الثلاثاء ٢٣ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم محمد متبولي

أربع غمضات و حلم

يجلس بوجهه المتجعد ، و جلبابه القديم ، و عقاله الموروث أبا عن جد ، بين الكثبان الصفراء موجها عينيه نحو قرص الشمس تماما مثلما اعتاد أن يفعل لأعوام لم يعد قادرا على إحصاءها ، يلقى نظرة فاحصة حوله ثم يغمض عينيه و يتخيل تلك الصحراء القاحلة و قد تحولت إلى مروج خضراء تتخللها ينابيع للماء العذب ، يقترب من تلك الينابيع فيجد الحمرة غطتها ، يفتح عينيه مفزوعا ، يتساءل فى ألم ، ألم يحن لتلك الأرض أن ترتوى بعد كل تلك الدماء الطاهرة التى سالت عليها ، و أن تنبت الخضار الباعث على الحياة بدلا من إنباتها لقبور الشهداء و دموع الثكالى و ترمل الزوجات و يتم الأبناء ، يغمض عينيه مرة أخرى يرى النيران تلتهم ما حوله و تقترب منه، تحرق رداءه و تستعد ألسنتها للنيل من رأسه و الفتك بجسده ، يفتح عينيه و يتساءل ألم تكن تلك النيران كافية لتحويل صفرة الرمال إلى سواد الطمى ، و طاقة الحرق و الدمار إلى طاقة تدير المصانع و تنمى الديار .

يغمض عينيه يعود إلى الصورة الأولى و لكن بلا حمرة أو نيران ، يتخيل للحظة أنها الحقيقة يفتح عينيه ينظر حوله يجدها هى نفسها الصحراء الجرداء التى ألفها ، يستلقى على الكثبان يغمض عينيه ليستكمل الحلم ، يرى الخضار أتسع مداه حتى لم يتبقى من مشهد الصحراء شئ ، يشاهد المياه و هى تتفجر من حوله و الأغنام و هى ترعى فى أمان و المنازل تبنى و المدارس و دور العبادة تشيد ، يشعر بالسعادة و تظهر البسمة على وجهه ، إنها البسمة التى فارقته منذ الصبى و حل محلها القلق و الوجوم حتى تجعد وجهه قبل الأوان تعود له الآن بعد أن اصبح بمقدوره أن يتخيل الحلم الذى عاش طيلة عمره ينتظره دون جدوى .

شعر بحركة حوله فتح عينيه إنها نفس صورة الحلم لم تتغير ، ترى أفقد عقله بعد أن هيأ له الحلم على أنه حقيقة ، أخذ يغمض و يفتح عدة مرات دون أن يتغير المشهد ، انتفض من موضعه واقفا ينظر حوله ، يرى وجوها يشعر انه يعرفها تشبه أناس التقى بهم على امتداد الزمن و ودعهم منذ أمد بعيد ، توجه نحو القبور وجد الشهداء يخرجون منها بكامل حلتهم ، يمسكون بأيديهم اليمنى الفؤوس و اليسرى الشاتلات ، أخذ يتحسس وجهه لقد زالت منه التجاعيد ليعود مرة أخرى لسن الشباب ، توجه نحو مواقع ما تبقى من أسلحة مدمرة و ألغام مزروعة فى باطن الأرض ، لم يجد منها شيئا بعد أن حلت محلها طواحين القمح و أشجار الزيتون .

فكر فيما حدث ، لابد أن الزمان قد عاد بنفسه إلى الوراء ليصحح مسارا خاطئا و سقطة غير مقصودة من سقطاته ، فيأخذ الدماء و يعطى الماء ، و خصوبة الأرض بدلا من النبران ، و طاحونة القمح بدلا من اللغم ، و يعيد الشهداء إلي الحياة مرة أخرى ليضحوا بعرقهم لا بدمهم من أجل النماء ، يستلقى مرة أخرى على الرمال يستشعر الهدوء و الصفاء من حوله ، يشتم رائحة الطهر و الجمال ، يسمع موسيقى خافتة هادئة ، و صيحات الأطفال من حوله وهم يلعبون دون خوف تملئ الدنيا بهجة ، يذهب في ثبات عميق ، تدمع أعين من حوله وهم يحفرون له مثواه الأخير و مستقره الأبدي فى تلك الصحراء القاحلة سائلين المولى عز و جل أن يجد ما لم يجده فيها فى حياته الأخرى بعد أن أهالوا عليه الرمال .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى