السبت ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧

جدتي عكا

حلا عبوشي

في ليلة تشرينية، عندما كنت جالسة أمام المدفأة أحتسي كوباً من القهوة المرة كمرارة الصباحات، وأستمتع بصوت الموسيقى الصادر عن مداعبة أغصان شجرة الزيتون لزجاج النافذة، وأمتع ناظري بجدتي التي كانت جالسة على الكرسي الهزاز خاصتها منذ ساعات وتقوم بتطريز ثوب فلكلوري، شعرت أن شيئاً غريباً يراودني، وكأنني أشاهد فلماً وأعيشه في هذه الأجواء..
قالت لي جدتي التي كانت قد انتبهت لشرودي: يذكرني يا ابنتي هذا الصوت بشجرة الزيتون التي كانت تزين حديقة منزلي في عكا، كان صوتها مزعجا لكن لم نشعر يوماً بشيء سوا الراحة عند سماع صوتها، كانت تلك الشجرة أجمل ما في الحديقة، كنت أظنها الزهور لكنني اكتشفت ذلك بعد مغادرتي لذلك البيت، ومغادرتي للحارة وحتى المدينة..

قلت - غير قاصدة تغيير الموضوع -: لمن تطرزين هذا الثوب؟

قالت: لي، أم ترين أنني أصبحت أكبر من أن أرتدي الملابس المطرزة الجديدة! طرزته لأرتديه يوم العودة يا ابنتي، لقد خرجت من بيتي بثوبي المنزلي الممزق و حجابي المتسخ، لكنني سأعود بثوب مطرز بألوان عزتنا و صبرنا و انتظارنا لذلك اليوم، لأظهر للبيت أنني كنت سعيدة بلقائه عكس انكساري عند اللجوء، سأكون عند العودة أجمل، بالرغم من أنني قد كبرت 50 عاما، و معالم وجهي التي كانت فاتنة تحولت لتجاعيد..

قلت: لكن عيناك لا تزال كما هي، كالقهوة، أحبها لكنها مرة، تزداد تجاعيد وجهك لكن عيناك لا تتغير، اللمعة ذاتها و الامل ذاته، أتعلمين؟ كلما نظرت لعينيك رأيت عكا، لم أرى عكا قط لأشبه شيئا عليها، لكن عيناك عكا، أرى فيها مآذن تنادي: حي على الكفاح، حي على العودة، أرى فيها أجراس الكنائس تدق، و أراني.. جالسة على سور عكا، و للمرة الأولى لا أعاني من دوار البحر..
قالت: في ذلك اليوم تركت طبخة الملوخية على الموقد، و خرجت دون أن أحزم أمتعتي، دون أن آخذ ملابسنا ولا حتى دمية طفلتي، لم أكن لأعرف أن - الاستراحة المؤقتة - كانت لتدوم..
قاطعتها: لكنها لن تدوم! كنت على صواب!

قالت - بابتسامة خيبة -: نعم، لن تدوم، حتماً لن تدوم..

أردفَت سائلة - ببعض من الخجل -: إذن، ذكريني، ما اسمك يا ابنتي؟

أدركت حينها أن النسيان تمكن منها حتماً، و الزهايمر استولى على ذاكرتها، لكن لم يقدر على تاريخنا، مهما خانتنا الذاكرة، لا ننسى أين خبأنا مفاتيح منازلنا إلى حين العودة، حتى و إن أصبحت ركاما.

حلا عبوشي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى