الجمعة ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠١٦
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

جار چولان البصير

كلما ذكرني أحدهم بالحرب تضايقتُ وتراءت أمامي تلك السنين الشاقة.

تحزنني تلك الخسائر التي تكبدناها في أموالنا وثقافتنا وهويتنا.

فما أكثر البيوت التي هدمتها المدافع، وكأين من ثقافة نـُسيت فأهملت، وكم من هوية عربية اضمحلت بعد أن نزح العرب الأهوازيون من ديارهم! لا شك أن هذا الضياع و الذوبان حقق أمنية الكثير من أعداء أبناء هذه الأرض الناطقة بالضاد.
قص لي عن تلك الأيام المرحوم (چولان) عن جاره البصير:

كان يسكن في الصرائف1 يتصدق عليه الفقراء، وكلنا كان فقيرًا.
ولكن فاقة البصير ذاك كانت مدقعة، يتغدى ولا يكاد يتعشى.
فاقترح عليه جار آخر أن يجلس جنب الجسر يترزق من صدقة المارة.
فأخذ البصير بالاقتراح وأصبح يقوده أبوه الشيخ نحو الجسر، وعند المساء يرجعه وفي جيوبه الرزق الوفير.
تحسنت معيشته، أمسى يأكل حتى الشبع، وأضحت زوجته تلبس الجديد.

عندما تركنا الصرائف وانتقلنا إلى حي العبّارة، انتقل معنا واشترى بيتا وسيعا وأثاثا.
ولم تدم النعمة، فدقت أجراس الحرب ونزل العذاب من فوق رؤوسنا، وفاجأتنا القذائف تقصف المنازل من غير دقة ولا رحمة.. فحان وقت النزوح.

وتأوه المرحوم (چولان) وتابع حكايته فقال:

كانت لحظات حمراء، والموت أضحى يلوح للجميع.
وجاءني جاري البصير حائرًا يطلب استشارتي :
ماذا أفعل؟

فقلت: نحن جمعنا أثاثنا وعلى وشك النزوح.. فانزح.

قال وهو يحاول أن يخفض صوته:
المشكلة مشكلة نقودي!

فقلت متعاطفا معه: هل تريد أن أقرضك أجرة السيارة؟
قال وهو يشيح بوجهه: لا، فلوسي كثيرة، أين أخبئها؟ جيوب دشداشتي2 لا تسعها! إن تحزمت عليها أبدو كالحبلى!
إن صررتها في صرة خفت أن تسرق مني! فاهدني إلى رأي.

اقترحت عليه أن يتقاسمها بينه وبين أبيه العجوز وامرأته في صرر يعلقونها في أرقابهم ويخبئونها تحت ملابسهم.
ويضيف (چولان) في عجب: كانت كثيرة، وفي فئات مختلفة! عرفت أن ما يكسبه في اليوم، كان يفوق أجرتي أنا العامل الذي يكدح في الشمس من الصباح وحتى المساء.

1- الصرائف: مفردها صريفة، كوخ من قصب.

2- الدشداشة: ثوب يشتمل على الجسد كله، جلباب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى