا نفسيا معينا له خصائصه ووظيفته الخاصة به، وأن إطلاق معنى " العقل " عليه هو من باب التجويز والتبسيط. فهو ليس عقلا ولا يشبه العقل الذي نقصده في كلامنا عادة، ولكنه اصطلاح عام نقصد به جميع الفعاليات النفسية التي تؤثر في سلوك الإنسان وهو لا يشعر بها ( الصفحة 165 من خوارق اللاشعور )، ويقدّم – ارتباطا بهذا الموقف – هامشا تفسيريا يعود فيه إلى موضوعة التسمية: اللاشعور أو العقل الباطن الذي استخدمه سلامة موسى وتراجع عنه لمصلحة مصطلح العقل الكامن:
(( الأصح إذن أن ندعوه " اللاشعور ". ونحن في الواقع لم نستعمل اصطلاح "العقل الباطن" في هذا الكتاب إلا لأنه مستعمل في اللغة العربية على هذا الشكل كثيرا. ومما يجدر ذكره في هذه المناسبة أن الكتاب الغربيين، حين يذكرون العقل الباطن، يميلون إلى حذف كلمة " العقل " ويقتصرون على ذكر كلمة " الباطن " فقط فيقولون: ( unconcious ) بدلا من: ( unconscious mind ) ( 350).

استقلالية عن الفهم الفرويدي للاشعور:

وأول ما نلاحظه في موقف الوردي هو استقلاليته عن الفهم الفرويدي للاشعور برغم أن فرويد هو الذي أنضج هذا المفهوم بصورة خلاقة جعلت وليم جيمس يصف نظرية فرويد بأنها: (أعظم اكتشاف خلال مائة عام). فقد أخذ الوردي على فرويد حصر محتويات اللاشعور بالجانب الجنسي حسب ( والوردي غير دقيق تماما في ذلك حيث طوّر فرويد نظريته وجعل اللاشعور مخزونا لدوافع الحب والحياة erose، وهي أوسع من الدافع الجنسي، ودوافع الكره والموت thanatose – الكاتب ) ونظر إلى اللاشعور كجهاز يحتوي على منجم من الذهب ومجموعة من النفايات كما يقول أحد الكتّاب – أي محتويات سلبية وإيجابية – في حين جعله فرويد كما يرى ( كارل غوستاف يونغ ) تلميذه الذي انشقّ عليه مكبّاً للنفايات.

ويطرح الوردي وجهة نظر انتقادية لفرويد تؤكد على خصوصية كل مجتمع ودوره في تشكيل محتويات اللاشعور وهو الأمر الذي غفل عنه فرويد:

( يظهر أن فرويد في تأكيده على العامل الجنسي هذا التأكيد المتطرّف قد تأثر بمحيطه الاجتماعي. فقد كان في ( فيينا ) قبل الحرب العالمية الأولى يوم كانت نساء الطبقة الارستقراطية هناك قد شبعن من ناحية الخام والطعام وجعن من الناحية الجنسية حتى ابتلين من جراء ذلك بمختلف الأمراض النفسية، وقد أتيح لصاحبنا فرويد أن يعالج عددا من هؤلاء الجائعات جنسيا فأدى به اتصاله بهن وتحليله لأحلامهن إلى القول بأن العامل الجنسي هو الذي يكمن في أعماق اللاشعور ويوجّه سلوك الإنسان. ولو أن فرويد عاش بين البدو مثلا لربما تصور اللاشعور مؤلفا من حبّ القوة والشهرة وبُعْد الصيت بدلا من الشهوة الجنسية. وربما صحّ القول أن العقل الباطن مؤلف من أي رغبة مكبوتة سواء في ذلك الجنسية وغيرها، وأن الذي يجعل محتويات العقل الباطن مختلفة في بلد عنها في آخر هو المجتمع وما يوحي به من مثل وقيم إلى أبنائه ) (351).

يحدّد الوردي المحتويات السلبية بأنها تتكون من: التعصّب التقليدي ( قيم ومعتقدات الطفولة )، الاتجاه العاطفي، الدافع المصلحي، الأنوية، التجارب المنسية و الرغبات المكبوتة.

أما الجوانب الإيجابية فتتمثل بالإبداع والمواهب الذكائية والمواهب الخارقية.
لكن الدور الأعظم للوردي يتمثل في جانبين: الأول هو أنه قد حوّل هذا المصطلح المعقّد: اللاشعور – العقل الباطن إلى مصطلح يومي يتداوله القراء العاديّون، وأعتقد أن هذا المصطلح قد انتقل من الوردي إلى الاستخدام الثقافي الواسع خصوصا في مجال الأدب وبين الأدباء.
أما الثاني فهو توجيه انتباه النخبة والقراء العاديين إلى أهمية اللاشعور في توجيه سلوكهم من حيث لا يعلمون وفي التحكّم بما يسمّونه ( الموقف الموضوعي )، وفي رسم أحكامهم التي يسمونها (موضوعية) والتي يمكن أن تشعل الصراعات والمجادلات بين الأفراد ونيران الحروب الطاحنة بين الشعوب والدول، وهو يبسّط هذا المفهوم المعقّد من خلال مثل يومي وشائع جدا حيث يقول:

(( لنفرض أن مظاهرة كبرى حدثت في شارع الرشيد في بغداد حيث اختلط فيها الحابل بالنابل وتراطم فيها النساء والرجال وبلغت الهتافات فيها عنان السماء. ولنفرض أيضا أن عددا من المتفرجين الباردين قد وقفوا على السطوح والنوافذ يراقبون هذه الظاهرة الاجتماعية. إنها حقيقة خارجية بالنسبة إليهم , ولكنها ليست حقيقة واحدة في نظرهم جميعا. فكلّ واحد منهم يركّز انتباهه على جزء منها ويهمل الأجزاء الأخرى تقريبا.وإذا بهم يخرجون من هذا التفرّج وقد انطبعت في ذاكرة كل منهم شهادة تختلف عن شهادات الآخرين في قليل أو كثير. فهذا شاب قد شغفه الجمال الرائع في وجوه بعض الفتيات المشتركات في المظاهرة، فهو إذن لا يكاد يرى من المظاهرة إلّا ناحيتها الجنسية، حيث نجده قد خفق قلبه نحو فتاة ثم عزم على مطاردتها والعياذ بالله. وتلك امرأة وقفت تتفرج من نافذتها فهي لا تتأمل إلّا في ملابس زميلاتها المتظاهرات... وذلك رجل من رجال السياسة المحلية قد غفل عن كلّ شيء في المظاهرة إلّا ذلك الجانب الذي يعنيه منها أي ما هو أثرها في إسقاط الوزارة وتنصيب أخرى مكانها يكون له فيها نصيب. وهذا أديب متحذلق لا يهمه إلّا التقاط الأخطاء النحوية والصرفية كأن المظاهرة في نظره ليست إلّا مسرحية تمثل فيها حياة سيبويه ونفطويه.. وهذا شاب متحمّس.. وهذا شاعر.. وهذا مخبر صحافي.. وهؤلاء أصحاب الحوانيت والمخازن الذين يرقبون سير المظاهرة وقد وضعوا أيديهم على قلوبهم إذ لا يدرون متى تُنهب أموالهم وبضائعهم من قبل هؤلاء الوطنيين المتحمسين)).
ثم يلخّص لنا الأمر راجعا إلى موضوعة الإطار الفكري اللاشعوري بالقول:

((أن كل واحد من هؤلاء المتفرجين ينظر إلى ناحية معينة من المظاهرة ويهمل غيرها – أي أن كل واحد منهم ينظر إليها من خلال منظار خاص به وهو إذن لا يكاد يرى إلّا ما يظهر في بؤرة ذلك الإطار)).
وحتى في الاختيارات الغرامية يكون الذوق كالنظر العقلي عليه إطار يحدد مجاله. وقد قال أحد الباحثين (وهذه من الاطروحات الفرويدية المستندة إلى العقدة الأوديبية – الكاتب ) في هذا الصدد: إن كل رجل يحب من الفتيات تلك التي تشبه أُمّه. فملامح أُمّه إذن تؤلف في أعماق نفسه إطارا لاشعوريا لا يستطيع هو أن يتذوق الجمال إلّا من خلاله)).

الجبر لاشعوري وليس ميتافيزيقياً:

لقد أثبتت البحوث النفسية الحديثة – كما يقول الوردي – أن الإنسان مسيّر في أغلب أعماله لا مخيّر، ففي أعماق النفس البشرية من العوامل الكامنة ما يكاد يشبه تلك الآلات المتنوعة المخفية في باطن الطيارة. فالعلماء اليوم يميلون إلى القول بـ (الجبر) في موضوع الشخصية البشرية. ومن المهم القول إن مفهوم الجبر الذي يقول به علماء النفس والاجتماع يختلف عن مفهوم الجبر الذي يقول به علماء الكلام في الدين الإسلامي. فهو بالنسبة لعلماء النفس ليس جبرا ميتافيزيقيا أو غيبيا. إنما هو بالأحرى جبر لاشعوري، انبعثت أسبابه من أعماق العقل الباطن.
يقول الوردي:

((إن الإطار الفكري الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الكون مُؤلّف جزؤه الأكبر من المصطلحات والمؤلفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه ويغرزها في أعماق عقله الباطن. والإنسان متأثر بها من حيث لا يشعر. فهو حين ينظر إلى ما حوله لا يدرك أن نظرته مقيدة ومحدودة. وكل ظنّه أنه حرٌّ في تفكيره. وهنا يكمن الخطر فهو لا يكاد يرى أحدا يخالفه في رأيه حتى يثور غاضبا ويتحفز للاعتداء عليه. وهو عندما يعتدي على المخالف له بالرأي لا يعد ذلك شيئا ولا ظلما إذ هو يعتقد بأنه يجاهد في سبيل الحقيقة ويكافح ضد الباطل. وأغلب الحروب والاضطهادات التي شنّها البشر بعضهم على بعض في سبيل مذهب من المذاهب الدينية أو السياسية ناتجة عن وجود هذا الإطار اللاشعوري على عقل الإنسان)). إننا نقف أمام توظيف مقتدر لمفهوم فرويدي أصيل طوّره – أو غيّره جذريّاً كما يعتقد الكثيرون من المختصين بالتحليل النفسي – عالم التحليل النفسي الفرنسي (جاك لاكان) وهو مفهوم (الحتمية اللاشعورية) الذي يفترض أن قوى اللاشعور - التي لا يتبصّر بها الفرد ويسيطر عليها - تسوق الفرد إلى ما ترسمه من مسارات رغم تنفجه العقلي ومحاولاته المستميتة لرسم مسارات بديلة. إنها حتمية الخراب إذا جاز الوصف وهي التي أتذكرها دائما حين أراجع سيرة الكثير من الشخصيات السياسية العالمية والعراقية التي سارت بأقدامها إلى النهايات الكارثية سائقة شعوبها إلى الدمار الشامل. يقول الوردي:

(( ومن الغريب أن نرى رجلا يضطهده غيره من أجل دينه أو رأيه ثم ينقلب فجأة فيصبح بجانب الذي كان يضطهده حيث يأخذ إذ ذاك باضطهاد من كان على رأيه السابق ( يُسمّى هذا في التحليل النفسي حالة " التماهي مع المعتدي -identification with the aggressor "، ويظهر على سبيل المثال بين أسرى الحرب حيث يتماهى بعضهم مع آسره وسجانه ويصبح شديد القسوة في معاملة رفاقه الأسرى وتعذيبهم – الكاتب). لقد تغيّر رأيه ثم بقي فيه شيء واحد لم يتغير هو إطاره الفكري. إن الإنسان لا يستطيع أن يتخلّص من إطاره الفكري إلّا نادرا.فهو فرض لازب عليه. فالإطار شيء كامن في اللاشعور. والإنسان لا يستطيع أن يتخلّص من شيء لا يشعر به)).

وهناك مقولة خطيرة طرحها الوردي في ص 48من كتابه (خوارق اللاشعور) ينبغي أن توضع في مصاف الأقوال المأثورة في علمي النفس والاجتماع لأهميتها الفائقة ولمضمونها الهائل المركّز الذي يعبر عن جانب لا يمكن حصره من الحياة الإنسانية البالغة التعقيد وعلاقاتها الشائكة:

(( كلما اشتد اعتقاد إنسان بأنه حرٌّ في تفكيره زاد اعتقادي بعبوديّته الفكرية))،
أي أننا نقف أمام حالة من التكوين الضدّي الدفاعي (التشكيل العكسي – reaction formation ) حيث كلّما كان الواقع اللاشعوري ممضّا ومثيرا للقلق كلّما أظهر الفرد مواقف مناقضة شديدة الإفراط.

ملاحظة مهمة جدا:

لسوء الحظ فإن الدكتور (علي الوردي) كان من بين أول ضحايا (حتمية اللاشعور) وهذا أمر فصّلته كثيرا في كتابي الذي صدر مشاركة مع الأستاذ الباحث "سلام الشمّاع": (محاولة في تحليل شخصية الدكتور علي الوردي)، ومخطوطة كتابي: " محاولة في تحليل الشخصية العراقية" والذي سوف يصدر بعد وفاة الكاتب إن شاء الله على حد تعبير الوردي عندما كان يضع هذه الملاحظة في خاتمة كتبه وهو يتحدث عن الركام الكبير لمخطوطاته المعطّلة آنذاك. لقد أثبتنا في ذلكما الكتابين أن الوردي كان الأنموذج الأول للازدواجية التي شكّل على أساسها فرضيته في ازدواجية الفرد العراقي.

دور اللاشعور في القضاء وكتابة التاريخ والفلسفة والسلوك:

ومن الإحالات المهمة للوردي هو شرحه المُسهب لتأثير إغفال دور اللاشعور في جوانب الحياة الاجتماعية المختلفة وخصوصا في مجال القضاء والتاريخ والموقف من الحقيقة ( جوهر الفلسفة ) ودراسة دوافع السلوك البشري الغريب ؛ الغوغائي خصوصا.

ففي مجال القضاء يعلن الوردي عن أسفه لأن القضاة لا يعيرون اللاشعور الأهمية التي يستحقها في فحص الشهود الذين يتقدمون إليهم بشهادتهم. فهم يريدون ممن شهدوا حادثة معينة أن تكون شهادتهم متماثلة، وكثيرا ما يعاقبون شاهدا على اختلاف بسيط في شهادته غير دارين بأن تماثل الشهادات وانطباقها بعضها على بعض أمر غير طبيعي ولعله دليل على الاختلاق والكذب. وهذا – لعمري – طرح ثوري في ظروف خمسينيات العراق آنذاك.
وعن دور اللاشعور في كتابة التاريخ وهي انتباهة عجيبة في ظروف العراق آنذاك يقول الوردي:
(( قلْ مثل هذا عن المؤرّخين القدماء فتجد إحدى الشخصيات التاريخية قد أصبحت في نظر بعضهم إلهاً يُعبد وفي نظر الآخرين فاسقا دنيئا لا يستحق المدح. أن كل مؤرّخ حين يدرس الأخبار عن تلك الشخصية التاريخية يركز بؤرة نظره على جزء منها ويهمل الأجزاء الأخرى. وهو حين يمر على الأخبار التي تخالف وجهة نظره يعتبرها مكذوبة ويتركها. فإذا سألته عن السبب في تركه لبعض الأخبار دون البعض الآخر قال: أنها غير معقولة.. وهو يقصد بذلك أنها خارجة عن إطاره الفكري اللاشعوري )).

أما في مجال ( الحقيقة ) وإدراكها من جانب العقل البشري وتحديد ماهيتها، فإن الوردي يحيلنا إلى معضلة فلسفية تعود إلى أيام الإغريق القدماء وتتعلق بالتساؤل الخطير حول: هل عقل الإنسان هو الذي يحدّد الحقيقة أم أن الحقيقة هي التي تخلقه؟.
وهو تساؤل شائك جدا استهلك من حياة البشر قرونا طويلة ويرى الوردي أنه يعود إلى عوامل لاشعورية. فالفريقان المتشادّان كلاهما على خطأ. فالمنطق الحديث لا يميل نحو فريق منهما دون الآخر، إذ هو يكاد الآن يحكم بأن الحقيقة ذاتية وموضوعية في آن واحد: أي أن الحقيقة على هذا الاعتبار الحديث تخلق الفكر ويخلقها الفكر في نفس الوقت ؛ فكلٌّ منهما سبب للآخر ونتيجة له أيضا ).

ولكن الأهم هو أن الحقيقة تشترك في تحديدها قوى اللاشعور ورغباته. في كتابه ( الأحلام والعقيدة ) يضرب الوردي مثلا تطبيقيا على هذا الموضوع – وانظر إلى سخريته الجارحة والعنيفة التي ميّزت أسلوبه من ناحية، وألّبت عليه الأصدقاء قبل الأعداء من ناحية ثانية -. يقول الوردي:

(( حدث ذات يوم أن اجتمع نفر من المفكرين في القرون الوسطى وأخذوا يتجادلون حول أسنان الحصان؟ كم هي؟ وظلوا يتجادلون ويتقاذفون بالوسائد والنعال، مع العلم أن الحصان كان موجودا في إسطبل قريب منهم وكانوا قادرين إن يذهبون إليه ليعدّوا أسنانه. إنهم يظنّون أن في الإمكان التوصّل إلى العدد المطلوب عن طريق التفكير السليم فلا حاجة لهم إذن بأن يجهدوا أنفسهم فيذهبوا إلى الحصان يلوثون أيديهم بأقذاره. وكانت النتيجة أنهم لم ينتهوا بجدلهم إلى رأي حاسم إذ أن كل واحد منهم كان يأتي بقول استنادا على مقدمة منطقية يرتئيها وهو يحسب نفسه ( سيّد العارفين ).. )).
أما في مجال دراسة دوافع السلوك البشري الشاذ، فقد درس الوردي السلوك الغوغائي الذي حصل في العراق عقب ثورة 14 تموز 1958 مزاوجا بين علم النفس وعلم الاجتماع (علم النفس الإجتماعي)، ومعتمدا على جانب من أطروحات المفكر الاجتماعي الفرنسي (غوستاف لوبون ) في كتابه (روح الاجتماع ) حسب التسمية التي ترجمها فتحي زغلول أو ( روح الجماعات) حسب التسمية التي ترجمها عادل زعيتر. ومضمون نظرية لوبون أن الإنسان عند انضمامه إلى التجمهر الغوغائي يقع تحت تأثير التنويم الاجتماعي بشكل يفقد فيه إرادته واختياره الشخصي، ويصبح كأنه آلة صماء في يد الغوغاء يحركونه كما يشتهون. وهناك ثلاثة عوامل حسب نظرية لوبون تؤثر على الفرد في أثناء ذلك يبسطها الوردي كما يأتي:

أ – شعور الفرد بقوة له لا تقهر من جراء تجمع الغوغاء حوله، فتنطلق رغباته المكبوتة من عقالها ويندفع هو معها لإشباعها كما يشتهي، فيقتل أو ينهب أو يملأ الدنيا شتما وصراخا.
ب – تأثّره بالعدوى النفسية المنبعثة ممن حوله، فهو يفعل كما يفعلون، وقد يرمي بنفسه إلى الموت محاكاة لهم أو مجاراة لهم.
ج – تأثّره بالإيحاء التنويمي المسلّط عليه عن طريق الهتافات أو الخطابات الرنانة التي يلقيها قادة الغوغاء، فهم يصورون له الدنيا بصورة مليئة بالغلو أو الوهم، وهو يصدق بما يقولون ويتحرك بأمرهم، حتى إذا انقشع عنه التنويم بعدئذ تعجب مما فعل وظن أنه كان في حلم.
ويعلق الوردي على نظرية لوبون بالقول:

(إننا حين نتذكر أفعال الغوغاء التي حدثت في العراق في عامي 1958و1959 نشعر بصحة نظرية لوبون إلى حد غير قليل. ويجب أن لا ننسى هنا أن الطبيعة الغوغائية لا تقتصر على الأشخاص الذين يشاركون فيها فعلا، بل هي قد تشمل الأشخاص الذين يسمعون عنها ويؤيدونها بقلوبهم وألسنتهم ) (352 ).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى