الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم زياد الجيوسي

رحلة مع (تنويعات على مدينة الحلم)

منذ عرفت الفنان حسين نشوان، وجدته إنسانا يسكنه المكان، يتملكه عبق التراث في المباني، تحلق روحه في المكان المرئي والمكان الذي يتخيله، وأمكنة أخرى مرت بطفولته ويذكرها كخيال عابر، فالفنان الحقيقي هو نتاج لبيئته والطبيعة، للذاكرة والأرض، وبالتالي هو يحمل في كينونته هدفاً ورسالة، فتروي لوحاته الفنية الحكاية، حكاية طويلة وليس لها نهاية، وحين أعلمني عن نيته إقامة معرض له في مدينة الزرقاء المدينة التي ولدت فيها، قلت له: سأحضر من رام الله خصيصاً لحضور المعرض، فكل ما شاهدته لحسين نشوان في السابق صور للوحات، ورغم أنها شدتني كثيرا، إلا أنها لم تروي الرغبة العارمة أن أحضر معرضاً شخصياً له، فعلاقتي مع اللوحة علاقة عشق مباشرة، واللوحة الجيدة هي التي تمسكني بكلتا يداي وتدخلني لأعماقها، فأجول فيها وأتنشق عبق الجمال، أحلق في فضائها وزواياها، وحين أخرج منها أكون قد تركت بعضا من روحي فيها.

حين وصلت قاعة العرض شدني العنوان كثيراً، فهو أعطى فكرة مسبقة عن المعرض، فالحلم الذي يحلم به الفنان يتجسد كمدينة، هي مدينة الحلم، لذا كانت لوحاته (تنويعات على مدينة الحلم)، وليس وصفاً مجرداً أو هيكلية بناء، فهي مدينة الحلم، تسكن في الذاكرة، تمثل حلماً للفنان، حلماً يسعى لتحقيقه، أو حلماً بعيداً يسعى للوصول إليه، ومن هنا كان العنوان يحمل كلمة (تنويعات)، مما يدلل أن ما يقدمه في لوحاته بعض من نصوص الحكاية، ولا يقدم الحكاية متكاملة، تاركا المجال للمشاهد أن يتخيل من خلال اللوحات بعض من الفصول للحكاية المروية فكرة ولوناً وشكلاً، وتاركاً المجال لنفسه أن يواصل الرحلة كي يقدم تنويعات أخرى ويواصل رحلته في تجسيد مدينة الحلم حتى تتحول إلى حقيقة ذات يوم، فكل ما نراه كان قد بدأ بالحلم ذات يوم، حتى تحقق وأصبح حقيقة، فهل ترى سيتحقق حلم الفنان حسين نشوان في مدينة الحلم ويصبح حقيقة؟ هذا السؤال الذي يمكن للوحات راوية الحكاية حاملة في ثناياها روح الفنان أن تجيب على بعض منه.

المعرض بكامل لوحاته يمكن أن يقسم إلى ثلاثة مدارس فنية، وفي نفس الوقت رأيته معرضين في معرض واحد، فهناك أسلوبين في اللوحات كل أسلوب يمثل معرضاً متكاملاً، وكل منهما يحتاج إلى قراءة خاصة في لوحاته، فكل منهما يروي الحكاية، لكن باختلاف في المدرسة الفنية وفي أسلوب الراوي، لذا سيكون حديثي في هذه المقالة عن اللوحات الزيتية والتي تمثل نصف المعرض وتمثل معرضاً فنياً متكاملاً، وهي تتكون من مدرستين فنيتين.

لوحات حسين نشوان لم تحمل أسماء منفردة، فقد لجأ لأسلوب الترقيم في لوحاته، ومنذ اللوحة الأولى نلمس في وضوح أسلوب الفنان، فاللوحة تميزت باللون الأزرق الداكن في أسفل اللوحة وفي أعلاها، وهذا اللون المعبّر كان يسيطر على لوحات المعرض، ففي تدرجات الأزرق تندرج الفكرة، فحين يكون داكناً أقرب للسواد، يكون معبراً عن واقع مؤلم، وحين يتدرج حتى يصبح بلون البحر يصبح له تعبير آخر، وحين يصبح بلون السماء يعطي معالم الفرح، وفي استخدام الفنان لهذا اللون فإنه تمكن أن يوصلنا في لوحاته وتنويعاته في مدينة الحلم، إلى الفكرة التي يريدها من خلال استخدام اللون الأزرق بتدريجاته، فمن القتامة في اللون في بعض اللوحات، حتى الوصول للأزرق المشوب بالرمادي في لوحات أخرى، فالمدينة التي يحلم بها ما زالت حلماً، لذا لم تكن في اللوحات السماء صافية، فالغيوم التي تغطي فكرة الحلم ما زالت متراكمة بسوداويتها، لكن فكرة تحقق الحلم أيضا لم تترك اللوحات، فالاشراقات التي تشير للفرح والأمل موجودة في ثناياها، ففي اللوحة الأولى نجد المدينة الحلم على شكل القباب والأبنية، وفي قاعدتها تمازجت الأرض مع الحروف العربية بدون كلمات واضحة، كما ظهرت الحروف فوق المباني مباشرة، بإشارات رمزية لارتباط المدينة الحلم بتاريخها العربي، والقباب التي ترتبط بالأذهان بالمساجد في تراث المبنى، وتنتشر في كل بلدات فلسطين بشكل خاص، حتى في البيوت القديمة (بيوت العَقِد) تربط المدينة الحلم بالتراث والتاريخ والوطن، وفي هذه اللوحة وفي لوحات أخرى نجد أن المدينة الحلم التي تنثرها ريشة الفنان تأخذ طابعاً تجريدياً، فالأمكنة فيها متداخلة وكأنها جسد واحد، بحيث تظهر للوهلة الأولى وكأنها تجريد لمبنى الصخرة المشرفة في القدس، ولكن حين التبحر في اللوحة نجد أنها تمثل مدينة تراثية الشكل بشكل متكامل ومتداخل، فخرج الفنان عن الإطار التقليدي برسم المكان كما هو، أو كما ينطبع في الذهن كما اعتدنا أن نرى في الكثير من اللوحات التي مثلت المكان، فتداخلت القباب والمساكن ببعضها حتى وصلت إلى درجة الانصهار، وكان استخدام اللون قوياً وذو دلالات مميزة، فالأزرق الداكن في سماء اللوحة ويمينها بالنسبة للمشاهد، بدأ بالانفراج كلما اتجه يساراً، وفوق القبة الذهبية والمختلط لونها مع الأزرق الداكن والأبيض في وسط اللوحة، كان الانفراج أكثر، وتمازج الأبيض مع الأزرق، وفي فضاء اللوحة في المنتصف، ظهرت بقعة بلون أزرق فاتح وكأنها طاقة الأمل والفرج والحلم، كما ظهرت بقعة أخرى في يمين اللوحة في الفضاء، وإن كانت أقل تفتحاً بالزرقة من الثانية، فهي برزت من خلال دكنة اللون، بينما الثانية برزت من بين غيمات أكثر تفتحاً، ويلاحظ على تركيبة تجسيد المدينة الحلم، أن الفنان لجأ إلى إحداث شرخ عمودي باللوحة، فظهر يسار اللوحة متمازجاً مع يمينها، لكن كان هناك خط رأسي من يسار القبة الذهبية حتى قاعدة البناء في اللوحة وكأنها يقسمها إلى قسمين، ونلاحظ هنا أن هذا الفصل لم يأتي عبثاً، فالمشهد ظهر وكأنه يصور حالتين في مخاض المدينة الحلم، والحروف العربية تركزت أعلى وأسفل هذا الجانب، والألوان في البناء كانت أكثر إشراقاً من الجانب الآخر، رغم التشابه الكبير، ففي يمين اللوحة كانت القبة الذهبية تعلوا المشهد، بينما في يسارها ظهرت القبة ذهبية اللون بشكل متكامل بدون تداخل ألوان أخرى في قلب يسار اللوحة، محاطة بقبتين بألوان أخرى، والرمزية في اللوحة لم تتوقف هنا، فالزخارف العربية موجودة، وتعطي الهوية بوضوح للمدينة الحلم، وفي نفس الوقت نجد في يمين اللوحة وفي قلبها درج طويل مضيء وكأنه يرمز بشكل واضح أن الطريق للوصول موجودة ومضيئة، لكنها تنتظر القادمين إليها حين يجتازوا العتمة.

في اللوحة الثانية ننتقل إلى مشهد آخر من تنويعات المدينة الحلم، وهنا فصل آخر من الرواية، فما زالت السماء باللون الأزرق الداكن، وفي فضاء اللوحة بالأعلى نجد طاقة كبيرة تمازج فيها اللون الأبيض مع إطار باللون الأصفر، وفي داخلها الحروف العربية، في رمزية واضحة أن تحقق الحلم مرتبط بالحلم العربي وبالانتماء للعروبة، وفي هذه اللوحة نجد الفنان قد سلط الضوء على يمين اللوحة فأعطاها مشهداً أكثر إنارة ووضوح، بينما كان الجانب الآخر أكثر عتمة، فأعطى اللوحة بعداً جديداً، ومعاني أخرى تثير التساؤل، وفي نفس الوقت نجد أن العلامات المنيرة في الجانب المنير أكثر من الجانب الآخر، وظهرت إشارات ورموز متعددة، فقد ظهرت مثلا المثلثات باللون الأصفر في إشارات مضيئة، كما ظهرت بوابة مضيئة تمازج لونها بين الأصفر والأبيض بلون وشكل يبعث على التفاؤل، وفوق الجانبين كانت الحروف العربية إضافة لبعض الزخرفات العربية تعلوا القباب، وإضافة لظهور أطراف القباب في اللوحة، فاللوحة حفلت أيضا بالقناطر والإشارات التراثية، وظهرت اللوحة في جانبيها وكأنها مشاهد يضمها زقاق داخل قنطرتين كبيرتين، فكانت اللوحة استكمال للحكاية.

في اللوحة الثالثة تبدأ المدينة الحلم بالتجسد على شكل جسد بشري، فنجد الرقبة في أعلى اللوحة وامتداد الكتفين، والجسد بأكمله عبارة عن تنويعات المدينة الحلم، وهنا ظهرت السماء بلون داكن ولكنه أقل دكنة من اللوحات السابقة، فالأزرق تمازج باللون الرمادي، وفي يسار ويمين اللوحة ظهر في السماء انفراجات النور بشكل واضح، بينما الجسد حمل بداخله شكل المدينة بتمازج بين الألوان الحارة والباردة، فتمازج اللون الأحمر الذي ظهر بوضوح في هذه اللوحة مع ألوان متعددة مثل البني والأصفر والأزرق والأخضر، وتميز ظهور اللون الأحمر بشكل خاص في مقطع عرضي لو نسبناه للجسد البشري لكان بدقة يمتد من القلب إلى يمين الجسد، وهذه إشارة رمزية أعتقد أن الفنان قصد بها أن الحلم لن يتحقق بدون تضحيات، ومن منتصف اللوحة باتجاه قاعدتها غلب اللون الأزرق بتدرجات لونية، وإن كان التدرج للون الأزرق الفاتح هو الأكثر غلبة، ونلاحظ أن الفنان هنا قد قسم اللوحة إلى مجموعة من الأشكال الهندسية تقع بين المعين والمربع والمستطيل، ولكنها متمازجة ومندغمة بشكل كبير، مما أعطى اللوحة للناظر ابعاداً ثلاثية، وظهور القباب والزخرفات المرتبطة بالزمن الماضي وبقاياه في الحاضر، أضاف للوحة بعد رابع وهو الزمن، فظهرت اللوحة بأبعادها وألوانها تحمل الفكرة بوضوح كبير، وبأسلوب فني يدلل كم أن الروح التي نزفت هذا الإبداع، مرتبطة بواقعها والتراث والحلم، رغم غياب الحروف العربية عن اللوحة بشكل مباشر، بينما تركت الأشكال المرسومة الأثر نفسه الذي منحته الخطوط في اللوحات السابقة.

في اللوحتين الرابعة والخامسة تواصلت الرحلة في فكرة المدينة الحلم، وهنا نجد أن الفنان بدأ بالخروج عن أسلوبه في اللوحات السابقة، فهنا اعتمد الخطوط المنكسرة والمنحنية أكثر وهذه الخطوط أخذت أبعادا أكبر، ومال أكثر إلى التجريد، فهنا أسلوب الرسم اختلف عن ما سبق من لوحات، لكنه بقي متواصلاً في الأفكار والتنويعات حول مدينة الحلم، وفي اللوحتين اعتمد أسلوب التناظر، فكانت اللوحات مقسمة إلى عدة أقسام من خلال التعامل باللون وحجم إسقاط الضوء على اللوحات، وكما يلاحظ أن الفنان ابتعد أيضا في هاتين اللوحتين عن رسم الخطوط العربية في ثنايا اللوحات، وإن واصل أسلوبه بالاعتماد على رسم القباب والتراث في أسلوب البناء، رغم عدم الوضوح المباشر من خلال أسلوب التجريد، وأيضا إسقاط المفاهيم من خلال اللون والشكل والرمز والزخرف في ذهن المشاهد، ونلاحظ في اللوحتين أن الإنارة في اللوحة الخامسة وهي من رموز الاشراقة والأمل لدى الفنان، كانت في القسم العلوي من اللوحة بعكس اللوحة الرابعة، وكأن الفنان يقصد أن الأمل يبدأ من القاعدة ثم يعم الفضاء، رغم وجودها في الأقسام الأكثر دكنة من خلال القباب الذهبية وبعض الأشكال الهندسية.
في اللوحات السادسة والسابعة والثامنة، يعود الفنان من رحلته في تجريد المدينة الحلم، ففي اللوحات السادسة والثامنة، تظهر المدينة مجدداً مجسدة بشكلها الذي بدأت به اللوحات التي تروي الحكاية، فعادت الحروف العربية لتأخذ مساحتها في اللوحات، وإن كانت الاشراقة والإنارة في اللوحة الثامنة تأخذ أبعادا ومساحة أكثر، بينما في اللوحة السادسة كانت مساحة القتامة في اللون أكبر، رغم أن الاشراقة في ألوان المدينة كانت متوهجة بشكل يشير لحجم الأمل، ويلاحظ هنا وفي اللوحتين بروز رمزية جديدة، وهي أشبه ما تكون بإعصار أو فيضان يخترق اللوحة السادسة من زاوية يسار اللوحة ويأخذ مساحة كبيرة فيقسم أرجاء المدينة لقسمين، ولكن نفس الرمز يظهر في اللوحة الثامنة أقل قسوة في التعبير، والجانب الأيمن من المدينة المقسومة يأخذ مساحة أكبر وكأنه بدأ بدفع هذا الخطر عن المدينة، بينما في اللوحة السابعة تكون المدينة ببهائها ونورها وزخرفها وقبابها وتحت سماء صافية اللون تقريبا باللون الأزرق الفاتح، ونافذة من الفرح في أعلى يسار اللوحة، ومن خلال قراءة اللوحات الثلاث بشكل متسلسل نشعر وكأن الفنان يتحدث عن ثلاث مراحل مرت بها المدينة الحلم، وهذا يؤكد الفكرة التي تكونت في ذهني من خلال استخدام تعبير (تنويعات) في عنوان المعرض.

الرحلة ما زالت متواصلة وتعتمل في روح الفنان، فنجد في اللوحات من الثالثة عشر حتى الثامنة عشرة، انتقال مختلف بأسلوب الفكرة وتوصيلها، فهنا الفنان لجأ بشكل خاص إلى استخدام تنويعات اللون لسرد الحكاية وقصة المدينة الحلم، ففي اللوحة الثالثة عشر نجد غلبة اللون الأحمر على اللوحة وكأنها تغرق في بحر من الدم، لكن الفنان لجأ إلى تدريجات اللون الأحمر فخفف من وقع الصدمة التي يعطيها هذا اللون وهو يسود بين المباني والقباب، وإن لم يفقد في إشاراته روح الأمل، فاللون الأصفر والطاقات البيضاء لم تغب رغم أنها كانت مشوبة باللون الأحمر، وفي زاوية اللوحة اليسرى العلوية كان اللون الأحمر يتحول إلى لون التراب مع حجم إنارة تعطي البهجة للروح، مع زاوية زرقاء صغيرة بلون السماء، ويلاحظ برمزية الرسم اختفاء الحروف العربية مجدداً من اللوحة، إضافة إلى وجود بعض الأشكال وكأنها تأخذ شكل وجه بشري، في إشارات للإنسان الذي تقوم على أكتافه فكرة تجسيد الحلم إلى حقيقة، بينما في اللوحات الخامسة عشرة والسابعة عشرة لجأ الفنان إلى اللون الأخضر بما يثيره بالروح والنفس من ارتياح، ورغم دكانة اللون إلا أنه كان أقرب إلى لون الزيتون وهذه رمزية لا أظن أنها جاءت عفوية من الفنان، وإن اختلف الأسلوب في الرسم بين اللوحتين، فالأولى جاءت على شكل قاعدة تجريدية لمباني التراث ظهر فيها شكل الحصان بما يرمز له الحصان في مفهومنا من قوة وجمال، يعلوها نحت صخري باللون الأخضر قاعدته الحروف العربية، وفي داخله نافذة وكأنه محفورة في الصخر ممتلئة بالحروف العربية باللون الأزرق الذي يثير راحة في النفس، بينما في الثانية كان شكل المدينة يعود من جديد وكأنه تحت قوس أو بوابة ضخمة من اللون الأخضر، بينما السماء بزرقتها تنير المدينة، فارتبطت فكرة اللون الأخضر باللوحتين مع اللون الأزرق وألوان الرموز للمباني والقباب بفكرة المستقبل الأجمل القائم أن تحققه يحتاج القوة التي رمز لها بالحصان الأبيض، بينما في اللوحات الرابعة والسادسة عشرة نجد أن الغلبة للون البني المشوب باللون الأصفر، فيعطي للجدران لون تراب الأرض حين تفرح ببداية المطر، بينما برزت المدينة بأشكال هندسية مختلفة من بين ثنايا مساحة الجدران التي حفلت بالعديد من الطاقات والنوافذ التي تحمل ألوانا بدواخلها تشير إلى قرب النور، بينما في اللوحة الثامنة عشر كانت الغلبة للون الأزرق السماوي المشرق بالبياض، فنجد هذا اللون يطغى على يمين اللوحة ويظهر في يسارها، وإن لم تخلوا اللوحة من إشارة رمزية في أسفل يمين اللوحة إلى بقعة داكنة ولكن المدينة الحلم تبتعد عنها، ويلاحظ في اللوحة الأخيرة أن رمزية الشخوص والأشكال ظهرت أكثر وضوحاً، فهناك وجه بشري على شكل أسد رابض هو أقرب لشكل تمثال أبو الهول، وشكل آخر متمازج باللون الأزرق والأبيض يعطي انطباع لشكل رجل شيخ مسن يرتدي العباءة والعمامة وكأنه منكب على الكتابة، وكأن الفنان يشير للتاريخ وهو يكتب حكاية مدينة الحلم، أو الأجداد وهم يكتبون وصية للأحفاد أن لا يتخلوا عن المدينة التي حلموا بها.

في اللوحات التي تبقت ينتقل الفنان إلى مدرسة التجريد الفني بشكل واضح وكبير، ففي اللوحات التاسعة والعاشرة كانت اللوحات تحمل نفس الروح وبأسلوبين مختلفين، فاللوحة التاسعة ظهرت وكأنها مصنوعة من السيراميك بينما هي مرسومة بالزيت، وظهرت فيها الحروف العربية قاعدة وأعلى المشهد، وكانت اللوحة يعلوها سماء مازج اللون الأزرق مع الرمادي فأوحت بحجم كبير من الاكتئاب، ويلاحظ في هذه اللوحة أن الفنان لم يلجأ للألوان الحرة والحارة بقوة كما في اللوحات السابقة، بل أعتمد ألوانا تراوحت بين البني والرمادي والأبيض والبرتقالي غير المشع، إلا أنه لم ينسى الفرح والأمل من خلال حلقات صغيرة منيرة باللون الأزرق السماوي المنير، وهذه اللوحة بما حملته من فكرة تحيط وتغمر مدينة الحلم، كانت الخطوة الأولى للإتجاه إلى اللوحة الثانية وهي اللوحة العاشرة التي سادها الفرح فظهرت المدينة وكأنها تطفوا على البحر وتعلوها السماء بلون أزرق منير، تتناثر في صفحة السماء مربعات ومثلثات وضربات فرشاة تحمل ألوان البهجة، وألوان المدينة كانت مشعة ما بين الأحمر والبرتقالي وبعض من اللون الأصفر والأزرق المشع، في حالة انصهار وتمازج مع باقي الألوان، فكان استخدام اللون مميزا في اللوحتين، حيث نقلنا من جو تسوده الكآبة إلى جو فرح وحلم جميل وراحة نفسية، ولجأ إلى الرموز في لوحته بألوان زاهية وانعكاسات حلوة على الروح.

في اللوحات الحادية والثانية عشرة لجأ الفنان إلى التجريد بدرجة كبيرة، واستخدم الخطوط المنكسرة والمنحنية بقوة، ولجأ للألوان الحرة في اللوحتين كثيراً، فكان الأصفر والأزرق والأبيض والبني والأحمر، وإن افتقدت اللوحات الإشارات الواضحة نحو القباب والمباني التراثية كما في انصهارها بلوحات سابقة تحدثت عنها، إلا أنه من خلال الخطوط المنحنية واللون أعطى الانطباع لوجودها بين التنويعات، ولجأ إلى ضربات الفرشاة في اللون ليعطي إشارات رمزية بداخل اللون، فاللون البني في اللوحة الحادية عشرة حمل إشارات في أعلاه يمكن أن تكون عينان وفم في وجه مخلوق ما، ظهر أكثر بشرية في اللوحة التالية وفي نفس اللون، إضافة للخطوط التي تحمل معاني كثيرة، بينما في اللوحات التاسعة عشرة والعشرون كان التجريد شبه مطلق، وكانت الخطوط الرأسية تحمل دلالات كثيرة وهي تستند إلى دوائر في قاعدة اللوحات، إضافة لألوان قوية وإن لم تكن حرة تماماً، وكما في اللوحتين السابقتين لجأ للرمز من خلال خطوط متمازجة باللون، ومن خلال ضربات الفرشاة، التي أبرزت تضاريس واضحة في العملية اللونية.

وهكذا انتهت رحلتي في القسم الأول من المعرض، وما زال في الروح الكثير من البوح لم يسعفني الوقت لنـزفه، فالمدينة الحلم كما تسكن الفنان تسكنني، ولا بد من الإشارة في نهاية الرحلة، أن الفنان حسين نشوان تمكن خلال المعرض وخلال الأيام التي تلت عودتي إلى رام الله، أن يشد روحي بقوة للوحاته والأفكار التي فيها، وأن يعطلني عن متابعة أي مسألة أخرى باستثناء الإبحار مع لوحاته، وكما كتب لي الصديق الشاعر عصام السعدي حين شعر أني أكتب عن المعرض: (أخي زياد.. انتبه فالفنان الذي تكتب عنه صاحب تجربة مميزة والكتابة عنه ليست سهلة، ففي لوحاته أبعاد لا ترى إلا بعد تأمل طويل..)، وأنا أقول أن الفنان حسين نشوان تمكن ببراعة هائلة وبانصهار روحي أن يصور المدينة الحلم، أن يصور المكان بأسلوب مختلف، فهي رحلة صوفية مختلفة، وأحب أن أشير كما في البداية أن المكان أخذ دوراً كبيراً لدى الفنانين، وكل له طريقته، وأكتفي هنا بالإشارة لما قاله بعض الفنانين عن المكان، فالفنان التشكيلي موسى عباس قال: (الجدران المتهرئة التي استولت على وجداني وروحي كلما وقع نظري عليها وأنا صغير، والتي عشت معها عمراً، أنظر إليها وفي الروح الكثير من خلجات الحسرة والشوق إليها وأنا متمسك بالانتماء إلى شرطها الجمالي والوجودي .. عشت في مدينة لها اثر تاريخي أما أماكنها المحلية فلها بريق في نفسي لن أتخلى عنه كأنما هناك طيف روحي يشدني إليها، اذكر مثلا تلك النوافذ القديمة أو ما نسميها الروزنة تشدني إليها أسرار طفولية نبعت من انتمائي لها وحبي المتواصل فكيف يمكن لي أن أتنازل عنها لأهجرها؟ لا اعتقد أنني سأكون مبتعدا عنها ذات يوم)، بينما ابن عكا الفنان وليد قشاش قال: ("قد يكون سـرّ حُبي لهذه المدينة، أننا حُرمنا من الأهل والأقرباء، مما جعلني أعتزُ بهذا المكان، وأعتبرُ أسوارها وبحرها ورملها سرَّ الجمال، وأجملَ لوحةٍ فتحتُ عينيَّ لالتقاطِ ألوانها).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى