الخميس ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٦
بقلم رشا السرميطي

قد نكتب يومًا؛ وفاء لخيبتنا

رواية عسل الملكات للكاتب ماجد أبو غوش، صدرت في (166) صفحة من القطع المتوسط عام 2016م عن الدَّار الأهليَّة للنَّشر والتَّوزيع- عمان. وقد أشار كاتبها على الغلاف الخلفي بعدم تصنيفه الأدبيِّ لها، حيث كتب:" رواية، أم حكاية، أم نص طويل؟ ماذا يهم ما دام المتن قادرًا على حمل المعنى"، وكأنَّه يوحي لقارئه بالترَّكيز على الفكرة والأحداث دونما قراءة النَّص ضمن لونه الأدبي – رواية، وكذا محاكمة النَّص بالاستناد على أدوات وفنون كتابة الرِّواية، وفي هذا كله تردد يضعف المتن نفسه، بالتَّأكيد كقارئة، أنحاز لدراسة قوالب الأدب ومراجعة محاولات الكتاب مرارًا، ليس لغرض أسمى من التَّمكن منها، والإلمام بأسرارها، بغية صعودنا في الأدب الفلسطيني عامة، وأقلام الكتاب خاصة ممَّن قد تعجبني نتاجاتهم الأدبيَّة.

الغلاف الذي صمَّمه الفنان زهير أبو شايب، حمل اللون الرمادي، فذلك شأن صريح ودلالته الفنيَّة عدم وضوح الرُّؤية في المتَّوقع من الحزب إبان الانتفاضة والكائن الواقع هناك بعد " الخراب" إن جيز لي الوصف والتسميَّة، إنَّه الضجيج ربمَّا الذي احتضن أبطال الرواية: علي، أحمد (الذئب)، خالد، غزالة، مريم، عاليا، أما لوحة "زهو هاو" بالنِّسبة لي لم أفهمها قبل قراءة الرِّواية، وبعد الانتهاء منها أيضًا! لكنَّني أعزي رضى الكاتب عنها، ربما لأنَّه ينتقد فترة زمنيَّة في حياة الثَّورة الفلسطينية خاصة بمدينة رام الله والحزب الذي انتمى إليه أبطال روايته، وكأنَّني أستشف من ذلك استيراد لوحة تشبه الواقع الحقيقي السائد بملامحه الصِّينية غير المفهومة، كما الذين يديرون صيرورة الحزب وما آلت إليه الأحداث الآن، حسبما كتب أبوغوش.

عنوان الرِّواية:" عسل الملكات"، العسل شفاء، والعسل من ملكة النحل خطير لأنَّه رغم قدرته على الشِّفاء يمكن تحوله لسم إذا ما تجرعه زيادة غشيم في العسل مات، دلالة العسل مذاق حلو، لكنَّ الرواية بأحداثها مشبعة بالمرارة، وفي ذلك تناقض، ربما اعتمد الكاتب أبو غوش على بعض ومضات الحب في الرواية فاستند على ذلك للتَّسمية، لكنَّني كقارئة أميل للحدث الأكبر والأبرز بها، ألا وهو التَّخلي وخيانة الحزب لمن كانوا أوفياء له، وأعتقد بأنَّ ذلك أجدر أن يستحوذ على العنوان، وقد أقترح عليه تسميتها:" خراب".

فيما يتعلق بأسماء الشَّخصيات، لم أبلغ هدف اختيار الكاتب بعض الأسماء، مثل: الذئب والغزالة، وإن تعمقت في دلالة المعنى، الذئب يأكل الغزالة، ويطاردها في السهول حتَّى يظفر بها ويمزقها، بينما تهرب منه وتشرد في السهول بذكائها، وهذا عكس ما جرى بين أبطال رواية عسل الملكات، الذئب من الحيوانات المنقرضة في بلادنا نتيجة الملاحقة أو القتل العمد، وكذا ينتمي للبيئة الصحراوية وفي ذلك دلالة على القوة والصبر والتحمل، وهي لا تعيش في القطعان، ربما هذا ملائم لشخصية أحمد، لكنَّ المناقض لعواء بطل الرواية –أحمد الذيب- وما عرف عنه من عادة العواء أنَّ الذئاب العربيَّة لا تعوي، وقد ذهب الكتاب العرب قديمًا لوصف الرجل بالذئب عندما يكون قويًّا وداهيًا، مثل قصص كليلة ودمنة والجاحظ، وقد حمل الذئب رمزية الغدر والشراسة والتعطش لدماء القطيع، وهذا مخالف لصمود وثبات أحمد بطل الرواية، بينما الغزالة حيوان بري أليف ولا يطيق الذئب، فكيف جمع بينهما أبو غوش في قصة غراميَّة لنقل مجازًا شجع على قيامها كل من خالد وبقيَّة الرفاق بالحزب! وكأنَّه جمع التناقض لغاية ما لم أفهمها رغم محاولتي للربط والتفسير كقارئة. كما أنَّ دلالة الذئب، وبعد قراءتي للرواية أقول: لم يوفق ماجد أبو غوش بتسميته، شخصيَّة – أحمد الذيب – حيث حملت صفات أسمى من وصفه ذئبًا، سواء في نضاله إيان وجوده بالحزب، أم بثباته عند الاعتقال والتضحيَّة بحياته الخاصة مع محبوبته الغزالة لأجل الحزب والوطن، ونهايته المؤلمة لأجل أن يبقى غيره كل ذلك متناقض تمامًا مع مسمى ذئب ومع العواء أيضًا. أعتقد بأنَّ الكاتب رمى من وراء ذلك جانب القوة والدهاء وفاته البحث عن السِّمات الأخرى التي قد ينزلق القارئ المختلف للبحث فيها ودراسة جوانبها وبلوغ رمزية دلالاتها أيضًا. رمزيَّة الغزالة تصلح لأنثى رقيقة تبحث عن الحب في عيني بطل ثوري، هكذا هي النِّساء وإن كانت رقيقات مثل الغزالة والفراشة والوردة، تحببن الشرس والقوي باعتقادي، وأظنُّ لو أنَّ الكاتب استبدل التسمية باسمين مثل أحمد وأي اسم أنثوي آخر لكان الأمر أكثر جمالاً، ويسرًا على القارئ الذي في كل مساحة قصيرة من السَّرد، يجد نفسه أمام ثلاث كلمات: الذئب، الغزالة، العرق.. الذئب، الغزالة، العرق..

تسلسل الأحداث زمانيًّا ومكانيًّا؛ وفق أبو غوش به ضمن وتيرة ربط النُّصوص بسرديَّة جميلة، مشوقة حينًا، وسلسلة على القارئ في أحيان كثيرة، تتابعت الصفحات منذ البداية حتى النِّهاية في بساطة لتغدو رواية جيدة، مع الانتباه لبعض التقنيات الفنية عند كتابة الرواية، والتي يتوجب على الكاتب العناية بها في أعماله القادمة إن اعتمد الرواية لونًا لكتاباته.

الأماكن كانت عديدة في رواية – عسل الملكات، لكنَّ الكاتب أبو غوش لم يصفها، واكتفى بذكر الأسماء دون التغلغل في ما ورائها، دونما اعطاء حياة لحجارتها، وموجها، وصخورها، هو عاشق للبحر في روايته وصيد السَّمك، لكنَّني كقارئة لم أزر الشاطئ على الورق، ولم أشتم رائحته، لم ألمح نورسًا، ولم أتعثر بصدفه، فقدت حيفا ويافا وقيساريَّة التي كتب عنها، أما في رام الله لم أتعرف أيضًا على الأماكن التي كانت مجرد أسماء، وكأنَّها قطوف عنب متدليَّة أمامي كلما حاولت الامساك بها تناثرت حباتها، وصرت في المشهد الآخر، القدس التي ربط الكاتب وجودها بــــ " تمارا " الملكة أيضًا لم تحظ بالكفاية من الوصف المكاني الذي لو تطرق له الكاتب لأغنى سرديَّته وجعل منها أدبًا صلبًا ومحكمًا في البناء، ربما فاتته أهمية المكان فطغت الفكرة على حسابه.

لقد كانت هناك شخصيَّات زائدة، بل دورها ناقص، مثل: تمارا، تلك البطلة الغامضة التي حركت مشاعر – علي – وكادت تصيبه بالجنون حتى صار يجيء للقدس بحثًا عن طيفها، واكتفى مقتاتًا بعلاقة الكترونية تجمعهما عبر رسائل تموت أصابع من كتبوها ميتة مفاجئة، تتحول لأصنام بلا حراك، ثمَّ تعيش بشكل مباغت دونما سابق انذار، تساءلت كثيرًا عن أهميَّة هذه الشخصية في مجريات أحداث الرواية وهدف كتابتها، خاصة بأنَّ الكاتب سماها " الملكة" والرواية حملت عنوان:" عسل الملكات" لم أجد الكلمات التي حملت نبض كل من: علي وتمارا - كافية لي كقارئة، حتَّى كدت أفكر بأنَّ تمارا رمزية للمدينة نفسها، وأنَّ الكاتب جعل من علي يطارد سرابًا أي ضاعت المدينة التي يراها ملكة بعينيه، لم يقنعني وجودها.

اللغة بدت في بعض أجزاء الرواية، جميلة، محكمة، صادقة، ومؤثرة، لولا التصاق الكاتب بعقدة ( الكحول) هذه العادة التي أصر ماجد أبو غوش على جعلها في أحداث الرواية ملازمة ما انفك عنها سواء من الحزبيين رفاق أبطاله أم من رفيقاتهن، شرب المنبهات التي لازمت الكاتب فيما قرأت له قبلاً، تبدو -عقدة قلم- ولم أجد لها مبرِّرًا، فلو لم يبالغ لذلك أظن بعض الأحداث صارت جميلة، وكذلك المشاهد بدت أكثر جمالاً، خاصة أنَّه كرر نفس المقطوعة، في أكثر من مرة، غضب، حزن، هيَّا بنا نشرب، عرق ومقبلات، ثمَّ نصبح بخير.. هذه النهايات الاستسلامية لم ترق لي أبدًا كقارئة، خاصة عند الحديث عن ثورة ومناضل، أهل في ذلك تعميم لشخصية من كانوا بالحزب؟ والشرب سمة خاصة لمن يناضل؟ صحيح أنَّ الانسان قد يهزم، ويلجأ لهذا الوهن فيشرب بذريعة أن ينسى حتَّى يُنسى هو فقط ويموت، لكن التكرار يضعف الفكرة ويضعف النَّص وبالنسبة لي لا ضرورة له، إذ يضفي جوًّا من الملل على القارئ في خواتيم روتينية، بات عارفًا لها، وخرج من دائرة الاكتشاف، والاثارة، والتنبؤ الذي يصطحب القارئ شغوفًا بما وراء الصفحة القادمة.

الوصف والسَّرد للأشخاص والأماكن كان قشوريًّا بشكل عام، لم يتعمق الكاتب بصياغة حياة هؤلاء الأبطال حتَّى يعيش القارئ في تفاصيل دورهم على الورق، واكتفى ببعض اشارات ربما كانت قليلة بهدف وضوح رمزيَّة الأشخاص الذي كتب عنهم بالنسبة إليه، لكن قارئه: هل بدت له الشخصيات واضحة؟ بالنِّسبة لي: لا. لقد بلغت عموميَّة الفكرة التي كانت مفهومة في تفاصيلها البسيطة ضمن هروب من المواجهة مآله التدخين وشرب العرق والانعزال أيضًا.

الحوار الداخلي بين شخوص الرواية وهو ما يسمى بالمونولج كاد منعدمًا إلا في رسائل أحمد ومع ذلك بدا ضعيفًا، رغم أنَّها مناسبة قويَّة للتصريح عن مجريات أحداث مرت بها الثورة وأشخاص مثلوا الحزب والسلبيات التي بدا الكاتب مواربًا عنها ولم يتطرق لها بعمق وصخب- حتَّى عمَّ الخراب، أما فيما يتعلق بالديالوج؛ الحديث العام بين أبطال الرواية بدا مملاً في بعض المواقف، مثل حديث المحقق مع أحمد، وتكرار مشهد الضرب وغسل الوجه من الدم، كان بامكان أبو غوش أن يستثمر رسائل أحمد لعلي بكتابة أدب مكثف عن عذاب السجن والتحقيق ممن تعرضوا له من أفراد الحزب، وكذا حديث علي مع الغزالة، مثال ذلك صفحة "122" يقول: هذه الباقة لك يا رفيقة/ شكرًا يا رفيق، ما أجملك/ العفو يا رفيقة/ تعال إلى الداخل لنشرب شيئًا. لقد تكررت كلمة "رفيق ورفيقة" كثيرًا في معظم صفحات الرواية، وفي هذا روتين وركاكة بالصياغة. في صفحة "159" يقر بأنه تعلم عادة شرب العرق من رفيقه بالحزب، ويقول:"..إن لكل شعب مشروبًا.... أما نحن العرب أهل الشام فشرابنا العرق"، لا أوافق الكاتب مع هذه المعلومة الخاطئة التي ينشرها لقراء العالم! بل وأخالفه، شرابنا الشاي بالميرمية، الزعتر، القهوة، الزَّنجبيل واليانسون، الليمون والتمر والرُّمان، وكثير غير العرق الذي تراه شرابًا لأبطال روايتك، فلا تعمم بروايتك ماليس للعرب عامة والمسلمين خاصة، ودعك من حانة المغارة وعادة الشرب، اخرج من تلك الدائرة بما تنشره على الأقل وتخلص من تلك التفاصيل لأنها تضعف ما تكتبه.

أما بخصوص متن الرِّواية كما أشار له ماجد أبو غوش، وهو مضمون الرواية الذي أبحث عنه كقارئه هادفة منه امتلاك شيء ما بعد كل رواية أقرأها، إنَّ رواية عسل الملكات جيئت لتكتب وفاء الكاتب لخيبته، سواء كان النص حقيقيًّا أم ابتكره خيال صاحبه فأنَّها تنتقد بوضوح مآل ممثلي الحزب بعيد الانتفاضتين واتفاق أوسلو، خيبة مؤلمة لمن ضحى بعمره وأيام شبابه ليحضِّر الكرسي المرصَّع لغيره، الذي وصل نظيفًا ليستلم المكان ويفاوض على الفكرة الثورية بحد ذاتها، متناسيًا المتشرد، والملتاع، والمتشقق وجعًا من سعيه وراء حلم الحريَّة. حاضر ذبل أمام ماض ظنَّ أبطال الرِّواية بأنَّه يستحق، تفرق شمل المندفعين، ليموتوا جميعًا، لكنَّ كل واحد منهم مات بطريقة خاصة، الذئب مات في جوف كلماته والغزالة ماتت في اكمال دراستها باحثة عن ضوء خافت يخرجها من عتمة هذا القدر الذي عاشت به وأحمد ذيب، أمَّا خالد فمات بحب عاتكة وانصهر باتجاهاتها الفكريَّة ليتحول من حزبي إلى شخص آخر نبتت له لحية، وقد اعتزل الناس وأصدقاءه ربما صار متديِّنًا أيضًا، وآخرهم علي مات في حياكة هذه الرواية وفاء لأحمد والأحداث التي جمعت هؤلاء النماذج الذين إن أمعنا النظر في حياتنا لوجدنا مثلهم الكثير، ممن ندموا على ما كان بالأمس في ظل حاضر مرقع بالخيبات- لأنَّه خراب، ربَّما.

إنَّ محاولة ماجد أبو غوش الروائية – عسل الملكات- جيدة نسبيًّا، وهي أفضل بكثير ممَّا قرأته محليًّا مؤخرًا، لكنَّني أرى حريًّا بكتابنا في فلسطين التمهل عند طرق هذا الباب للأدب- أدب الرواية، لأنَّه الأكثر شهرة عالميًّا، وقد تطورت فنون الرواية، لتأخذ مجريات وتقنيات عديدة تتناسب ومتغيرات هذا العصر، وليس على سبيل الحصر، روايات غسان كنفاني الأكثر شهرة قديمًا، لم تكتب بتقنيات روايات هذا الوقت. إنَّ على الرِّوائي ثقل يفوق امتلاكه للفكرة وقدرته على نسج الأحداث، عليه عبئ اصطياد قارئه بملء الرغبة لا مرغمًا، ذاك القارئ الذي تغيَّر أيضًا عن قارئ قديم ينتظر العرق والنساء وبعض أسطر مكسرة في الحب على صفحات كتاب، في ظل تغيرات الحياة التي نعيشها جميعًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى