الأربعاء ٩ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم حسين أبو سعود

العودة من قونية

قونية مدينة تركية فيها مرقد مولانا جلال الدين الرومي

تعودت كثيرا ان أقف طويلا امام بوابات المدن المقدسة ،قبل دخولها وبعد مغادرتها ، ووجدت روحي بعد اضطرابها المزمن تشتاق للانعتاق من صخب هذه المدينة والتوجه نحو ضريح مولانا جلال الدين الرومي المحاط بزهور قونية اليانعة وورودها الملونة، اشتهت روحي ان تطيل البكاء هذه المرة امام بوابة مدينة قونية حيث تجليات الأنقياء وصفاء دواخلهم ورقصهم الدائري حول نقطة الحقيقة كما الرقص العبثي للفراشات حول النار المعشوقة.

وصلت المدينة بين الظهر والعصر فصليت هذه المرة رقصا جمعا وقصرا، دورتان بذراعين مفتوحتين في كل مرة
انتشت روحي ونسيت بعض تعبها ووضعت هناك بعض أوزارها التي كانت قد أثقلتها .
اغتسلت سريعا في الجدول القريب وارتديت ملابس بيضاء بلا جيوب ولا أزرار.

ظننت انه من السهل ان اقتحم على مولانا خلوته ولم أدر بوجود أصول وأعراف يجب مراعاتها عند الورود على الصالحين منها الاستئذان ، فلمحت على باب حجرته امرأة حسناء فارعة بارعة ترتدي ملابس شفافة بلون السماء الصافية تكاد تظهر كل مفاتنها، عيناها بحران يلتقيان تحت حاجبين أسودين ساحرين وعلى أنف أقنى مرسوم بمهارة بين خدين كتفاحة شُقتْ الى نصفين ، والشفاه كرزٌ قُطفَ للتو في أوج الموسم والعنق يتسامى كأبريق فضة ، والشعر الكستنائي ينساب على الاكتاف كأنه شلال صغير، والجسد المكتنز يبهر حتى القديسين ويشغلهم عن التسبيح والصلوات.
نظرتْ إليَّ بغنج ودلال وهمست :ما الذي جاء بك؟

قلت اريد التشرف بتراب اقدام المولوي ، فسألتني عن ديني ومذهبي فقلت لها :انا مسلم سني العقيدة ،فدخلت هنيئة ثم خرجت ولم تأذن لي بالدخول فقلت بل انا شيعي المذهب ، فدخلت ثم خرجت دون ان تأذن لي بالدخول وفعلت ذلك عشرات المرات وانا أعدد لها المذاهب واحدا واحداً لعل احدها يروق للشيخ ويحظى بالقبول الحسن فيأذن لي بالدخول ولكن ذلك لم يحدث فعددت لها: اشعري ظاهري زيدي معتزلي سلفي حتى اكملت لها ثلاث وسبعين فرقة وزدت لها عشرا من المذاهب الجديدة، وفي المرة الاخيرة وكان اليأس قد تملكني تماما قلت لها : اخبري مولانا بأني مسلم ومذهبي الحب، وهنا قام الشيخ من رقدته فتهللت أساريره واحتضنني وقال بلهجة المعاتب: لماذا أجهدت نفسك بالمجيء إلينا؟
قلت: جئت لأتعلم العطاء من الزهور التي تحيط بقبرك واتعلم الغناء من البلابل والطيور التي حلت بفنائك جئت تلميذا يريد ان يتعلم مبادئ العشق الاخر.

فأشاح بوجهه عني قليلا ثم عاد وقال :اخرجْ الان الى الحسناء فهي لك فأقضي منها وطرك حتى تشبع ثم عدْ لي.
ملأ السرور قلبي وخرجتُ مسرعا وكانت الفتاة تنظر في البحيرة المقابلة تراقب منظر الغروب وتتأمل أسراب البط العائدة ، وضعتُ يدي على كتفها برفق بالغ فاستدارت وإذا بها شيخ كبير عليه سمات الدراويش يلبس الصوف الخشن تملأ التجاعيد وجهه الوقور، فتح ذراعيه مبتسما يريد ان يضمني الى صدره فدخلني في حينه خوف كبير وفزع عظيم ، فعدت الى المولوي مستنجدا من هول المطلع وسوء المنقلب وقلت له متوسلا: سامحني أيها القديس النقي التقي فأنا بشر قد غره الشيطان، فنظر إليَّ ملياً وقال : هيامك بالفتاة الحسناء حال الوصول كان سقوطا أولاً ، وخروجك مسرعا من عندي طمعا في وصلها كان سقوطا ثانيا، ولا مجال عندنا للسقوط الثالث، ثم كان حريا بك أيها الرجل ان تبحث عني في مدينتك دون الحاجة للمجيء وتجشم عناء السفر وطي المسافات الطويلة، وانت ان لم تجدني هناك فلن تجدني هنا وان وجدتني هناك ستجدني في كل مكان،
ابحث عني يا ولدي في قلبك.

تحول نظري عنه هنيئة ثم التفتُ فلم أجده كما كان ماثلا أمامي
بحثتُ عنه في قلبي فلم أجده أيضاً .

حتى وان تناءت اجسادنا، ستبقى نافذة بقلبي تطل عليك
ومنها أمدك بالرسائل الصامتة
تماما كما يفعل القمر(الرومي)
العشرين من يناير 2016


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى