الأربعاء ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

ليلة تسليم جلجامش لليهود (5)

أنبو الطيّب لا يشبه الإله الشرير "ست" يا ناجح:

يمضي الأستاذ ناجح في القول:

(ووجدت القراءة بان التناص اكثر وضوحا بين "انوبو" و"بايتي"والاله "ست" و"اوزوريس" وقد أضفى العقل الكتابي بعض الخصائص التي تميز بها كل من "حورس" و"اوزوريس" على الشاب: بايتي" واسقط – ايضا - بعض صفات الاله الشرير "ست" على الاخ الاكبر "انوبو" ويبدو بأن "بايتي يتوازى مع الالهين "حورس" و"ازوريس" من حيث العناصر الخاصة بالالوهة الشابة "حورس" والذي كان ملاحقا – ايضا – من قبل الشرير "ست" - ص 74) (38).

وقبل أن أواصل تساؤلاتي المُشكّكة في هذه الأطروحات، يهمني القول إن الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها المناهج الحداثوية وما بعد الحداثوية الغربيّة التي تلقفها النقاد العرب (وليس سرّاً أن النقد العربي يعيش على سلال مهملات النقد الغربي)، هو أنها جعلت القارىء العربي الغير مُحصّن، يركز على لعبة الشكل النصّي ولغة النقد المتعالية – metalanguage، ولم يعد ينتبه بقوة وحذر إلى ما يمرّر خلف استار الشكل الباهرة هذه من مضامين شديدة الخطورة الكثير منها يلغي أفكاراً ونظريات وأطروحات فكرية وفلسفية مؤسسة في التاريخ المعرفي الإنساني، ويثبت الركائز لأفكار ونظريات وأطروحات فكرية جديدة ملفقة وشديدة الخطورة تخدم أفكارا سياسية أو أيديولوجية مناقضة أخطر ما فيها أنها تطيح بحقوق ثقافية ومعرفية ناجزة لجماعات بشرية محدّدة، وتستبدل بها مزاعم ثقافية مُصطنعة سوف تصبح حقوقا لجماعات بشرية أخر (المقصود هنا تحديداً: اليهود)، وبلا أدنى وجه حق.

وبقدر ارتباط الأمر بالمقطع السابق الذي يتحدّث عن إسقاط بعض صفات الإله الشرير ست على الأخ أنبو أقول (وهنا يجب أن نتجاوز بحزم موضوعة الإله أنوبيس وأنبو إله الموت أو إله المقبرة أو إله التحنيط، فنحن نتحدّث ونحلل حكاية الأخوين) إنّ من يعود إلى حكاية الأخوين، سوف يجد أن حالة من الصفاء والرضا كانت تسود العلاقة بينهما ؛ بين الأخوين أنبو وباتا. ولا تلاحظ أي علامة تذمّر من قبل باتا تجاه أخيه وهو يؤدي كافة الأعمال اليومية في الحقل والبيت، وباحترام كبير تجاه أخيه الأكبر.

وأترجمه الآن للضرورة القصوى:
(كان هناك شقيقان من أم واحدة وأب واحد، أنبو هو اسم الأكبر، وباتا هو اسم الأصغر،. وبالنسبة لأنبو فقد كان لديه بيت وزوجة، ولكن كان أخوه الأصغر بمثابة ابن له، فقد كان هو الذي يصنع له ملابسه، ويرعى ثيرانه في الحقل، وهو الذي يقوم بالحراثة، وهو الذي يحصد الذرة، هو الذي يقوم له بجميع الأمور في الحقل. وقد كبر الأخ الأصغر ليصبح أفضل عامل، ليس له نضير في البلاد، فقد كانت فيه روح إله.

(وبعد هذا يتبع الأخ الأصغر ثيرانه إلى الحقل على عادته يوميا، ليعود كل مساء إلى البيت محمّلا بكل خضروات الحقل، مع الحليب والحطب ـ وكل الأشياء من الحقل ليضعها أمام أخيه الأكبر، الذي كان يجلس مع زوجته، ويشرب ويأكل ثم يضطجع في زريبته مع ماشيته. وعند الفجر يأخذ الخبز الذي يخبزه ويضعه أمام أخيه الأكبر، ويأخذ معه خبزه إلى الحقل، ويسوق ماشيته لترتع في الحقول).

لاحظ أنه لا توجد أي علامات أو تعابير لتذمّر الأخ الأصغر من كثرة الواجبات التي يقوم بها في الحقل والبيت، مثلما لا توجد علامات على روح شريرة لدى الأخ الأكبر تدفعه إلى إذلال الأخ الأصغر وإهانته مثلا. ولعلّ أفضل علامة على روح التصافي السائدة بين الأخوين هو اليوم الذي استعدا فيه للحراثة والبذار، بعد أن انحسرت مياه فيضان النيل، وظهرت الأرض الخصبة في الحقول. فقد طلب الأكبر من الأصغر أن يهيّئ لـ (نفسيهما) ثيران جيدة وحبوب ذرة ليبدأا الحراثة صباح اليوم التالي. وقد قام الأصغر بما طلبه منه أخوه الأكبر. وفي صباح اليوم التالي ذهبا إلى الحقل مع لوازمهما، وكان (قلباهما مسرورين بعملهما) أي أنهما كانا يعملان سوية بتعاضد وبلا حساسيات. وخلال عملهما نفدت حبوب الذرة، فطلب الأكبر من الأصغر أن يُسرع في جلب حبوب ذرة من العزبة. وهنا بدأت مسيرة الخراب:

نعم.. لم تكن هناك أدلّة قاطعة على الروح الشريرة للأخ الأكبر أنبو ولم تفصح الحكاية عن مظاهر لشكوى أو احتجاج لباتا ضد اخيه من أعباء عمله، وكأن الحكاية تريد أن تصوّر لنا "طبيعة" الحياة بين الأخوين ممثلة بالرضا بما هو "مقسوم" لكلٍّ منهما. أي أننا لم نجد تناصا بين انبو والإله الشرير ست في البداية كما صوّر لنا ناجح الأمر في المقطع السابق (ص 74). أمّا في وسط الحكاية ونهايتها، فسنجد الأخ الأكبر يقوم بأفعال هي في غاية الطيبة في معاونة أخيه الأصغر على تحقيق ثأره، كما أنه يلعب دور المُنقذ لأخيه الأصغر حين يموت، في حين بقي الإله ست شريرا من البداية حتى النهاية، فست هذا (أو سيت وسيث) هو إله العواصف والصحراء والفوضى والظلام في الميثولوجيا المصرية والديانة المصرية القديمة (أي أنه شرّير بالطبيعة وليس مثل أنبو الذي صار شريراً في موقف محدّد).

وقد بدأ الخراب حين طلب أنبو من باتا أن يجلب لهما حبوب ذرة من العزبة، فذهب إلى البيت ودخل على زوجة أخيه في غرفتها وهي تسرّح شعرها، ليطلبها منها! وهو أمر غريب. إذ ما علاقة زوجة الأخ بحبوب الذرة؟! هذا التصرّف سوف يحيلنا إلى تأويل أعمق وأدق نؤجله إلى حين، ولكن علينا أن لا ننسى موقفا مدهشاً يدحض ما يقوله ناجح، ويتعلق بردّ باتا على محاولة زوجة أخيه في إغوائه حيث قال لها:

(أنت مثل أمّي وزوجك مثل أبي لأنه كان الأكبر قبل أن أولد، فما هذه الدناءة التي تقولينها لي؟ )

وحتى بعد أن طارد أنبو أخاه باتا البرىء، وفصل النهر المزدحم بالتماسيح بينهما، ظل باتا على موقفه الودّي من أخيه وزوجته بالرغم من غدر الأخيرة به ومن جور الأول عليه حيث خاطبه قائلاً:
(لأي سبب فظيع تلحقني لتقتلني بفظاعة؟ ومتى كنت لا تستمع لكلمات فمي؟ لأنني أخوك الحق، وأنت بمثابة أبي وزوجتك مثل أمّ لي، أليس كذلك؟ )

فهل هناك أكثر من هذا الدليل قوة في إثبات العلاقة الطيبة التي تجمع باتا بأخيه الأكبر التي جعلها ناجح "متناصّة" مع علاقة ست الشرير بأخيه أوزوريس؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى