الاثنين ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦

علي الوردي : (74) تهمة الإنتقاص من وطنية الشعب العراقي

وارتباطا بموقف الوردي في نقده للماركسية نقدم رأيا سبق به الفيلسوف الفرنسي " مرسيا إيلاد " بما لايقل عن عقد من السنين على الأقل ، بعد أن تُرجمت لنا مؤلفات الأخير في التسعينات. وقد قام الوردي بنشر رأيه الخطير في عام 1978 حيث يقول فيه :

(يحلو لي في هذه المناسبة أن أقارن بين ما كتبه الماركسيون في وصف الحياة الاجتماعية في ظلّ الشيوعية وما ستكون عليه الحياة وفق المسلمين عند ظهور المهدي . ورد في كتاب " خريدة العجائب " عن النبي أنه قال في وصف أيام المهدي : " ... تذهب البغضاء والشحناء والتحاسد ، وتعود الأرض إلى هيئتها وبركاتها على عهد آدم ، حتى تُترك القلاص – أي الإبل الجيدة – فلا يسعى إليها أحد ، وترعى الغنم مع الذيب ، وتلعب الصبيان مع الحيّات فلا تضرّهم ، ويلقي الله العدل في الأرض في زمانه حتى لا تقرض فارة جرابا) (522).

ويطرح الوردي بعد ذلك رأيه الخطير الذي سبق به الفيلسوف الفرنسي برغم عدم اتفاقهما الزمني كما قلنا :
( وإني لأذكر من أيام طفولتي كيف كان الناس يتحدّثون عن ظهور المهدي فيقولون إن النقود يبطل استعمالها آنذاك ويحل محلها الصلوات، فإذا أراد شخص شراء حاجة ساوم عليها بعدد من الصلوات، وهو يستطيع أن يحصل على الحاجة بعد أن يؤدي ثمنها بأن يصلّي على محمّد عددا من المرّات حسبما اتفق مع البائع . والبائع يكتفي بذلك لأنه بدوره يستطيع أن يشتري حاجاته بالصلوات كذلك ) (523) .
لكنه- أي الوردي- يصر ، وفي هذا عودة إلى نزعته "الصاقولية"، على أن يعود ممعنا في النقد الذي بدأه ، ولكن بدرجة أشد ، لأنه الآن أنهى مراحل الامتصاص والاستيعاب لينتقل إلى مرحلة الهجوم الهاديء المتحسّب ، والعلمي المدروس ، فينتقل إلى التعبير المباشر بعد طول تأجيل ، وفي حركة مباشرة وساخرة نسبيا ، نجده يقول :

( ليس لنا أن ننتقد المسلمين على عقيدتهم هذه ، فهم يعتقدون بأن ما يجري في أيام المهدي إنما يتم بقدرة الله والله قادر على كل شيء ، ومعنى ذلك أن الله قادر أن يغير طبيعة الإنسان متى شاء . أما الماركسيون فهم يختلفون عن المسلمين في هذا الشأن ، إذ هم يعتقدون بأن الله غير موجود وأن الإنسان ابن القرد ، ولست أدري كيف يمكن أن يتحول ابن القرد في مرحلة الشيوعية إلى إنسان من نوع جديد ) (524 ) .

# تهمة الإنتقاص من وطنيّة الشعب العراقي


وارتباطا بالموقف من ثورة العشرين ننتقل إلى تهمة خطيرة أخرى يوصلنا إليها منهج الوردي في تحليل العوامل المؤدية إلى اندلاع هذه الثورة . فقد إتُهم الوردي في كتب ومقالات كثيرة بأنه عبر منهجه هذا ينتقص من وطنية الشعب العراقي ويُضعف عزيمة الجماهير ويسبب فتور همّتها . هذا ما جاء- مثلا- في مقالة " حول لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث لـ "مؤيد إلياس بكر " في مجلة " الجامعة " عام 1976 ، والذي شبّه الوردي فيها بالطبيب الذي يفاجيء مريضه باصابته بمرض مستعص ، فالطبيب في هذه الحالة يعرّض المريض إلى انتكاسة نفسية تزيد حالة المريض سوءا . لكن الوردي وبعد مرحلة الاستقبال والامتصاص :يقول:

(إني أتفق مع الناقد " و " .. ولكن إذا جاز للناقد تشبيه منهجي بالطبيب الذي يصارح مريضه بأمر مرضه المستعصي فيعرّضه بذلك إلى انتكاسة نفسية تزيد مرضه سوءا ، فإنه قد يجوز لي كذلك تشبيه منهجه "الحماسي"، بالطبيب الذي يترك مريضه جاهلا ويسمح له بالحركة والأكل كما يشاء قائلا له : ( إن صحتك على ما يرام ) . لا أنكر أن هذا الأسلوب قد ينفع المريض إذا كان مرضه وهميا ، أما إذا كان المرض حقيقيا فإن ذلك قد يؤدّي به إلى الهلاك ) (525).
وهذا يعيدنا إلى الدور الريادي للوردي في محاربة الإتجاه "الشعري" في التعامل مع متغيرات الحياة العربية ، هذا الإتجاه الذي يقوم على الحماسة و المعالجات الانفعالية اللغوية والعبارات الفضفاضة. إنه يدعو إلى الموضوعية في دراسة وتحليل الظواهر والتحولات في المجتمع . يظهر هذا أيضا في ردّ الوردي على الناقد والباحث الراحل "عزيز السيد جاسم" الذي اعتبر الوردي في تحليله لثورة العشرين قد وضع (المجرم ) ويقصد به بريطانيا ، و ( الضحية ) يقصد بها الشعب العراقي في مستوى واحد .. وأشار إلى أن الوردي اتخذ موقفا حياديا فوصل إلى نتائج غير حيادية قطعا على حدّ تعبيره . والوردي يرى أن منتقديه يريدون منه التحيّز إلى جانب العراقيين وذلك من خلال إظهار الجوانب المضيئة من التاريخ لكي يصبح ذلك مبعث الفخار والإعتزاز لجماهيرنا ومحفزا لحماسها الوطني. لكن الحماس من وجهة نظر الوردي ليس طريقا صحيحة لبناء شخصية أفراد الشعب . فهو- كما يقول - حماس يلتهب بشدّة غير أنه سرعان ما يخمد حين يواجه الحقائق كاملة. ولعل هذه النظرة هي واحدة من الأسباب الرئيسة في ثبات سمة "الفورة" في شخصية المواطن العراقي وفي الأداء الجماهيري والحكومي . إن الوردي لا يرفض الحماسة تماما فهو يرى أن نسبة منها ضرورية للأداء الناجح لكنه يرفض الحماسة المطلقة :
( إن جماهيرنا بحاجة إلى تبصير كمثل ما هي في حاجة إلى التحميس. وقد شاهدنا عيانا ما فعله التحميس المطلق في جماهيرنا في بعض العهود الماضية، حيث رأيناهم يقترفون المنكرات والفظائع وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا ) (526) .
إن الوردي يرى أنه باحث وليس "داعية"، فالأخير يمكن أن ينحاز ويمكن أن يتحمّس وأن يتغاضى عن بعض الحقائق. أما الباحث فهو الذي يلتزم الحقيقة الموضوعية ويصف الأحداث كما وقعت من غير تحيز لها أو عليها ، مع الأخذ بنظر الإعتبار- كما يقول- طبيعة المجتمع الذي وقعت فيه الأحداث. والوردي يقر أن ثورة العشرين تستحق التمجيد ، وتستحق أن يفتخر بها العراقيون ويتغنوا بمحاسنها . لكنه يرى أيضا أن ليس من مصلحة الوطن أن نستمر في التغني بأمجادها دون أن نضعها على منضدة التشريح العلمي لغرض دراستها دراسة موضوعية ، وكشف جوانبها الإيجابية والسلبية . وهو يدرك أن الكثيرين من القراء ليس هيّنا عليهم تقبّل مثل هذا المنهج ، فقد اعتدنا على الحماسة ورؤية الجوانب الإيجابية فقط ، و " ليس عليهم أن يروا منهجا آخر يُتّبع في دراسة ثورة العشرين . ، وربّما اتهموني بخيانة الوطن أو التحيّز للإستعمار ، وهي تهمة فظيعة كما لايخفى" (527) .

ولعل هذا الإتهام كان متضمنا في النصوص النقدية السابقة . لقد اختار الوردي أربعة نصوص من أربعة كتب وضعت لتعيين أسباب ثورة العشرين ويعتبرها نماذج تمثل الكتّاب الكثيرين الآخرين من العرب . هذه النصوص لرضا الشبيبي وعبد الرزاق الحسني وكاظم المظفر وعبد الشهيد الياسري . ويستنتج منها أنها :
( كلام أقرب إلى أسلوب الشعر والخطابة منه إلى الموضوعية والمنهج العلمي .. إني لا أنكر أنه أسلوب حسن إذا كان المقصود منه إثارة الحماس الوطني في أفئدة الناشئة الجديدة ، إنما هو لا يصلح أن يكون أسلوبا للبحث العلمي الذي ينبغي أن يكون من نمط آخر . يستطيع أي كاتب أو شاعر إذا امتلك ناصية البيان أن يأتي بالمناقب والمثالب كما يشاء . وهذا ما كان يفعله الكتاب والشعراء عندما يحبّون شيئا أو يبغضونه ، إذ نراهم يقلبون المثلبة إلى منقبة ، والمنقبة إلى مثلبة ، حسبما توحي به عواطفهم الجيّاشة . ولهذ كان من السهل عليهم تغيير أحداث التاريخ حسب رغبتهم ، إذ هم يختلقون الأسباب أو يبالغون فيها بإسلوبهم "الرنّان" ويحسبون أنهم جاؤوا بالقول الفصل الذي لا يجوز أن يختلف فيه إثنان ) (528) .
ويضرب الوردي مثلا بأحداث السلب والنهب التي حصلت خلال الثورة في مدينة " بعقوبة ". وظاهرة السلب والنهب ظاهرة خطيرة كما راينا، من الطريف أن نذكر ما قاله الوردي للمطبعي من أن الذين يذمّونه هم أكثر من الذين يمدحونه ، وكيف ذكر له- بروح ديمقراطية ورياضية - حادثتين تعبران عن ذلك :
( 1-كنت ذات يوم راكبا في باص من باصات المصلحة ، فرأيت إلى جانبي راكبا لا يعرفني وهو يتصفح كتابا من كتبي ، وكان يقرأ بعض العبارات فيه ويشتمني شتما مقذعا . وقد اضطررت إلى أن أترك الباص في أول محطة توقف فيها لأني خفت أن يعرفني ويواجهني بالشتيمة عيانا .
2-وأذكر مرة أن أحد طلابي في كلية الآداب قدم لي تقريره السنوي المطلوب منه ، وكان موضوعه رأي القراء في مؤلفاتي، وكان التقرير مليئا بالشتائم والنقدات اللاذعة ، وقد أعطيت الطالب درجة عالية على تقريره ، لأني كنت أعرف أنه يذكر الحقيقة ) (529) .

# تهمة "مخالفة المألوف" لإثارة الصرعات والضجيج


ومن التهم الأخرى التي حوصر بها الوردي وامتدت من الخمسينات حتى الثمانينات هي تهمة مخالفة المألوف لإثارة الضجات والصرعات على طريقة خالف تعرف. فقد نقل في كتابه: (أسطورة الأدب الرفيع) التهمة التي وجهتها له إحدى الجرائد حول تعمده إثارة الضجات من باب المخالفة وهي طريقة أمريكية تهدف إلى لترويج لكتبه ، واعتبره الدكتور عبد الرضا صادق خلقا شاذا يموت غراما بالضجة ( راجع الصفحات 282و283و283 من كتاب أسطورة الأدب الرفيع). وقد رد عليها الوردي بالقول إن للضجة وظيفة اجتماعية لا يستهان بها لأنها تحرك الأذهان وتوقظ النائمين. ولولا الضجات الكبرى التي زخر بها التاريخ لما استطاع البشر أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من حضارة جبارة. وقد أعلن الوردي أنه يتمنى من صميم قلبه أن يكون من خالقي الضجات .
وتمر عقود من السنين وتطلع علينا مجلة ( آفاق عربية ) في شهر آب عام 1986 بمقالة عنوانها : (أوهام الدكتور علي الوردي في النحو العربي) ، يقول الكاتب في جانب منها :
( إن المتتبع لكتابات الدكتور علي الوردي يجد أنه يدور في حلقة مُفرغة منذ ثلاثين عاما، منذ كتابه (الازدواجية في شخصية الفرد العراقي)، مرورا بـ (وعاظ السلاطين)، ثم كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). وأغلب ما كتبه هو مخالف للمألوف، سواء كانت تلك النظرات في مجال علم الاجتماع أم في مجالات أخرى من المعرفة. إن الدكتور الوردي يقحم نفسه في موضوعات لم يستكمل لها عدتها . فحين ألقى بدلوه طارحا اجتهاده الذاتي في النحو العربي ، جاءت تصوراته فقيرة في محتوياتها لا تمتلك أي سند علمي به ينال الدكتور الوردي تزكية لما كتب من تعليقات على بعض المسائل في النحو العربي ) (530) .
ليلاحظ القاريء أولا أن الكاتب قد أخطأ في عنوان كتاب الوردي فهو ليس ( الازدواجية في شخصية الفرد العراقي ) بل (شخصية الفرد العراقي)، وهذه زلّة لاشعورية تكشف أن هدف العدوان الذي استثار هذا الكاتب هو موضوعة الازدواجية التي أثارها الوردي كسمة مركزية سلبية في شخصية الفرد العراقي، هذه الموضوعة هي التي أثارت الكاتب فانطلقت من لاشعوره لتحتل العنوان خطأ ولكنها في الواقع هي المقصودة كمحور لعدوان الكاتب الذي تململت في أعماقه اشباح ازدواجيته . كما أن الأخير قد اختصر- بفعل العدوان المختزن- سيرة الوردي الكتابية إلى ثلاثين عاما في حين أن الوردي بدأ بالكتابة منذ الثلاثينيات كما أشار إلى ذلك ( حميد المطبعي ).
ويرد الوردي على انتقاد هذا الكاتب بأنه يخالف المألوف على صفحات مجلة ( وعي العمال ) في الأول من أيلول 1986بالقول :
( يبدو من عبارة الناقد أنه يتهمني بأني في أغلب كتاباتي أقصد ( مخالفة المألوف ) ، أي أنه يشبهني بذلك الرجل الذي بال في بئر زمزم في أيام الجاهلية بغية الحصول على الشهرة . وهذه تهمة طالما سمعتها من أفواه الناقدين حتى اعتدت عليها . ولست أدري ماذا يجب على الإنسان أن يصنع حين ينشأ في مجتمع مرت به فترة انحطاط حضاري طويلة الأمد ، على نحو ما حصل في المجتمع العراقي طيلة العهد المغولي والعثماني. فقد عشعشت الخرافات في الناس حينذاك وسادت القيم المناقضة للحضارة ، كما راج الشعر السلطاني والبلاغة السجعية المزخرفة. ويؤسفني أني نشأت في أعقاب تلك الفترة ، كما يؤسفني أني اتصلت بالحضارة الحديثة عن طريق الاطلاع والسفر والدراسة ، ورأيت الفرق واضحا بين مجتمعي والمجتمعات المتقدمة . فما أصنع ؟ أتمنى لو أني كنت قابعا في قوقعتي الاجتماعية مؤمنا بصحة كل ما فيها من قيم ومعتقدات ، كما هو حال الكثيرين من أقراني . والواقع أني أغبط هؤلاء على طمأنينتهم النفسية وقناعتهم. فهم يصدق عليهم المثل القائل : (القناعة كنز لا يفنى). فهم يمتلكون من الطمأنينة النفسية كنزا لا حد له . وهنيئا لهم . إنهم سعداء بما وجدوا عليه آباءهم لا يطلبون له تبديلا ، فكل جديد في نظرهم هو حرام أو هو من دسائس المستعمرين الكفار ) (531) .

# الخلاف مهم للتطوّر كما الشرّ يكمل الخير حسب قول ابن خلدون


وعمليا كان الوردي يكرر القول إنه يغبط تلميذه سابقا وزميله لاحقا الدكتور ( حسين علي محفوظ) لأنه لم يحتك بالحضارة الحديثة احتكاكا قويا فظل مؤمنا مطمئن النفس مرتاحا ، على عكسه هو- أي الوردي - الذي سافر للدراسة في أمريكا واحتك احتكاكا مباشرا بالحضارة الحديثة . وكان دعاء الوردي هو : ( اللهم ارزقني إيمان العجائز ) ، كما كان يردد دائما : ( من آمن بحجر كفاه ) .. ) (532) .
ومن المهم أن نقف هنا على سرّ تشاؤم الوردي من احتكاكه بالحضارة الحديثة غير ما قاله سابقا ، لأنه قد تعرّض لموضوعة القلق المرتبط بالحضارة بصورة أكثر جذرية في كتابه (مهزلة العقل البشري) . فالوردي يرى- مستعينا أولا بآراء "توينبي" المؤرخ الأمريكي المعروف - أن ما يميز المدنية عن الحياة البدائية هو الإبداع ، وحب التقليد هو الذي جعل البشر يعيشون عيشة بدائية على مدى ثلاثمائة ألف سنة تقريبا . إن الأماكن التي يسهل فيها التقاط القوت تعوّد الإنسان على الكسل والأحلام . ولكن الحقيقة الكبرى التي يكد عليها الوردي هو أن المدنية والقلق صنوان لا يفترقان . يقول توينبي: (إن المدنية مسرح الشيطان ومجاله الذي تخصّص فيه). إن المدنية في رأيه هي نتاج التنازع بين الله والشيطان. وقد خلق الله الشيطان عمدا وسلّطه على الإنسان لكي يسيّره في سبيل المدنية. ويأتينا توينبي بفلسفة ساخرة في هذا الصدد حيث يقول : ( إن الحكاية التي تذكرها التوراة حول إغراء الشيطان لآدم وإخراجه من الجنة ، هي في الواقع أقصوصة رمزية تشير إلى ظهور المدنية وخروج الإنسان من طور الحياة البدائية إلى طور المدنية ) (533) .
وحسب رأي توينبي الذي ينقله الوردي فإنه في اللحظة التي يبدأ فيها الإنسان بالتفكير في غده ، يخرج من جنة عدن إلى هاوية القلق ، فتعلو وجهه آنذاك صفرة الغم ويشتد فيه الجشع وحب التملك وبذا تزول عنه الغبطة البلهاء . ويعود الوردي من جديد إلى إقامة استنتاجاته على أساس رفض المنطق الصوري القديم ، والتمسك بالمنطق العلمي الحديث . فهو يؤكّد على أن المفكرين الطوباويين لا يفهمون سر ارتباط المدنية بالشيطان، لأنهم يجرون في تفكيرهم حسب المنطق الأرسطوطاليسي القديم. وهذا المنطق يؤمن بقانون (عدم التناقض) . فالشيء عندهم هو هو ، أي أنه قائم بذاته ومنفصل عن غيره . أما المنطق الحديث فهو يرى الأشياء في تشابك وتفاعل وتناقض مستمر . وقد لخص هيجل هذا المنطق بقوله إن كل شيء يحتوي على نقيضه في صميم تكوينه وإنه لا يمكن أن يوجد إلا حيث يوجد نقيضه معه . ولا يفوّت الوردي هذه الفرصة في توكيد وجهة نظره في الكشف عن جذور هذا المنطق الهيجلي الذي يعيده إلى أطروحات المتصوفة وابن خلدون . فقد قال المتصوفة ، في معرض إجابتهم عن سؤال : لماذا خلق الله آدم ثم سلّط عليه إبليس فجعل الخير والشر متصارعين إلى يوم يبعثون ؟ فقالوا إن الشيء لا يمكن معرفته إلا بواسطة نقيضه . وإن امتزاج هذه النقائض هو الذي أنتج هذا الكون . وعلى هذا فإن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الله الذي هو الحق إلا إذا عورض بالباطل . فمشكلة الشر تُفسر عند المتصوفة على هذا الأساس . فالشر في نظرهم ضروري لوجود الخير . والإنسان لا يدرك الخير إلا إذا كان الشر مقابلا له ، كما أنه لا يفهم النور إلا إذا كان وراءه ظلام . أما ابن خلدون فقد ذهب إلى ما يقارب هذا الرأي الصوفي في مسألة الشر ، فهو يقول :
( قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير من أجل المواد فلا يفوت الخير بذلك على ما ينطوي عليه من الشر اليسير وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهّم ) (534) .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى