الأحد ١٣ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

وظف الفرويدية في البحث الاجتماعي

كان البدء مع الفرويدية في عام 1951:

يمكننا القول إن الدكتور علي الوردي هو أول من طرح أفكار علم النفس بصورة واسعة وشعبية عموما، وأفكار التحليل النفسي – الفرويدي تحديدا – خصوصا في العراق، وقد يكون أول باحث وظف مباديء التحليل النفسي في تحليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية. فقد ضمّت محاضرته الأولى: ( شخصية الفرد العراقي – 1951 ) حزمة واسعة من الأفكار والنظريات النفسية. فقد شرح فيها تعريف الشخصية ومكوناتها وصراع الذاتين السفلى والعليا فيها. كما طرح موجزا عن نظريات الشخصية والعوامل المؤثرة في تكوينها؛ الاجتماعية والنفسية والبايولوجية وغيرها. والملاحظة الهامة هي أن الوردي قد وظف هذه الأفكار النفسية لخدمة بحثه الأجتماعي في شخصية الفرد العراقي وبنية المجتمع العراقي وأمراضه ومشكلاته. فقد استثمر ظاهرة التنويم المغناطيسي ووسّعها للحديث عن التنويم الاجتماعي الذي يخضع له الفرد بفعل قيود وضغوط المجتمع وأعرافه، كما وظف مفهوم العقل الباطن وما يكبت فيه من عقد لبناء نظريته في ازدواجية الشخصية العراقية، وغير ذلك. وقد أشار بوضوح إلى أن النفس البشرية، وما يتكون حولها من شخصية، هي صنيعة الجماعة أو صورة منعكسة عنها. وقد دعا في تلك المحاضرة، وفي تلك المرحلة التي وصفها بالعصيبة إلى فهم نفسية الشعب العراقي وكيف تنشأ شخصية الفرد فيه، وذلك لكي نعرف كيف نقوده أولا، وكيف نسير به قدما في مجالات الحياة الجديدة ثانيا. وقد دعا إلى التركيز على عيوب الشخصية العراقية وسلبيات المجتمع العراقي وذلك لإصلاحها بدلا من الإنشغال بالتغني بالحسنات والماضي التليد (353).

وفي هذه المحاضرة المبكرة طرح ولأول مرة في محاضرة عامة جانبا من آراء فرويد حين قال:
( يقول فرويد وأتباعه من علماء التحليل النفسي إن الإنسان إذا أحبّ شيئا حبّا شديدا وكبت هذا الحبّ في عقله الباطن، فإنه قد يلجأ في سبيل التنفيس عن هذا الكبت، إلى الشغب وشدة الانتقاد والأعتراض ضد نفس الشيء الذي يحبه. انظر إلى سلوكنا حين نتعصب ضد أشياء أو نستعرض أشياء نكرهها ولا ننفك نشنّع عليها، فإن أغلب الظن أننا في عقلنا الباطن نحس ميلا مكبوتا نحو هذه الأشياء نفسها ) (354).

أوّل من طرح مفاهيم التحليل النفسي ضمن سياقات اجتماعية:

وفي هذه المحاضرة أيضا طرح الوردي – ولو بصورة مختصرة – مجموعة من مفاهيم التحليل النفسي مثل: العقل الباطن، التنويم المغناطيسي، عقدة النقص، التعويض، الكبت، الغريزة، الإسقاط، التقمص، وغيرها. وكلها طرحها ضمن سياقات أفكاره الاجتماعية الجديدة آنذاك، حتى ليجعلنا نزوعه ذاك الذي استمر طول حياته نتفق مع الباحث ( حميد المطبعي ) في استنتاجه الذي طرحه أمام الوردي ووافق عليه الأخير، في أن جهد الوردي كان أقرب إلى دائرة علم النفس الاجتماعي منه إلى حقل علم الاجتماع الدقيق.

لكن الاستيعاب الدقيق والعميق لفرضيات وقواعد ومكتشفات نظرية التحليل النفسي – الفرويدية خصوصا – جاءت في كتاب الوردي اللاحق: ( خوارق اللاشعور – 1952 )، ففي هذا الكتاب توفّر الوردي على فهم شامل ومقتدر للثورة الفرويدية والقفزة العظيمة التي حققتها في مسار الفكر البشري. ويهمنا القول أن بعض المفكرين في الغرب قد اعتبروا الفرويدية اللطمة الثالثة التي توجه للنرجسية البشرية. فقد كانت اللطمة الأولى قد وجهت من قبل كوبرنيكوس. فبعد أن كان البشر ولمئات السنين مقتنعين بأن أرضهم هي مركز الكون التي تدور كل الكواكب الأخرى حولها، جاء كوبرنيكوس ليثبت أن الأرض ما هي إلا جرم صغير جدا في هذا الكون الكبير ويدور حول الشمس، فأصاب النرجسية البشرية الجغرافية إذا جاز الوصف بشرخ كبير. أما اللطمة الثانية فقد وجهها ( داروين ) من خلال نظريته في ( أصل الأنواع ). فبعد أن كان الإنسان مقتنعا بأنه أرقى مرتبة من كل الكائنات وأنه مركز كل السلالات وأنه بناء الله على الأرض جاء داروين ليقول إن الإنسان ما هو إلا حلقة بسيطة من بين ملايين الحلقات الحيوانية، فأصاب النرجسية البشرية النشوئية بطعنة هائلة. أما اللطمة الثالثة فقد جاءت على يدي ( سيجموند فرويد ). فقد كان البشر مقتنعين تماما ويتفاخرون بقناعتهم في أنهم يتحكمون بأنفسهم وبمقدراتهم وبالعالم المحيط بهم بعقلهم، هذا العقل الذي يجعلهم سادة المملكة الحيوانية، إلى أن جاء فرويد ليعلن أن هذا العقل الذي نتفاخر به هو خدعة وأن الذي يقودنا هو العقل الباطن الذي لا نشعر به، فمزق بذلك النرجسية البشرية العقلية إذا جاز الوصف.

وقد كانت واحدة من المساهمات الفكرية الريادية الكبرى للوردي في الثقافة العراقية والعربية هو أنه أدخل مفهوم العقل الباطن ووظفه بصورة عملية في المجالات الحساسة من حياة المجتمع العراقي. فلم يبق جانب معرفي في الثقافة العراقية تقريبا إلا وتناوله الوردي من هذا المنطلق وتأثيره فيه: الدين، السلوك الفردي، التعصب، الطقوس، الخارقية، السياسة والتحزب، الصراع الطائفي، النقد، صراع الخير والشر، كتابة التاريخ، الحب، الشخصية، الفلسفة، القضاء، وغيرها الكثير الكثير.

جعل مفاهيم التحليل النفسي "شعبيّة":

ولعلّ من الأمور الهامة التي برع فيها الوردي واستعصت حتى على الكثيرين من المختصين في التحليل النفسي في الغرب هو المنحى التبسيطي الذي سار عليه في عرض مفاهيم ومصطلحات هذا العلم الشائكة والمعقدة. فالوردي هو الأول والوحيد الذي كان يطرح مفاهيم التحليل النفسي الصعبة بأسلوب بسيط و " شعبي " جعل القراء يستوعبون هذه الأفكار ويتعلقون بها ويتداولونها في أحاديثهم اليومية. وقد انعكست إشاعة هذه المفاهيم على تناول هذه الأطروحات الجديدة والصادمة من قبل المثقفين العراقيين في مجالات فعلهم المختلفة كالقصة والشعر مثلا. فبعد جهد الوردي الواسع والريادي هذا بدأ استثمار هذه المفاهيم في الأدب العراقي يتحول من الفهم الفج إلى الاستيعاب المتعمق والذي انعكس على تصاعد مهارة الكتّاب في توظيف تيار اللاشعور في القصة القصيرة على سبيل المثال.
يؤكد الوردي أولا على أن نظرية العقل الباطن على علاتها قد أحدثت انقلابا عظيما في تاريخ الفكر البشري وأن فرويد قد أسدى للبشرية خدمة لا تقدر بابتداعه لنظرية اللاشعور. فقد كان المفكرون قبل فرويد متأثرين بالفلسفة القديمة التي كانت تؤمن بالعقل الظاهر كل الإيمان وتعتبره المسيطر الأكبر على جميع تصرفات الإنسان. فلم يكن يخطر ببالهم أن هنالك في باطن النفس منطقة غير واعية تعمل وتؤثر من غير أن يشعر بها الإنسان. وعلى هذا كانوا يفسرون كل حركة أو سكنة من سلوك الإنسان تفسيرا منطقيا مستندا على الوعي والتفكير. فإذا عازهم السبب المنطقي لعمل من أعمال الإنسان اخترعوه له اختراعا وتعسفوا في إثباته تعسفا..
وأخيرا جاء فرويد فألقى قنبلته الهائلة قائلا:

أن للإنسان عقلين: ظاهر وباطن، وأن أغلب أعمال الإنسان مسيّرة بعوامل منبعثة من العقل الباطن الذي لا يشعر الإنسان به ولا يدري ماذا يحدث فيه ) (355).

اختلف مع فرويد حول مكوّنات العقل الباطن:

ويرى الوردي أن من الممكن اعتبار نظرية فرويد نقطة تحول في تاريخ الدراسات النفسية حيث بدأ عدد كبير من الباحثين الأخذ بنظرية العقل الباطن رغم اختلافهم مع فرويد على محتويات هذا العقل. والوردي ممن اختلفوا مع فرويد في هذا المجال كما رأينا فالوردي من مؤيدي الباحث ( مايرز ) الذي وصف العقل الباطن بأنه يحتوي على منجم من الذهب وكومة من الأقذار أيضا.

وأعتقد أن أهم نتائج توظيف الوردي لأفكار الوردي في الثقافة العراقية هو تحويلها وفق منهجه التبسيطي الرافض لأفكار الأبراج العاجية إلى مادة ثقافية " شعبية ". لقد عُرف التحليل النفسي بتعقيدات مصطلحاته وتراكب مفاهيمه، وفي ذلك تبرير ينبغي تناوله ويتمثل في أن العلوم انفصلت تدريجا عن الفلسفة منذ القرن الثالث عشر، فقديما كان الفيلسوف فيلسوفا وعالم رياضيات وطبيبا وخيميائيا وشاعرا وفيزيائيا و... إلخ. وكان علم النفس آخر العلوم التي انفصلت عن الفلسفة في منتصف القرن التاسع عشر مع قيام ( فونت ) الألماني بتأسيس أول مختبر نفسي تجريبي. ولكن، رغم ذلك، ما زالت إلى الآن عالقة الصورة النمطية للطبيب النفسي في أذهان المتلقين وحتى المخرجين السينمائيين. ففي كل عمل فني يتناول المشكلة النفسية نجد الطبيب النفسي يُصور بلحية طويلة كثّة وغليون غليظ ونظارات سميكة جدا وهي من بقايا صورة الفيلسوف.. وينتهي المشهد بأن الطبيب النفسي يبكي والمريض الذي جاء شاكيا، يمسك برأسه ويهدئه ويمتص خيبته وحرقة إحباطاته. وكل ذلك من بقايا الفلسفة التي علقت بثوب التحليل النفسي.

في العراق جاء الوردي ليبسّط هذه المفاهيم المعقدة بطريقة شديدة التوضيح حتى ليخيل للقاريء أن ما يتحدث فيه الوردي هو عبارة عن حكاية شعبية وليس إشكالية علمية ترتبت على أسسها أطروحات الحداثة وما بعد الحداثة واستثمرها رولاند بارت و ميشيل فوكو و جاك دريدا وغيرهم في صياغة وبناء أفكارهم ونظرياتهم.

إن الوردي يحقق هنا أفضل أنموذج للتعبير عن أفكاره في اللغة العلمية الثرية والمبسطة مقابل اللغة المتعالية والمربكة بلعبها اللغوي. الوردي – ويبدو لي أنه الريادي المتفرد في الوطن العربي في هذا المجال - يتحدث عن موضوعات الإحباط والكبت والنقل – transference واللاشعور وهي من المفاهيم الأساسية والمعقدة في العقيدة الفرويدية، فيقدمها بصورة مثال بسيط يشرحه بكلمات سهلة بعيدة عن التعقيد. يقول الوردي:

( فإذا أهانك رجل أو اعتدى عليك بحيث لم تستطع لظروف خاصة أن ترد الإهانة عليه، دخلت رغبة الإنتقام آنذاك في عقلك الباطن وبقيت هنالك كامنة تحاول الظهور والتنفيس عن ذاتها بشتى الصور والأساليب. فأنت تصبح إذن مسيّر من حيث لا تشعر برغبة مدفونة في أعماق نفسك. ولعلك قد تنسى حادثة الاعتداء إذ هي ربما جرت في أيام صباك وسُحبت عليها الأيام ذيول النسيان، ولكنك تبقى رغم ذلك متأثرا بها تأثرا لاشعوريا. فلا تكاد ترى رجلا آخر له شبه بذلك الذي أهانك أو اعتدى عليك حتى تشعر بكراهته والميل إلى الانتقام منه. فإذا سُئلت عن سبب كراهتك له من دون معرفة سابقة له ربما كان جوابك: ( إنك تكرهه من الله ). إنك بذلك تنسب إلى الله ظلما تقوم به أنت بتأثير عقلك الباطن الدفين) (356).

وفي التفاتة شديدة التميز في كتابه: ( الأحلام بين العلم والعقيدة ) يطرح الوردي اعتراضه على ترجمة أسماء مكونات الجهاز النفسي ( طوبوغرافية الجهاز النفسي ) إلى اللغة العربية ( كما ترجمها علماء مصريون مشهورون في علم النفس والطب النفسي مثل: مصطفى زيعور ومصطفى زيور ومحمد عثمان نجاتي وصلاح مخيمر وعبده ميخائيل رزق وغيرهم )، فهم قد أطلقوا على الذوات الثلاث التي تتكون منها النفس البشرية حسب نظرية فرويد أسماء: " الهي والأنا والأنا الأعلى ". وهي – كما يرى فرويد – ترجمة لغوية حرفية لمصطلحات فرويد. وهي غير وافية بالمرام. والوردي يرحج تعريبها على الوجه التالي:

(1) الذات الحيوانية
(2) الذات البشرية
(3) الذات المثالية

وهناك خلاف كبير بين موقف الوردي وموقف معلم فيينا من موضوعة محتويات اللاشعور. فالأخير كما قلنا في موضع سابق اعتبره – حسب وصف تلميذه المنشق " كارل غوستاف يونغ "- مكبا للنفايات أو – في أفضل الأحوال – سلة للمهملات، ولكن الوردي يبين أن اللاشعور مخزن فاعل يشتمل على جوانب سلبية مثلما يشتمل على جوانب إيجابية. فأما الجوانب السلبية فتتمثل في:
1-التعصب التقليدي
2-الاتجاه العاطفي ويقصد به ميل الإنسان إلى النظر في الأمور بنظرة تحيّزية تبعا لما يشعر به من عاطفة إيجابية وسلبية نحوها
3-الدافع المصلحي
4-الأنوية ويقصد بها شعور الإنسان بـ " الأنا " وسعيه الدائب نحو رفع مكانتها في نظر الآخرين
5-التجارب المنسية
6-الرغبات المكبوتة

فرادة في مقهوم المحتويات الإيجابية للاشعور:

\أما الجوانب الإيجابية من مكونات اللاشعور فتتمثل في أمور عظيمة في حياة الإنسان، منها أن معظم المخترعات الكبرى والأفكار المبدعة التي ساعدت على تطوير المجتمع البشري عبر التاريخ هي نتاج ومضات خاطفة انبثقت في لاشعور بعض الأفراد بين حين وآخر. وكذلك يمكن القول إن معظم الناجحين في الحياة قد استمدوا نجاحهم من استثمار مواهبهم اللاشعورية على وجه من الوجوه. وباختصار فإن المحتويات الإيجابية للاشعور تتمثل في صنفين رئيسيين: المواهب الذكائية والمواهب الخارقية. وفي هذه التركيبة من محتويات اللاشعور يختلف الوردي اختلافا كبيرا عن وجهة نظر فرويد. وقد أسس الوردي على وجهة نظره هذه الجانب الأكبر من جهده النظري في تحليل الظواهر الإجتماعية كما سنشير إلى ذلك في موضعه. ويهمني هنا أن أنقل رأي الوردي في الكيفية التي تميت بها الطريقة التدريسية " العقلانية " التقليدية في المدرسة العربية مواهب الطلبة الصغار، وهي طريقة مازالت قائمة حتى يومنا هذا، وتعززها بعض المواقع على الأنترنت، فيقول:

((ومن المخجل حقا أن نجد معلمي اللغة العربية في مدارسنا يدربون تلامذتهم في فن الإنشاء والكتابة تدريبا مغلوطا، فهم يعلمون التلاميذ كيف يراعون التسلسل المنطقي في كتاباتهم ويهملون أثر الدوافع اللاشعورية فيها، فتراهم يضعون لانشاء المقالة نموذجا قياسيا متكلفا يبدأ بالديباجة وينتهي بالخاتمة، من غير أن يلفتوا أنظار التلاميذ إلى أهمية وحي الخاطر الذي لا يستسيغ ديباجة ولا خاتمة، ولا ينصاع لقياس ولا تسلسل.. ينبغي أن ينتبه المنشيء إلى الحقيقة الكبرى في فن الكتابة: وهي أن الإبداع فيها يأتي عفو الخاطر – أي نتيجة الانبثاق اللاشعوري. وكل شيء يعرقل عفو الخاطر يؤدي بدوره إلى قلة الإبداع) ( 357).

الوردي: (51) أول عالم اجتماع عربي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى