الأربعاء ٣٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
بقلم مهند النابلسي

مفاجأة كان لعام 2015: فيلم ديبان

يلقي هذا الفيلم بجانبه الايجابي نظرة معبرة ومؤثرة لواقع النازحين والمهاجرين في اوروبا، وقد فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان 2015، وهو من اخراج الفرنسي جاك اوديار (صاحب تحفة النبي)...يقوم هنا جندي تاميلي سابق "أنتوني هاسان" (جيسوتاهاسان) بالنزوح لفرنسا لتأسيس حياة جديدة، ثم يجد نفسه مع عائلته الجديدة متورطا بالعنف في ضواحي باريس...الفيلم اللافت هذا بمثابة "ساجا" شيقة لقصة ثلاثة غرباء يواجهون ظروفا استثنائية صعبة تتطلب الصبر والعزيمة والنضال، وهو بالحق فيلم مشوق بجانبه "الشبه-وثائقي" الفريد، لقد انعمس المخرج الشهير باسلوب مسرحي في البداية ليبدأ بتركيب الأحداث وتعقيدها تدريجيا، كما لا يخلو الشريط من لقطات شعرية معبرة، ويستعرض بتماسك شيق الأحداث اليومية الروتينية كما التقلبات والمنعطفات الدرامية، الا انه ينتهي (وهذا بيت القصيد) بنسخة "ضاجة-صاخبة" لعمل حركي-اجرامي لافت ببصمات ميلودرامية نوعا ما وبنكهة فرنسيه-أمريكية خاصة!

لا شك من واقعية تصوير مشاهد التعامل مع النازحين الجدد في اوروبا وفرنسا تحديدا، كما يتقن تسليط الأضواء على العلاقات العاطفية الانسانية، مع متعة مشاهدة التفاصيل اليومية الحياتية، ومهارة خلق طبيعة تلقائية بالاداء، وكأن الكاميرا الذكية تصور احداثا تسجيلية ثم تتمايل وتنسج تفاصيل ذات علاقة هنا وهناك، وكما اسلفت فالنصف الأول من هذه الدراما شيق وكأن المخرج ياخذنا برحلة غوص بحرية لمعاينة المخلوقات البحرية المتنوعة وتفاعلات علاقاتها المتداخلة، وينهج باسلوبه السينمائي الواقعية الوثائقية مع شحنات انسانية عاطفية، ويتحفنا بين الحين والاخر بمشاهد جميلة لافتة...ثم قادنا تدريجيا للانغماس بمهرجان دموي وكليشهات عنف دموية مكررة، سارقا من السرد السينمائي الشيق قوة الاقناع وكأن لعنة سحرية قد استحوذت على النهاية!

تفاصيل الحبكة:

جيسوتاهسان هو جندي سابق من نمور التاميل اللذين انهزموا في الحرب الأهلية امام الجيش النظامي، ويضطر صاحبنا، بعد انتهاء الصدام العسكري الدامي وخسارة التاميل للحرب، يضطر صاحبنا الى اللجؤ القسري لمخيم النازحين، حيث يقرر الهروب واللجؤ لفرنسا للبحث عن فرصة جديدة في الحياة، وحتى يتمكن من تحقيق متطلبات اللجؤ السياسي فهو يحتاج لقصة مقنعة، تبدأ بمنحه جواز سفر رجل ميت، ثم بارتباطه مع زوجة افتراضية لا يعرفها سابقا واسمها باليني، وبرفقة فتاة ذات تسع سنوات اسمها لايال، ثم يركبون سفينة باتجاه فرنسا قاصدين باريس تحديدا، وبعد استقرارهم بشقة متواضعة يستلم عملا كبواب اسكان، حيث يبدأ ببناء حياة جديدة في مجمع اسكان بمنطقة "ليجابري-سانت-جريفيس" في ضواحي باريس الشمالية-الشرقية....وتدورهناك بالصدفة صدامات عنيفة محورها عصابات تهريب وترويج المخدرات...الفيلم بمجمله يوجه رسالة فريدة (غير تلقينية) الى الروح الانسانية، ويوضح كيفية تواصل الحب وازدهاره في ظروف مؤثرة وباسلوب غير تقليدي، كما يلقي أضواء جديدة على مواضيع الهجرة والنزوح التي تعصف الان تحديدا باوروبا كما يوضح لنا الأساليب الماكرة الخفية للاتجار بالبشر واستغلال معاناتهم!

اسلوب اخراجي فريد وسيناريو متماسك ونهاية غريبة:

مثل تصوير لحظات انكسار أشعة الشمس للغطاء السحابي من خلال أوراق الشجر في غابات سيرلانكا الساحرة، حيث نلاحظ أن معظم المشاهد تعج بالمغزى والدراما القوية المؤثرة...فنرى الكاميرا تعود بنا من حين لآخر لسيرلانكا وطن النازجين وتستعرض صورا تبدو كأحلام واستدعاء للذاكرة، مثل مشهد الفيل المهيب الحزين الذي يحرك المشاعر...كما نلاحظ عدم انسجام الفتاة في مدرستها الجديدة وتعرضها المستمرللاهانة، ثم نراها ونسمعها تقرأ شعرا معبرا بصوت مرتفع وغاصب ومستفز: حياتك لا شيء، بلا أصدقاء، وانت كريهة بلااصدقاء! وتثير بذلك حنق امها المفترضة فتضربها بحقد كامن...أما بطلنا السيرلانكي فتمثيله بالحق طبيعي وآخاذ ونرى عينيه تضجان معظم الوقت بالحقد والغضب والفخر كما باليأس والخيبة والاحباط، ويكاد من طموحه لا يكتفي بأعماله الاعتيادية كبواب وجامع نفايات في الحي الاسكاني المزدحم، بل يستخدم مهاراته الميكانيكية لاصلاح المصعد المتعطل. وفي مقطع آخر تستعرض الفتاة شعرا رومانسيا يتطرق للمد والجزر والطحالب المائية، ثم نسمع "النمر السيرلانكي" يغني ببؤس معبر يترافق مع لقطات مقربة لفيل مهيب هرم وحزين، والفيلة معروفة بالذكاء والطيبة والصبر والرغبة بالانتقام (الحيوان القومي لسيرلانكا)...ثم نستمتع كمشاهدين بالسعادة التي تغمر الزوجين فجاة مع الفتاة، ولا نفهم أبدا كيف تمكن صديقنا الجامح من النجاة في فرنسا بعد كل ما حدث من قتل وعنف وحرق وذبح، وبدا لوهلة وكأننا نشاهد فيلم "أكشن اجرامي تجاري"، حتى أن بعض الحضور السذج قد صفقوا اعجابا لمشاهد البطولة الخارقة التي أظهرها النمر السيرلانكي فيما قبل النهاية، والتي لم أكن شخصيا اتوقعها من مخرج فذ كاوديار (صاحب تحفة النبي التي سبق وأن حصدت الجوائز العديدة)...وخاصة مع النهاية السعيدة "الميلودرامية"، حيث نراهما وقد استقرا بلندن، حيث يقيم ابن عم زوجته المفترضة، وبدا استمتاعهما بحالة "استرخاء هانئة"، وقد انجبت الزوجة طفلا جديدا من علاقتها معه.

مشاهد غير منطقية وازدواجية المعايير:

لم أجد منطقا واقعيا في تعاطف رجل العصابات الفرنسي (المعروفين بالعصبية والنزق والعنصرية) مع الخادمة السيلانكية، مع أنه لم يعرف موقع بلادها على الخارطة العالمية، وتبدو مشاهد الطرافة الوحيدة في هذا الشريط "النكد" ممثلة باستفسار الفرنسي عن مغزى هزة الرأس المعروفة عند سكان شبه الجزيرة الهندية، الذي تفسره المرأة بأنه مرتبط بالحزن والفرح على حد سواء، وان كنت أعتقد انه مرتبط بكثرة الكذب الدارج عند هؤلاء السكان كوسيلة لتسهيل وتيسير امور الحياة! أما شخصية الرجل العجوز الذي تخدمه السيرلانكية، فلا تبدومنطقية اطلاقا من حيث عمره الذي يكاد يكون في الخمسينات، ونستغرب ونحن نراه يأكل لوحده باستقلالية مستخدما كلتا يديه، فيما نراه في مشاهد اخرى يعجز عن تحريك يده والتمدد على السرير...كذلك فعندما ينصح المترجم بطلنا المتنمر "جيسوتهاسان" بالحذر الشديد عند مقابلة مسؤولي الهجرة والنزوح، وتجنب الكذب "لأن كل القصص اصبحت معروفة"، ونلاحظ اكتشافهم السريع لانتمائه لنمور التاميل، ثم لا نعرف لماذا تقبلوا قصته الكاذبة حول الزوجة والفتاة الابنة المفترضة، كما أن مديرة المدرسة الفرنسية تتقبل بسرعة فكرة قيام السلطات الحكومية بحرق المدارس عندما تقابل الفتاة، وكأن ذلك عاديا تماما في الدول الاخرى...وربما يقود هذا التفكير "الذي يشيطن الحكومات العالمثالثية" عموما، ويدعم المعارضين بكل أطيافهم بلا استثناء، ويمارس التغاضي الساذج المشبوه عن دخول ووجود واندساس الارهابيين والمجرمين من مهاجرين ونازحين ومقيمين، أدى هذا السلوك "المزدوج المعايير" في المحصلة لما ذاقته فرنسا وبلجيكا وغيرها من الدول الاوروبية من عمليات ارهابية سافرة...وبينما تقوم السلطات الفرنسية بتسهيل امور ارهابي محتمل وثائر هارب مثل "ديبان" بعد ان يسرت له ولعائلته ظروف الحياة الامنة، يغتنم الفرصة السانحة لكي يمارس التواطؤ والقتل والاجرام ومن ثم الهروب لبريطانيا والعيش حرا طليقا هانئا دون ان يلاحقه احد ...هكذا نلاحظ أن ازدواجية المعايير هذه هي التي جلبت الويلات للشعوب الاوروبية "الساذجة" بدون ان تجرؤ على فضح حكوماتها المتواطئة، والتي لا يهمها الا تدمير الدول والأوطان "الشرقأوسطية والعربية تحديدا" وعقد الصفقات (التي تفوح منها رائحة الفساد والتواطؤ) ومن ثم أمن اسرائيل فقط!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى