الثلاثاء ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٦
بقلم كريم مرزة الأسدي

الإيقاعُ، بحورُ الشعرِ تنغّمهُ...!!

الإيقاع ظاهرة طبيعية تعني التسلسل المنتظم لمجموعة من العناصر، فنبضات القلب، ودقات الساعة، وشعر الشعراء، وضربات الصفارين، ورقص الراقصين، والرسوم المتناظرة للرسامين والمهندسين، حتى الروائح الشمية، والمناظر العينية، والإحساسات اللمسية، والمذيبات الذوقية، كلـّها إيقاعات، إنْ جاءت متسلسلة زمنياً بإنتظام، أما إذا تدخل العقل والفكر والإبداع بين ثناياها، فعندها تكون الإيقاعات غير تامة الإنتظام، فتصبح فنّاً، ولهذا يرى عالم الجمال (هو جارت): إن القاعدة الثابتة في الفن هي تحاشي الإنتظام، ويقصد التام.(1)

نقول في هذه الحالات ترتقي الإيقاعات إلى درجة أرفع، وهيئة أعقد، فتكون متباينة بتناسق بديع، لتشكل الفنون الجميلة المختلفة، ومن هذه الفنون الشعر، وعلى الشعر بنى العروضيون عروضهم، وبسط (ابن فارس ) هذه العلاقة بقوله: إنّ " أهل العروض يجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أنّ صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة " (2)، ونحا السيوطي نحوه في هذا المجال.

فإذن الإيقاع الشعري الموسيقي العربي ( الكمي )، هو الأصل والفصل قبل العروض وميزانه، والترقيم وأفنانه، والشعر وألحانه، شرع به العربي في ترحاله بـ (الحداء )،أغنية الصحراء، وأعقبه بـ ( النصب ) بنغماته الرقيقة، وأشجانه العذبة التي تتوالى بفواصل زمنية عند الجهد والهمِّ والإعياء، وذكره النابغة بقوله: "كليني لِهمٍّ ٍّ يا أميمة ُ ناصبِ"، ثم هلـّت ( الركبانية )، إنشودة المسافات الطويلة الجماعية، بترنيمات فطرية، ونبرات عالية، وإيقاعات منتظمة، مع بعض الآلات الموسيقية،النافخة والوترية، ومن الإيقاعات الغنائية الاخرى ( القلس )، وهذا مصحوب بالدف والضرب والرقص،واللعب بالسيوف والريحان، والضرب بالأيدي على الصدور، والتهليل والإنحناء تعبدا ، فالعادة قديمة بادت ثم سادت !، وذكره الكميت قائلاً " غنّى المقلّسُ بطريقاً بأسوار ِ" ومن كلمة بطريق - وهو رجل دين مسيحي - نستدل أنّ هذا النوع موروث ما قبل الإسلام، ويبقى عندنا ( التهليل )، وهو من الشعائر التعبدية البسيطة من دون بهرجة، فلا رقص و لا دفّ! ولا سيف، قوامه السجع المرتل بصوت مسموع للتلبية، أخذ الطابع الجماعي، و( التغبير ) أيضا ظاهرة تعبدية قديمة انقرضت، مثله مثل ( التهليل )، ولكن أكثر منه وأقل من القلس تعقيداً، وملامح الغبار توسم ناشديه عقبى التمريغ بالتراب، ومن غباره التغبير !، وأكثر هذه الإيقاعات تطورا في ثباتها واستقرارها بعد السجع المنتظم لما سبق، يأتي ( الرجز )، الذي يُعتبر أبسط أنواع الشعر نظما وسهولة (3)، ولكنه ليس الأساس لتطور الشعر العربي، فالشعر الجاهلي وصلنا ناضجاً خصباً غنياً في تجربته ومنهجه وإيقاعه وصوره، ولا ندري متى وكيف تطور سوى أنّ امرأ القيس ( 500 - 540 م )، أشار إلى ابن حذام الذي سبقه، ولا نعرف شيئاًعن هذا الابن حذامِ:

عوجاً على الطلل المحيل لعلّنا *** نبكي الديار كما بك ابن حذامِ ِ(4)

ورأى حسان بن ثابت ( ت 54 هـ-674م )، شاعر الرسول ( ص )، أنّ الغناء هو المقياس الإيقاعي، والمجال الروحي للشعر:

تغنَّ بالشعر إمّا كنت قائله *** إنّ الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ

وفذلكة الأقوال نقول: الشعر الشعر هو الإبداع، والشاعر الشاعر هو المبدع، والموهبة تكاد تكون مكتملة، وعلى ركن هذا وأساس ذاك، وضع العرضيون عروضهم، وقاسوا بميزانهما أوزانهم، وغرفوا من بحرهما بحورهم، والعروض علم يعتمد على عقول علمائه وتقنيناتها، فعندما يتمرد عباقرة الشعر على أوزانه، يجب أن يسايرهم جهابذة العروض على جديدهم الجميل الرائع، لأن دائرة الخيال الفني، وموهبته الإيقاعية أوسع من دائرة الأدراك الحسي العقلي وتفعيلاته العروضية العربية، ومقاطعه الأفرنجية، وهذا ليس تنازلاً لأصحاب النص النثري، فانا قد رضيت بالتمرد العبقري لأنه ولود، ونوهت بأبي العتاهية رائدهم الأول، ورفضت الرفض لأنه عقيم، والحقيقة أن الفراهيدي نفسه، وبكلمة أدق عصره لم يستوعب حالات التمرد أو الشذوذ في شعر من سبقه ومن لحقه، ويشير الدكتور جوادعلي في (مفصله ) إلى خروج بعض الشعراء الجاهليين عن قواعد العروض والنحو، ويستشهد بروايات تاريخية عن امرىء القيس، وقصيدة " عبيد الله بن الأبرص":

أقفرمن أهله ملحوب *** فالقطيبات فالذنوبُ

فهي من مخلع البسيط، قلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعيله أو زيادة. وفي قصيدة المرقش الأكبر:

هل بالديار أن تصيب*** لو كان رسمٌ ناطقا كلـّم
فهي من السريع، وقد خرجت شطور أبياتها على هذا الوزن، كالشطر الثاني من هذا البيت:
ما ذنبنا في أن غزا ملكٌ ***من آل جفنة حازم ٌ مرغم

فأنه من الكامل، ورووا اضطرابا وقع في شعر عدي بن زيد العبادي على النحو المذكور ، خرج فيه من السريع الى وزن المديد، وفي شعر غيره كذلك مثل نونية " سلمى بن ربيعة ":

إنّ شواء و نشوة وخبب البازل الأمون

فهي خارجة عن عروض الخليل (5)، ويواصل الدكتور استشهاده، ويتوصل إلى قوله: " وتستحق هذه الأمور وأمثالها أن تكون موضع دراسة خاصة، لما لها من أهمية في تكوين رأي علمي دقيق عن تطور العروض في الجاهلية،..." (6)

ربما يعود تغافل الفراهيدي لصرامة عصره، وميول مسامع أهله للبحور السائدة والشائعة والسالفة، لكل زمان دولة وشوؤن، وذوق وفنون، ولكل جيل من الأجيال نغماته المحببة، وموسيقاه المطربة، و ألحانه الشجية، وبحوره الطرية، ففي العصر الجاهلي ساد (الطويل) لجلاله وفخامته، ومن روائعه معلقات طرفة ولبيد وامرىء القيس، وظلت سيطرته حتى القرن الثالث الهجري، ثم تراجع عن مكانته، وفي عصرنا صعب مراسه، لازدواج تفعيلاته، فابتعد عنه أنصار الشعر الحر ( التفعيلة)، ومثله في هذه الخصائص المهيبة (البسيط )، ولكن أقل شيوعا منه في جاهليتهما،وعدهما حازم القرطاجني في (منهاجه) أعلى درجة البحور في الافتتان (7)، وترافقا في مسيرتهما حتى الإحيائيين، وفاقت صياغة الأخير على الأول لدى الرومانسيين في الربع الأول من القرن العشرين، ومن بعدهما يأتي عند العرب القدماء في ذيوعه (الوافر)، وهبطت منزلته في القرن الثاني الهجري، وعاد الى صدارته عند شعراء الرومانسية، ولم يتأثر به شعراء التفعيلة كسابقيه المهابين، ولكن الرجز وإن كان من أقدم البحور العربية المعروفة لارتباطه بحركة أقدام الأبل، وحدو البدوي على إيقاعها، لم يذع بين الجاهليين، وازداد رواجه في العصر الأموي، واستخدمت صياغته في الشعر التعليمي (الأرجوزة )، وأطربت تفعيلته المتكررة (مستفعلن ) السياب العبقري، فتوج بها أروع قصائده (إنشودة المطر):

عيناكِ غابتا نخيل ٍ ساعة َ السحرْ
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حينَ تبسمان تورق ُ الكروم
وترقص الأضواءُ..كالأقمار فــي نهرْ

أكرر البيتين، وانا أعرف معرفتك لهما، والأدرى بأنني طرقت مسامعك من قبل بهما،لروعة الجمال، وحسن الأفتتان، ونتقرب الآن إلى (المتقارب) الذي شغل نسبة عالية في العصر الجاهلي، ثم تراجع طوال العهود الإسلامية حتى تلاقفنته الفترة الرومانسية العربية الحديثة، ويتقدم ليصبح أكثر البحور دورانا في محيط رواد الشعر الحر، و(المتدارك) الذي بالكاد ولد في أحضان الأخفش وأهمله الشعراء لسرعة حركاته الإيقاعية الراقصة، تناؤب عليه الزجالون في زجلهم، ونظم على بحره الحصري القيرواني قصيدته الشهيرة:

يا ليلُ الصبّ متى غدهُ *** أقيام ُ الساعة ِموعدهُ

ونظم أحمد شوقي على هذاالمنوال معارضا (مضناك جفاه مرقده )، زاد الاهتمام به في العصر الحديث، ثم ازداد جدا في منظومات شعر التفعيلة، و(الرمل) كان شائعا في الجاهلية، وأصبح شعبيا في العصر العباسي الأول، يلجأ إليه أبو العتاهية في زهدياته، وأبو نؤاس في خمرياته،وتلاقفه الأندلسيون ليشدوا من خلاله موشحاتهم، وأخيرا نظم الإيحائيون بعض عقودهم منه، وزاودهم عليه الرومانسيون، وركن إليه رواد القصيدة التفعيلية المعاصرون، واستأنسوا بلطف نغماته، وإن سألت عن (الهزج)، ندر لدى الجاهليين، زاد في عصور الغناء العباسي، وعاد ليمثل المسرحيات الحديثة بلسان شخوصها، وعن (الخفيف)، فقد صار البحر الأول عند إسلامي الحجاز، وزاد عند شعراء الرومانسية، وإذا طلبت المزيد، فعليك بالدكتور سيد البحراوي و (عروضه ) (8)، وهذه النظرة العاجلة تفي بالغرض المراد بأن لكل عصر ذوقه الشعري المتميز، بل ولكل بيئة اجتماعية أوتشكيلة مناطقية أو جماعة ثقافية خصوصيتها الشعرية وميولها الإيقاعية، فالإيقاع الشعري ليس له قيمة ثابتة، و نغمة محددة، ورتابة واحدة في كل الأمصار والعصور، فالأيام تسير، والناس شتى، والليالي يلدن كل ّ عجيب، وللأذن ذوق رقيب، وللموروث جذر عريب!

(العروض)، وما استجد عن (الإيقاع) الشعري:

الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري (ولد في عمان 100هجرية /718م - توفي في البصرة 174هجرية \ 790م) (9)، واضع علم - ولك أن تقول صناعة لحاجته للتمرن - (العروض ) على أغلب الظن، أو مجدده على رواية ابن فارس (10) التي بخست الخليل حقه، لأن المعلومات وإن كانت متوفرة قبله، لم تصل الى درجة العلم المنهجي، والدراسة الواعية ،والقواعد الراكزة ، والاستقراءات الرائعة ، والصناعة الماهرة ، فالعصر المنفتح على مختلف الثقافات، وأجناس الناس، تفجر عن مدارس القياس في الفقه والنحو والعروض..لغربلة الشاذ والملحون، وصد هجمات الدخيل والهجين، ومهما يكن من سبب تسمية الأخير بالعروض، إمّا كي يعرض الشعر عليه ليعرف صحيح وزنه من مكسوره، أو نسبة لمكان بين الطائف ومكة وضع فيه خليلنا علمه المعلوم ، وقياسه المشهور، ولكن كيف ؟!

يقال: إنّ الرجل مرّ ذات يوم بسوق الصفارين، فطرقت مسامعه مطارقهم على الطست، (تن، تتن، تتتن...) فرجع إلى بيته، وراجع تدويناته وتقنيناته، وقايس ومارس، ووقع أصابعه، وحركها ولملمها، ولاريب أنه كان ذا ذهن رياضي تحليلي تركيبي، وأذن موسيقيه، وحس مرهف، وحافظة قوية، وربما قال مع نفسه: الشعر لفظ موزون مقفى ذو معنى، واللفظ صوت مسموع في الشعر، لا حرف مرسوم، والحروف بحركات وسكون، تتوالى بانتظام إلى حد ما، لتشكل الأنغام، وشبه بيت الشعِر ببيت الشعَر (الخيمة)، بأسبابها وأوتادها، وفواصلها، ومصراعيها...، وكما تعلم أن العرب لا تبدأ بساكن، فوضع أركان علم العروض أوزانه وتفاعيله، وسار على نهجه القدماء، رغم الإضافات والتعديلات الطفيفة، كالأخفش والجوهري والزمخشري والشيباني والمعري وابن جني وحازم القرطاجني وغيرهم، فتتركب أوزانه من شيئين، أحدهما مركب من حرفين (السبب ): إما متحرك أوساكن، وهو (السبب الخفيف) مثل لنْ ( /ه )، وإما متحركين، وهو(السبب الثقيل ) مثل لكَ ( //)، والثاني مركب من ثلاثة أحرف (الوتد): إما متحركين يتوسطهما ساكن، وهو (الوتد المفروق) مثل لات ( /ه/ )، وإما متحركين يعقبهما ساكن، وهو ( الوتد المجموع) مثل نعم ( //ه) (11)، فإذن أساس الإيقاع العربي - الذي يسمى مجازا الوزن - هما (السبب والوتد)، واذا أمعنت قليلا، سترى الوتد هو الأصل الذي أشتق منه السبب بشقيه، وما ثلاثة أسباب إلا وتدين، وتتردد هذه بما لها من كمّ ٍّ إيقاعي بفترات زمنية منتظمة ذات مقدار، ويخضع كمُّها للزحافات والعلل التي ترضاها أذن السامع المرهف، وتطرق الأغريق من قبل إلى مثل هذه الحالة إلى ما اسموه (الرتيم ) (12)، وتبعهم الأوربيون المعاصرون حالياً مستخدمين المصطلح نفسه، وسبق للزمخشري أن نوّه بذلك عند تعريفه للشعر العربي - إذا أستثنيا اللفظ - فالأشياء الثلاثة الأخرى، ويعني الوزن والقافية والمعنى: " الأمر فيها على التساوي بين الأمم قاطبة " (13)، وسنواصل المسيرة الموجزة للحالات المتجددة، والله الموفق.

(1) د. علي يونس: نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي.
(2) ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة ،تحقيق د صطفى الشويمي، وراجع السيوطي: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق وضبط محمد أحمد جاد المولى،-
(3) راجع: عبد الرحمن الوجي:الإيقاع في الشعر العربي.
(4) المصدر نفسه.
(5) د جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام )
(7) أبو الحسن حازم القرطاجني: منهاج البلغاء ومسيرة الأدباء.
(8).د سيدالبحراوي: العروض وإيقاع الشعر العربي.
(9) الخليل بن أحمد الفراهيدي (الفرهودي )الأزدي أبو عبد الرحمن: سيد أهل الأدب قاطبة في علمه وزهده، كان من تلامذة عيسى بن عمرو وأبي عمرو ابن العلاء، وأخذ عنه سيبويه والنضر بن شميل والكسائي الكوفي، وهو أول من استخرج علم العروض وضبط اللغة، وأملى كتاب (العين ).
(10) يرى ( أحمد بن فارس ) في كتابه ( الصاحبي في فقه اللغة ) إن أبا الأسود ليس أول من وضع العربية، ولا الخليل أول من تكلم في العروض، وإنما هذان العلمان كانا معروفين قديما، وتجددا على أيديهما.
(11) الزمخشري: القسطاس في علم العروض.
RYTHMOS(12).
(13) المصدر نفسه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى