الأربعاء ١٧ أيار (مايو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم توفيق العيسى

دعوة للعرس

لم أدرك حينها معنى هذه الاحتفالات والمبالغة فيها، في تلك الفترة كنت صغيرًا أستمتع بكل ما أراه، ولأن تاريخي كله لا يتجاوز بضع سنوات الخمس- الأولى لا أتذكر منها شيئًا- فقد اعتقدت أن ما أشاهده وأستمتع به في المناسبات عادة اجتماعية هدفها المتعة فقط.

لم أستطع فهم أمور كثيرة، فماذا يعني أن نحتفل "بالطهور"؟! ولماذا تزغرد النساء ويتقبل الرجال التهاني؟! أمن أجل…... يقام احتفال؟! لكن المتعة بالأجواء الاحتفالية كان مغريًا لذلك لم يكن عدم استيعابي لمعنى الاحتفالات يؤرقني كثيرًا خصوصًا أن الاحتفالات كثيرة في قريتنا؟

وعند بلوغي سن الشباب وبداية ما أسميه القراءة الواعية حسمت الأمر فاعتبرت المظاهر الاحتفالية الشعبية جهلا لا بد من الثورة عليه ودوري" كتقدمي" يلزمني بذلك، حتى لو كلفني ذلك أن ينبذني مجتمعي ويعاديني.

ومع مرور الأيام تراجعت عن ثورتي بعد صدامات ومناقشات واستهزاء أهل القرية بي واستهزائي بأعرافهم وتقاليدهم حتى اقتنعت أن الوقت لم يحن بعد للثورة، وان كانت حتمية فانها ستأتي لا محالة، فالتفت لأمور أكثر أهمية من ضمنها العمل السياسي وبصراحة…. حتى في قمة "تطرفي" و"تقدميتي" ومعارضتي كنت أنجذب إلى تلك الاحتفاليات ببراءة طفل مستسلمًا للاغراء الطاغي لها، متناسيًا الفلسفة والكتب الحمر والخضر والصفر. إلا أن موقفي من الاحتفالات كان يمنعني من التعبير عن انجذابي لها.

كان ذلك في عرس لأحد أقاربي. وصلتني دعوة حضور العرس الذي سيقام في وسط القرية، ووسط القرية يعتبر المكان الرئيس الذي تقام فيه كل الاحتفالات، بالرغم من وجود أماكن أخرى أفضل بكثير من وسط القرية الذي يعج بالمحال التجارية والبيوت المبنية دون ترخيص!! أما الاصرار على على وسط القرية فهذا أيضًا أحد الألغاز في قريتنا الذي لم أجد له جوابًا!!! ربما بحكم العادة ظل المكان الأنسب للأعراس والعزاء وتشييع الأموات والشهداء حتى الاحتفال السنوي الذي تقيمه القرية "للولي" الذي يسكن قبره عند أحد أطراف قريتنا أو الذي نسكن نحن في قريته كما يقولون. ويقولون أيضًا أن هذا "الولي" كان قد تحدى سلطانًا طغى وتجبر فحرم القرية من ماء النبع لمدة ثلاثة أعوام فهلك العباد ونفقت الماشية وصارت القرية صحراءًا قاحلة وعم الفساد وازدهرت أراضي السلطان على حساب أراضي القرية وتحول أهل القرية إلى عبيد عنده. فجاء "الولي" وبنى صومعة في طرف القرية ودعا الله أن يرسل الماء نعمة ونقمة في حينها أعدت السماء وهطل مطر أعاد للقرية خضرتها وطوفان محا قصر السلطان وزرعه، إلاّ أن "الولي" اختفى بعد الحادثة بثلاثة أيام!! قيل أنه صعد إلى السماء وقيل أيضًا أنه ذهب إلى قرية أخرى وسلطان آخر لذا باتت القرية تحتفل تخليدًا لذكراه وتقديسًا لسره.

عند المساء هبت نسمات صيفية وتنفست الكائنات الخضراء لتضفي على العرس بهجة، وفاحت روائح هي مزيج من الورود المتنوعة وثمار الأشجار، أضاء الرجال الكشافات الكهربائية وراح "الزجالون" يختبرون أجهزة الصوت ويمرنرن أصواتهم استعدادًا للسهرة "الصباحي". صفت الكراسي، تحلق الأطفال حول "الزجالة" وبعضهم حول النسوة اللواتي يحضرن الطعام ، في هذه الأثناء غمز شاب فتاة فابتسمت له وغابت، ذاب قلبه، ركض باتجاه الزجالة فرحًا وراح يغني ويحدو معهم آملا أن تسمع الفتاة صوته فتظهر له من جديد.

أمور كثيرة حدثت في ذلك اليوم معظمها يحدث للمرة الأولى!!

للمرة الأولى يظهر شبان يحملون السلاح، رغم معارضة الكبار وتحذيرهم المستمر من اطلاق النار خوفًا من وقوع حادث يفسد فرحة العرس، أو ما يدعو الجيش المتربص في المستعمرة القريبة لاقتحام القرية، ليس هذا فحسب ولكن ظهور المسلحين دون أقنعة أو لثام، حضور معظم أهل القرية للعرس رغم خلافاتهم، حلقات الدبكة المتعددة، وكشف النقاب عن مواهب في الغناء والرقص ونظم الشعر الشعبي، بعض النساء شاركن الرجال حلقات الدبكة!! وبعضهن حضرن حفلة الرجال عن قرب وقلة منهن تجرأن على كشف شعورهن، زغردن ورددن أهازيج العرس مع الرجال، أمور كثيرة حدثت للمرة الأولى!!!!

انجذبت إلى ما يحدث ولأول مرة أيضًا أشعر أني لست غريبًا عن قريتي!! شعرت أني حر رحت أغني وأصفق فقدت السيطرة على جسدي، أمسكت بيد الشباب، دبكت معهم كنت أتوسط حلقة من عشرة شبان اختلست النظر اليهم وجدت أنهم ممن فقدوا أعزاءًا لهم في الاجتياح الأخير ولم يكن هذا منذ وقت بعيد بل قريب جدًا!! رقصوا بطريقة مثيرة وكانت أصواتهم أعلى من صوت "الزجالة" أنفسهم ولا تستغربوا ان قلت أني رقصت مغمض العينين فعندما رقصت وغنيت امتلأت عيناي بالعرق، اغمضتهما، في تلك اللحظة رأيت سنوات السجن ساعات الذل على الحواجز دبابات تحاصر سني العمر، بساطير الجند وهي تدوس كل شيء… كل شيء أمهات يبكين، رجالاً بأسلحة خفيفة يغنون أغنية جماعية وتتناثر أعضاؤهم، رأيتني طيرًا صغيرًا يجرب الطيران ويفشل يتمنى أن يعانق السماء، رأيت ابتسامة طالما اشتقت اليها لا أعرف صاحبتها لكنني أحببتها، لا لم يكن عرقًا ذاك الذي جعلني أغمض عيني، أدركت الأن معنى هذا العرس وماذا يعني الفرح المبالغ به يقام احتفال ليس للتقرب من "الولي" المدفون في طرف القرية لكنه من أجل ما رأيته من أجل أن أرى تلك الابتسامة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى