الأحد ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٦

سيرة المعتمد بن عبّاد في مخطوطة الأحلام

محمد عبد الرضا شياع

سيرخيو ماثياس Sergio Macias شاعر وكاتب من شيلي ولد عام 1938 في مدينة غوربيا Gorbea، يعيش في إسبانيا بعد أن ترك بلاده إثر سقوط حكومة سلفادور اللندي عام 1973 على أيدي الطّغمة العسكريّة الفاشيّة... وكأنّ إقامته في إسبانيا سحر جذبه إلى الاهتمام بما هو عربيّ، متّخذاً من هذا العالم موضوعات تتعدّد وتتجدّد باستمرار لكتابة أقلّ ما توصف بأنّها كتابة حالمة بطقوسها ومرجعيّتها الشّعريّة والنّثريّة، لأنّها توائم بين القديم والحديث بأسلوب يجدّد تدفّق الدّماء العربيّة في عروق الإبداع الإسبانيّ... ومن بين الدّراسات الّتي كتبها الشّاعر الشّيليّ

"فلسطين في الشّعر العربيّ المعاصر"، و"مساهمة في مدّ الجسور وتقريب المسافات بين الأدبين العربيّ والأمريكيّ اللاّتينيّ"، كما كتب عن شعراء عرب محدثين ومعاصرين، وشعراء أندلسيّين..ولعلّ الدّيوان الّذي نحفل به الآن يُعدُّ من بين أهمّ الكتابات الّتي تحمل بصمات هذا الشّاعر الإنديزيّ الإبداعيّة؛ إنّه ديوان "مخطوطة الأحلام Manuscritos de Los Sueños" الّذي قام بترجمته إلى العربيّة الشّاعر المغربيّ عبد السّلام مصباح. ونظراً لشغف الشّاعر المغربيّ بما يكتبه مبدعو إسبانيا وأمريكا اللاّتينيّة جاءت ترجمة هذا الدّيوان محافظة على روح النّصّ الأصليّ إلى حدّ يستحق التّنويه.

"مخطوطة الأحلام " ديوان شعريّ يتناول سيرة الشّاعر المعتمد بن عبّاد عبر محطّات تثير الدّهشة والانفعال، بل تصل أحياناً إلى حدّ الاستغراب، لكون ابن عبّاد ترك وراءه جدلاً محتدماً بين الكتّاب والمفكّرين شرقاً وغرباً، منهم من ينتصر له ومنهم من يثور عليه. ولعلّ هذا الجدل المحتدم ناجم عن المآل الّذي انتهى إليه الملك الشّاعر، حيث اقتاده الملك المرابطيّ يوسف بن تاشفين ليأتي به أسيراً في صحبة أسرته ليقضي ما تبقّى من حياته سجيناً في مدينة أغمات ثمّ يدفن هناك.

لقد تركت هاته السّيرة المشوّقة والمؤلمة- في الآن ذاته - نتوءات لا توارى في ذاكرة ماثياس؛ فجاء هذا الدّيوان الّذي كتبت أبياته بكلمات كان الشّاعر يبحث عنها "كما لو كانت أحجاراً كريمة ليرصّع بها قصائده"، مثلما تقول الأستاذة ماريا خيسوس روبيرا ماتا أثناء تقديمها للدّيوان، والّتي تضيف بانبهار شديد: " هذا العمل الشّعريّ يوآخيه مع شعراء الأندلس الباحثين مثله على الكلمات الجواهر. بشأن المعتمد وابن عمّار مغنّي الغلمان، وابن زيدون مغنّي الحنين إلى خرائب مدينة الزّهراء؛ المدينة الخليفيّة الحاملة اسم امرأة".

هكذا جاء الدّيوان متوّجاً بسرّ الرّحلة ومخاطرها. بل بسيرة المعتمد المليئة بالضّدّيّة والازدواج، وكأنّ حياته جحيم وجنّة: "كان قاسياً فظّاً - وفي الوقت ذاته - كان كريماً نبيلاً"، مثلما تقول الأستاذة ماتا. ولعلّ الدّرّة اللاّمعة في تاج حياته هي تلك الجارية الّتي أحبّها وأحبّته فاتّخذها زوجاً له؛ إنّها اعتماد الرّميكيّة الّتي ذاب فيها سحراً، فتلاشت بين أيّام زمانه نوراً وظلمةً. لقد وحّدهما الحبّ: ملكاً وجارية، فكأنّ النّهرين تبادلا مجريهما، حيث:

يسير العاشقان
على ضفتي نهر
مفتونين بالأريج
بالكلمات الفلكيّة
بسلام الصّفصاف.
بين تموّج النّاعمات
تظهر
الجارية الرّميكيّة،
ترقص فوق زرابيّ الأزهار.
صوتها
عذب مثل النّسمة
بأشجار التّفّاح...

لقد أبدع ماثياس بتجسيده لهذه العلاقة الحميمة بين المعتمد وجاريته الرّميكيّة عبر الصّور الّتي رصدها لحياتهما، والّتي كانت تنمّ عن معرفة باطنيّة بما يدور بينهما. فمن يتأمّل الصّور الّتي بثّها الشّاعر الشّيليّ بين ثنايا ديوانه يدرك العلاقة بين العاشقين وكأنّ كلاً منهما ينادي الآخر يا أنا:

مثل شمس أفريقيا
يُدمى عاطفة قلب المعتمد.
في وسط اليعاسب
تغنّي الجارية الجميلة
ويرتعش الصّبح
في مرج من فضّة.

لم يتوحّد العاشقان عبر لغة الشّعر وحسب، وإنّما بلغ هذا التّوحّد بهما غايته من خلال ارتباطهما بأرض الأندلس؛ أرض الشّعر والشّعراء، وأرض الحلم الّذي ظلّ يطارد الملك الشّاعر في كلّ زمان، ذلك ما تشي به نصوص الدّيوان الحافلة بهذه الرّحلة_ السيرة الّتي جعلت من الحبّ قضيّة تتمحور حولها باقي القضايا وتدور.. فمن هذه القضيّة تنبثق قضيّة الوزير الأوّل ابن عمّار رفيق شباب الملك الشّاعر المعتمد الّذي كان ينشد منه الوفاء. بيد أنّ هذا المبتغى يتحطّم على صلبان الحبّ كما تتحطّم الأمواج وتتلاشى على صخور الشّاطئ فيندلق كلّ شيء من قوارير الزّمن. فعندما يبلغ الحبّ ذروته بين المعتمد وجاريته حيث: المعتمد والرّميكيّة

يتحابّان
بين مزارع عنب
الكواكب.

تحطّم الغيرة أسوار قلب ابن عمّار، وتحيل ضياء صبحه إلى ليل داج، حينذاك "يبدي المحبّ مرارته في عزلة تطرز دبق الشّهب"، لذلك لابدّ أن يقول لمليكه كلمة الوداع لأنّ "حبّ الملك للجارية يتركه ذليلاً مهجوراً مع ألمه العميق".

من هنا تبدأ أنوار الحبّ بالأفول، وأحزان الزّمان بالّتجدّد؛ لأنّ إشبيلية ستدركها كآبة الغروب حين يودّعها الملك الشّاعر العاشق مرغماً مخلّفاً وراءه سيفه وقلبه:

انهزم المعتمد
في معركة ساراخاس.
ترك تجار الحرير
حياكة السّحب
في بساتين الأندلس.
لم تُعَد تُسمع
وشوشات البنفسج
ولا الشّحارير المرتحلة
في قطار الرّيح.
صار عبداً ماشياً إلى المنفى
صحبة الرّميكيّة.
كلّ شيء
أمام شجاعته
انحنى.
وفي
القلب
يحمل
أسدُ
الشّرق
هياجاً
وحزناً،
وخناجر باردة
في
الرّأس.

كانت سيرة المعتمد وتداعيات الأمكنة الّتي عانقها بعشقٍ لا تغيبُ نجومُهُ الذّاكرةَ النّصّيّة الّتي منها استمدّ ماثياس وهج قصائده، بالإضافة إلى الكلمات الّتي تنبض بالرّوح العربيّة، والّتي تقول عنها الأستاذة ماتا بأنّها: "كلمات جمعها ماثياس خلال رحلته الطّويلة إلى البلدان العربيّة، كلمات (يونة، أبو قلمون، كتب الملاحم)، لكونها تشكّل في اللّغة العربيّة طرفاً من استحضار الجنّ والعفاريت، لذا لا ينبغي تفسيرها، لأنّ إيهامها يضفي على القصيدة جمال الأحجار السّوداء، جمال خرز الكهرمان الأسود".

لقد تجاوز ماثياس النّظرة الأحاديّة في قراءته لهاته المرجعيّة النّصّيّة: - سيرة المعتمد - لذلك تعدّدت القيم الفنّيّة لديوانه الذّي يبدو وكأنّه سجلّ داخليّ لحياة ملك وشاعر، عاشق ومحارب، منتصر ومنهزم، أغرى بحياته - الملبّدة بالسّحب والمتدثّرة بالنّجوم - الأقلام للكتابة عنه بعشق تتوحّد فيه الدّهشة والحقيقة مثلما فعل ماثياس، لتظلّ:

تحكي ذاكرة القرون
عن موت العاشقين
في أغماتْ .
محمد عبد الرضا شياع

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى