الاثنين ١٤ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

تحليل ديوان «المحبرة» للمبدع الكبير جوزف حرب

ملاحظة: حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً
قصيدة حبّ للأرض:

العروس الحزينة
(آهِ يا ايّتها الأرضُ التي قدْ
جئتُ منها، وبها من بعد موتي سوف أبقى،
إنّ ما قد قاله الغيبُ
إهانهْ،
وخيانهْ. )

في هذا القسم "قصيدة حبّ للأرض"، تستمر دوّامة الأسئلة من جديد حتى أن الشاعر يفتتحه بقصيدة عنوانها "أسئلة"، وهي قصيدة مزحومة بالتساؤلات المشككة في معنى وجود الشاعر والغاية من مجيئه. وأغلب هذه التساؤلات معروض في صيغة حقائق ووقائع سوف تطويها يد الفناء، ولهذا فهي محض سؤال عابرفي دفتر الزمان. ولكن ما ينضاف هنا هو أن الشاعر يخبرنا بأن هذه الأسئلة قد حصلت على إجابات من الدين، ومن العلم، ومن الكل.. لكن.. يستدرك فقد تعطّل جواب الشعر:
(وإنّيْ الشعرُ مُرٌّ،
وحزينْ.
طُفنَ حوليْ، حسرات الروحِ، وانضحنَ
بشمعٍ جسديْ، علّقننيْ
فوق صليبيْ.
يا أنا، يا أيها الصبحُ الذي
قد ألبسته الريحُ
قمصانَ الغروبِ. – ص 1540).

الشعر نفسه قد انثكل وصار مفزوعاً من شبح الموت الذي لا يُهادن. فما الذي يفعله الشعر وهو يعلم أنّ الفناء مقدرٌ بصورة مطلقة ؟ وما الذي يفعله الشاعر حين يعي الموت كإشكال وكمشكلة لا مفرّ منها؟

إن واحداً من أهم أفعال الشعر المقاومة للفناء هي شحذ الذاكرة الطفلية عند حضور المثكل. وكأنّ الشعر بهذه الحركة التراجعية السريعة جداً نحو الطفولة، يعيد الفرد المهدّد بقطار الذكريات إلى منابع البدء، ومن عادة قطار الذكريات أنه يتحرّك عكس اتجاه قطار الموت السريع. في "كنتُ طفلاً" (1541 – 1543) تحسّ بلمسة من تساؤلات إيليا أبي ماضي الموجعة في قصيدته الشهيرة "لست ادري". هنا يستذكر الشاعر أمّه الأرض، وكيف كانت جميلة جدا في عيني الطفولة، وساحرة. كانت حياته الصغيرة عبارة عن مفردات محدودة أنيسة وبريئة: طفل، وعصفور، ومرمى شجر، وماء. ماء يجري برقة ونعومة.. ويتمنى أن عمره كان يجري مثل هذا الماء نقيّاً ومتجدّداً بلا نهاية.. يجري..ويجري حسب. وعلى مفردة "الجريان" هذه، وجذرها "يجري"، يشيد الشاعر بنيان قصيدته التالية "ويجري" حيث يستهلها بنفس استهلال النصّ السابق: "كنتّ طفلاً". طفل يدهشه جري الأشياء الذي لا يتوقف.. هذه الحركة الدؤوب في كل شيء هي عنوان الحياة. والحركة هي واحدة من سبل سيطرة الطفل على حركة الزمان. في تلك الأيام، أيام الطفولة، كان هذا الطفل، وكل طفل، يشعر بأنه مركز الكون، وما حركة الاشياء والموجودات والعالم إلا انعكاساً وارتباطا بجسده وبحاجاته. ولا شيء حوله متوقف أو ثابت أصلاً. الكلُّ في حركة دائمة: العشب، النهر، الأشرعة، الأرض، الدمع، النبع، السنابل، كلّ شيء.. كلّ شيء.. والوحيد الذي لم يكن يشعر بحركة جسمه هو الإنسان الطفل باعتباره المركز، والمركز لا يتحرك لأنه ستهوي عندها كلّ الأشياء المرتبطة به. ولكن هذه المشاعر القويّة بمركزية الذات سوف تنتهي يوما، لتذهب سكرة الجريان، وتأتي فكرة الفناء:

(كنتُ
طفلاً،
وكبرتُ،
بين مجدافَيْ خريفٍ، وشراعٍ
فوق أيدي الريحِ
صرتُ.
دهشتي زالتْ. وقد أدركتُ أنْ
لا شيءَ يوماً
كانَ
يجريْ
غيرُ
عمريْ. – ص 1550).

أمّا ثاني الأشياء التي يقدّمها الشعر للشاعر ولنا في مواجهة الفناء فهو هذا الإحساس بالقدرة الكلّية التي تحدّثنا عنها كثيراً. هذه الحرّية اللامحدودة في الخلق وإعادة التشكيل التي لا تضاهيها إلّا حرّية الطفل. طفلك يقول لك سوف أصعد على القمر.. وشاعر فيروز يقول: "حبيبي بدّو القمر" ! وفي قصيدة "الحرّ" (ص 1551 – 1557) يعرض الشاعر هذا الهاجس الذي داعب مخيلتنا جميعاً أكثر من مرة في حياتنا، وهو الإحساس بأن الكون قد خّلق بروح طفل مبدع. إنّ روح الطفولة – كما قلنا سابقاً – ضرورية لكل مبدع.. لكل خالق. إنّ أيّ عمليّة خلق تبدأ باشتراطات قِبلية ومحدّدات مسبقة لن تكون عمليّة خلق أبداً. عمليّة الخلق الحقيقية تبدأ بمبادرة الروح الطفلية البيضاء التي تبدأ الخلق من لحظة صفر الرغبة في الخلق. ومن عادتي أن أوجّه اسئلة مباغتة لأفراد عائلتي الموجودين بقربي مرتبطة بالنص الذي أحلّله. سألت زوجتي ما هو أول شيء تفكرين بخلقه لو صرت إلهاً قالت: الماء طبعاً. وسألت حفيدي ذا الثلاث سنوات. ما هو أهم شيء في الدنيا ؟ قال: ماما.. حليب. ويبدو أن الخلق مرتبط دائماً ببراءة الماء التي هي الطفولة عينها.. والماء هو المكوّن "الصفر" والكلّي في الطبيعة:

( كلُّ شيءٍ
هو ملكيْ.
إنّيَ الخالقُ. في الكونِ خلقتُ
الأرضَ من رؤيا لطفلٍ. كلُّ طفلٍ خالقٌ. والأرضُ
والأشياءُ طينٌ بين كفّيهِ وماءٌ. كلُّ خَلقٍ خلفهُ
من ريشةِ الطفلِ يدانْ. – ص 1553).

ثمَ أن الطفل – والشاعر يستعيد هذه السمة في هذه القصيدة - لا يعرف من الزمان لا الماضي ولا المستقبل، واشتغال ثلاثي الزمان المرعب هذا: الماضي والحاضر والمستقبل هو الذي يحكم إطار صورة الفناء، إن الطفل يمتلك الحاضر فقط، ولذلك لا يعرف من الأفعال سوى صيغة "الأمر": كن.. فيكون. والشاعر يتذكر أنه كان يقول للشيء " طرْ: فيطير ناي رعاة في النسيم، واخضرّ: فيخضرّ العريش. وما هو فرق فعل الساحر عن هذا الفعل، بل ما هو فرق عمل الآلهة:
(- شمسُ، صيري ذهباً في الصبحِ
تصبح ذهباً.
 ثمّ اغربيْ في لونِ رمّانٍ،
فتغدو
أرجوانْ.
ولقد مارستُ
سحر السحرهْ
– أيّها الغيمُ امطرْ الآنَ هنا
يُمطرْ
– وصرْ أخضرَ، واذهب عالياً في الحقلِ
يخضرُّ،
ويصعدْ،
ثمّ يصبحْ
شجرهْ. – ص 1554) ,

كلّ شيءٍ كان ملكه وطوع يمينه. وأشعر – بسبب خبرتي بمنجز جوزف حرب – أنه قد أطال رحلة العودة إلى الطفولة، واستعادة أيامها المجيدة. فمن عادته أن يجهض أي هناءة بإحضار شبح الفناء، ويخرّب أي لحظة فرح بإقحام الحسّ الفاجع باقتراب وقع خطى المثكل. لقد أطال نشوتنا بالطفولة المنعّمة مسافة نصّين أو ثلاثة، وها هو يعيدنا إلى حضرة الموت بقسوة، ويثير في نفوسنا إحساس أليم بالفقدان الوشيك.. فتأمّلْ ما يتأمّل:
(أتأمّلْ
هذه
الأرضَ
بروحٍ ملؤها الكونُ،
وأيامٍ قليلهْ
بعدها يا
جسدي المتعبَ
أطويكَ وأرحلْ.
أعجبتني هذه الأرضُ كما شاهدتها،
فهي جميلهْ.
لا جميلٌ عندما تعشقهُ إلّا تلاقيهِ
وقد أصبحَ
أجملْ. – ص 1558 و1559) (نصّ "ذوبان").

ثم يبدأ يندب خراب هذه الأرض الجميلة التي عاث بمقدراتها اللصوص، ويحذّرها من الكهّان الذين يستخفون بقيمة الأرض، ويعجلون تركها من قبل الإنسان الذي ينبغي أن يتعفّف عنها. ولكن الإستجابة لوصايا الكهّان في نظره.. ليست إهانة للأمومة الأصل التي جئنا منها حسب.. بل خيانة:

(آهِ يا ايّتها الأرضُ التي قدْ
جئتُ منها، وبها من بعد موتي سوف أبقى،
إنّ ما قد قاله الغيبُ
إهانهْ،
وخيانهْ. – ص 1564).

ثمّ يحضر الموت بنفسه في القصيدة الأخيرة الطويلة من هذا القسم: "المزامير" (ص 1575 – 1616) وهي مزامير الموت الذي يعلن خوفه منه في الإستهلال مباشرة:
(خائفٌ قلبي من الموتِ،
ومِنْ
ما بعدهُ.
إنْ جنةً كانَ،
وإنْ كان جحيماً،
أو تراباً. (...)
لستُ أيا موتُ
بمحتاجٍ لأن تأتي لقتليْ. إننيء ميْتٌ من الفكرةِ
من أني سأمضي.
وسامضيْ
بعدَ أن أنهيْ سنينيْ، حاملاً
ذاكرةَ الماضيْ، ورؤيا الزمنِ الآتي،
وأجراسيْ، وفيضيْ.
مثلما يحملُ بشرى المطرِ المقبلِ
في مركبِ غيمٍ،
ريحهُ،
مجذافهُ،
ملّاحُ ومضِ. ص 1575 و1580).

وهنا تتجلى واحدة من محاسن الشعر الباذخة والمؤثرة في إعداد النفس البشرية لمواجهة الموت، وتتمثل في توفير "تعدد" الميتات. فالرعب المؤسس في النفس البشرية من المثكل يقوم على عدّة حقائق صخريّة من أوّلها أننا نموت مرة واحدة وإلى الأبد. وفي "المزامير"، وفي كل نصوص "المحبرة" نشعر بفوّة بأننا نموت مع الشاعر ميتاتٍ متعدّدة ومتنوّعة، وبين ميتة وميتة هناك فسحة لاستعادة الذكريات ومباهج الأرض الأم وعطاياها من جديد، وكأن الشعر "محبرة" هائلة لا تنفد نغمس فيها ريشة تصوير لحظة الختام. ولعلّ أروع الميتات هي تلك الميتة الأسطورية التي حقق سبقها الإله الإبن القتيل الذي اعتقد المثكل بأنه قد أفناه، في حين صار ممتداً ولا نهائياً ومتجدداً في أحشاء الأرض:
(وسأمضي
ضاحكاً منكَ طويلاً. إنّني في
الزرعِ كلّي، فإذا نقّيتُ كلّي بعدَ أيّامِ حصاديْ
بقيَ القمحُ، فخذ بعضيْ، ولكنْ،
أيّها الموتُ
لأرضيْ
خلِّ
بعضيْ. – ص 1581)

ومن محاسن الشعر في الإلتفاف على حقيقة المثكل هو الإختيار" ؛ اختيار زمان ومكان الموت. فسرّ رعبنا من الموت هو عامل اللاتوقع فيه. فما تدري نفس في أي أرض تموت. والشعر كما في نصّ "المزامير" وأغلب نصوص "المحبرة" يتيح لنا فرصة "الإختيار" الحرّ والواسع في تحديد موعد موتنا ومكانه. كما أننا نرهب الموت أيضاً لأننا نعرف تماماً بأننا نموت "وحدنا"، ولا أحد سيموت معنا. والشاعر وفّر لنا إمكانية أن نموت "سويّة"، مثلما خلّصنا من شعور داهم يكتسحنا احياناً وهو الشعور وكأننا سوف نُدفن أحياء. (وحينما أفكّر في أنني لا محالة "مائت"، وأنني لا بدّ من أن أموت، "وحدي"، فإن الجزع سرعان ما سيأخذ بمجامع قلبي، حتى لأكاد أتصوّر نفسي ميتاً حيّاً في أعماق قبر ساكن مظلم. وليس أقسى على الإنسان من أن يشعر بأنه سيموت وحده، وأن العالم سيستمر من بعده، دون أن يحفل بإيابه إن في كثير أو في قليل. ولكننا لا نخشى الموت لمجرّد أنه واقعة فرديّة أليمة تزيد الوحدة من قسوتها، بل إننا نخشاه أيضاً لأننا لا نستطيع أن نتصوّر أن كل ما في الموت موت. ومعنى هذا أن خوفنا من الموت – كما لاحظ "إدغار ألن بو" – إنما يعبّر عن فزعنا من أن نُدفن أحياء، وكأننا نخشى أن لا يكون موتنا موتاً كاملاً، أو كأنما نحن نتصوّر أننا سنبقى أحياء حتى في موتنا نفسه. وإذن فإن خوفنا من الموت قد يرجع في جانب منه إلى أننا نتصوّر أنفسنا أمواتاً أحياء، وكأن الموت ليس موتاً محضاً، بل شعوراً حيّاً بالفناء ) (112).

وهذا ما يتجسد كلّه في مشهد الختام الإحتفائي الرائع حيث الميتة "الجديدة" و"المُضافة" إلى الميتات الأخرى التي حفل بها النص، وحيث التوقيت الحرّ – في الزمان والمكان - لانطلاق رحلة المغادرة الأخيرة، وحيث يصبح الموت مجرد "عودة" واستراحة في أعظم فردوس في الوجود ؛ الرحم الأمومي: رحم الأرض، وأنامل الأم الرشيقة الحانية والمجرّبة تعدّ ابنها لولادته الثانية بالعودة المباركة الخلاصية إلى رحمها، وحيث الطريقة التي تليق بإله سيغيب ويكمن في روح العشب، وحيث – وهذا الأهم – انتهاء لعنة الخوف ومجيء نعمة القبول والتصالح والهدوء النفسي العميق. وهذا ما لا يحققه الغيب ولا العلم ولا الفلسفة، بل يحققه الشعر على يدي الشاعر الذي أنضج قلق الموت أدواته فرسم لنا أبدع مشاهد الرحيل في الختام:

(ليْ سماءٌ فيكِ. قاتلتُ، ولكنْ،
سوفَ أمضيْ قبلَ أن أدخلها.
أجملُ ما جئتُ
لهُ، أنّيَ قدْ متُّ على بابِ
سمائكْ.
جمّلينيْ،
واغمريني بالينابيعِ. اجعليْ نوميْ كحبّاتِ
الحصى في الماءِ. ولينهلَّ فوقي ناعماً
شمعُ
بكائكْ.
واجعلي قبريَ تحتَ السروِ مسقوفاً
بمنديلينِ في
حقلِ
مسائكْ. – ص 1615 و1616)

وأعتقد أن الأرض مدينة للشاعر بأن توفّر له أعظم أشكال العودة، فهو الوريث الأمين والإبن المخلص الوفي لها الذي ثبّت مهابتها كعروس خالدة على عرش الكون. تُرى هل تحتفظ ذاكرتنا من العلماء والفلاسفة بلمسة وفاء واحدة مثل هذه التي يقدّمها الشاعر لأمّه الأرض:

(إنّما ذا الأفقُ بابُ البعدِ
يا أرضُ انفتحْ
فانهضيْ،
سجّادةَ الأزرقِ قدْ مُدّتْ. عليكِ
انسدلَ الأبيضُ. فتّحتُ لكِ شمسيّةً
قوسَ قزحْ. – ص 1613).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى