الثلاثاء ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم حسين سرمك حسن

عرض ونقد كتاب «أرض النهرين»

تأليف: أدون بفن

تواصل دار ضفاف (الشارقة/بغداد) للطباعة والنشر جهدها المتميّز في نشر الكتب المترجمة والمخطوطات التي تتعلق بتاريخ العراق القديم لتحصين الجيل الحاضر بالوعي المطلوب بتاريخه المجيد الذي يكاد يذوي ويضمر – للأسف - في عقول وذاكرات الأبناء في الوقت الحاضر. وضمن جهدها المبارك هذا يأتي هذا الكتاب "أرض النهرين" الذي ترجمه الأب انستاس ماري الكرملي (المتوفى في 7 كانون الثاني 1947م، والذي نقل هذا الكتاب إلى العربية في شهر آب سنة 1918م، وساعده في ذلك الأب لويس مرتين الكرملي- ص 3). ولم يتسن له نشره في حياته حسب قول الأستاذ "حكمت توماشي" من أمناء مكتبة المتحف العراقي الذي تصدّى لإخراجه ونشره (ص 4)، لتأتي دار ضفاف فتكمل هذا الجهد بإعادة نشر هذا الكتاب المهم.

يتناول الكتاب (166 صفحة) حضارة وادي الرافدين منذ فجر حياتها بصورة موجزة طبعا. ويلخص المؤلف هدفه من وضع كتابه هذا ببساطة في مقدمة الكتاب قائلاً:

(ليست غاية هذا الكتيب أن يتحف القارىء بشيء جديد، كما ليست غايته أن يرجع إليه بمنزلة كتاب نصوص أو مقالة معلمة (دائرة معارف)، بل غايتي أن أدون كتابة ما يفعله رجل في مخاطبة رجل آخر إذا ألقى عليه سؤالاً في مطاوي الكلام وهو:

ما كانت الجزيرة في الماضي؟ فلقد اشتركت الآن البلاد التي نسميها خطأ الجزيرة والبلاد المعقودة بناصيتها - أرمنية والأناضول وفلسطين، وبلاد العجم، بمصالح تهم كل إنسان ويتحدث بها اليوم، وكلها ترجع إلى مسائل تعود إلى السياسة التي قد أخذ بأطرافها، فهذا ما حداني إلى أن أطرف القراء بذكرى جديدة هي عجالة تطلعهم على ما كانت تعني هذه الألفاظ في الماضي، فإن غابرها قد بدا للعالم كله مدة عدة قرون فإذا أراد القارئ أن تتجلى حوادثها الماضية أمام فكره في ساعةٍ واحدة أو ما يقرب منها فلا بد من أن يصطدم بأحد أمرين: إما أن يقف أمام تفاصيل أخبار ناشفة من كل لذة لا يحصى عددها مع سماع أعلام لم تألفها آذانه، وإما أن يهمل كثيراً من الأحداث الجوهرية الضرورية لتصوير صور التاريخ بجميع مناظرها.

أما أنا فحاولت أن أبين ما يهم القارئ من الأمور الرئيسية وأهملت التفاصيل التي لا تلزم أعظم لزوم لإدراك الكل، ولم نذكر من أعلام الناس والمواضع أكثر مما ظناه اللازم اللازب، ولما كتبت ما كتبت ظننتني أسرد أموراً لرجل ليس له اطلاع خصوصي على التاريخ القديم، بل مجمل علمه قائم على معرفة عامة تتعلق ببلاد اليونان ورومية وببعض أعلام مذكورة في الكتاب الكريم- ص 5و6).

ثم يمضي المؤلف في استعراض تاريخ بلاد النهرين وحياتها الحضارية بأوجهها المختلفة السياسية والدينية والثقافية والاقتصادية بدءاً من مرحلة دويلات المدن. ويتناول منجزات هذه البلاد الحضارية وعهودها اللاحقة المختلفة الأكدية ؛ البابلية والكلدانية، والآشورية المتداخلة ثم فترات الغزو الخارجي المختلفة: الأخميني (كورش ودارا خصوصا) والمقدوني (السلوقي بعد موت الإسكندر) والفرثي والساساني.. كما يستعرض العلاقة بين بلاد آشور وبلاد مصر وبين بلاد آشور والدولة اليهودية في فلسطين.. وغيرها.

ومن خلال قراءة متن الكتاب أكثر من مرة توفّرت لدي الملاحظات النقدية التالية:

(1). الغلطة الكبرى التي وقع فيها المؤلف والغريب أنه يصرّ على تكرارها في أكثر من موضع هو اعتبار المصريين هم من اخترع الكتابة !!! في حين أن أبسط قارىء في العالم يعرف أن العراقيين القدماء (السومريين حصرا) هم من اخترع الكتابة. على سبيل المثال:

ص 12: (ويمكننا أن نقول إن هذه المدة امتدت إلى جميع الحضارات القديمة وإلى آخر العصور المتوسطة أي أنها دامت زهاء ستة آلاف وخمسمائة سنة منذ اختراع الكتابة في مصر أي نحو 5000 سنة).

ص 22: (وأخذ الأكديون عن الشمريين الكتابة ذلك الاختراع الذي اخترعوه في أرض الفراتين (كما اخترع مثله سكان النيل قبلهم ببضعة ألوف من السنين)!!

(2). لا أعتقد أن الكتاب مخصص لحضارة بلاد النهرين كما عكس ذلك عنوان الكتاب، فهو يضم استطالات كبيرة عن الحضارات الفارسية واليونانية والرومانية والزرادشتية ودورها وظهور المسيحية والإنقلاب الذي أحدثته والدولة اليهودية وتطورها.. وغيرها الكثير من الموضوعات التي لا تتصل بتاريخ بلاد النهرين إلا بصورة غير مباشرة.

(3). ومن تلك الاستطالات أن الكتاب يبدو في نصفه الأول وكأنه مخصص للحضارة المصرية القديمة وفي نصفه الأخير للحضارة اليونانية والرومانية..

(4). لا أعرف لماذا لجأ المؤلف إلى استخدام التسمية التوراتية لبلاد بابل وهي "شنعار":
ص 20: عنوان الفصل هو "نشوء شنعار"

ص 23: يقول المرلف "المراد من إيرادنا بعض الأمور عن شنعار وأرض النيل.."

ص 33: عنوان الفصل "تأثير حضارة شنعار وديار مصر على سائر البلاد"..

وغيرها الكثير من المواضع.. فلماذا ؟؟

(5). ومثل ذلك نقوله عن استخدامه الإسم التوراتي للملك البابلي "مردوخ أبلا إدّينا الثاني" (710 -703 ق.م) حيث سمّاه بالإسم التوراتي وهو "مردوخ بلدان" (ص 60 وما بعدها).

(6). ولا أعرف لماذا ترجم الأب أنستاس الكرملي تسمية القطر الجنوبي من العراق القديم باسم "شمر" بدلا من التسمية التي اعتدنا عليها منذ عشرات السنين وهي "سومر" !!
(7). وهناك ظاهرة النقاط (...) التي تعبّر عن فراغات في النص لا أعلم هل هي من المؤلف أم من المترجم الذي قفز المعلومة. ولكن في الحالتين فإن هذه النقاط أثّرت على المعنى وتسلسل السرد. مثلا -وسأضع النقاط بين قوسين-:

ص 48 و49: (وابن تغلث فلسر أخذ ثأر أبيه وأخذنا نسمع ببغداد للمرة الأولى (لا بكونها مدينة عظيمة بين مدن شنعار) بأن الآشوريين (......) وبعد عدة ملوك اضمحلت سلطنة آشور..
ص 61: (وبينما كانت جماعة من الجند الآشوريين تسير في طريقها لاقت جماعة من جنود المصريين والظاهر أنها (.....) وفي الآخر أي في سنة 670 أقبل الحظ إذ عبر الآشوريين برافية (رفع) !!!

ص 64: (وكان في (.....) الآشوريين جماعة من ملوك عيلام في السابق وكان آشور بنيبل يشدهم (......) ليجروها، فاعلاً ما يفعله بعد ذلك بقرون تيمورلنك بالملوك الذين أسرهم، وحينما كانت دولة آشور تشتمل على بابل ومصر وعيلام كانت أوسع دولة وجدت إلى عهدها بيد ملك واحد، ومع هذا فقد جاء بعده من الملوك من فاق سيّد آشور في سعة الملك وضخامته فقبل وفاة اشوبنيبل (.......) الذي تنمو علي تخوم آشورية وتهدد جارتها وبدأت كفة الميزان (.....) على الساميين، ونهض في مصر رجل صنديد اسمه) !!

(8). وتظهر حماسة المؤلف وتعاطفه المفرط مع اليهود في أكثر من موضع من الكتاب بصورة لا منطقية يحرّف بها وقائع التاريخ ومسلماته. على سبيل المثال:

ص 50 لماذا الانحياز لليهود: (ففي سائر الممالك أيضاً كان الناس يدوّنون أفكارهم أو تواريخهم على الحجارة والفخار والبردي والرق، وحيثما كانت تلك الأخبار مكتوبة من هضاب فارس في الغرب إلى بحر الروم، نسيت بعد بضعة أجيال وغدت كأنها لم تكن وأما الأشياء التي دوّنها بنو إسرائيل فإنها لم تُنس قط وبقيت حيّة في ذاكرة الأمة لا تزال تطالع يوماً بعد يوم إلى عهدنا هذا في الأرض كلها).

ص 72: (وقد وافق وقوع هذه الهنيهة في زمن تطور خبرة شعبين آخرين خصا لأن يدفعا أفكار البشر وتصوراتهم وتخيلاتهم المستقبلة لتبت على أحسن صورة وقد خصا بذلك تفصيلاً لهما على أي شعبين آخرين كانا في وقتهما يومئذ لما في غرائزهما من المآثر الجليلة وهذان الشعبان هما اليونان واليهود وذلك لأن الحضارة الشنعارية المحتضرة كانت قد فعلت في نفوسهما كل الفعل قبل أن تشهق شهقتها الأخيرة وبقي اسم بابل في الأجيال المتتالية واسم المنتسبين إليها مرادفاً للعظمة والجلالة والبذخ والزهو).

ولا وقت عندي للإطالة ومناقشة المسلّمات وأكتفي بنقل رأي للمؤرخ والباحث الفرنسي الشهير "غوستاف لوبون":

(لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة، ولا أي شيء تقوم به حضارة. واليهود لم يأتوا قط، بأي مساعدة مهما صغرت في إشادة المعارف البشرية، كما أنهم لم يجاوزوا قط الأمم شبه المتوحشة التي ليس لها تاريخ)

(9). ولا أعرف أيضا لماذا يترجم الأب أنستاس الكرملي "الجنائن المعلّقة" بوصف "البساتين المعلّقة". منذ عشرات السنين والقارىء العراقي والعربي يقرأ "الجنائن المعلّقة".. فلماذا هذا النحت الغريب لمصطلح جديد غريب؟؟!!

ص 75: (ولا جرم أن هذا القصر الملكي كان مصلاً بالجبل المصطنع، ذلك الجبل الذي وصفه لنا اليونان باسم «البساتين المعلقة»)!!

(10). وهناك هامش على الصفحة 57 يقول فيه الأستاذ "حكمت توماشي":

(لم نسمع بمملكة أراراط بل جبال أراراط)

وهو يعلّق على قول المؤلف: (في عهد سرجون الذي تسمى باسم الفاتح الاكدي الكبير قبل ألفي سنة، تقدمت السطوة الآشورية تقدماً جديداً، وذلك أن سطوة مملكة أراراط في الشمال كسرت شوكتها- ص 57).

وهو أمر غريب حين يصدر من الأستاذ "حكمت" الذي توصيفه في الكتاب أنه " من أمناء مكتبة المتحف العراقي". فمملكة أرارات مملكة معروفة تاريخيا: (أورارتو (بالأكدية اورارتو Urartu)،بالأرمينية Ուրարտու، هو اسم بالآشورية يدل على مملكة تقع في منطقة الهضبة الأرمينية جنوب شرق البحر الأسود وإلى الجنوب الغربي من بحر قزوين. وسميت أحياناً «نائيري» (Nairi) في حين سمى الأورارتيون بلادهم «بياينيلي» (Biainili).. قامت إبان القرنين الـ 9 والـ 7 ق.م. بجبال شرق تركيا حول بحيرة وان. وأهلها من الحوريين. وكانت العاصمة مدينة وان. وكان بها قلعة مدخلها بجبل صخري وعلي واجهة مدخلها لوحة صخرية منقوشة عليها رسومات نقشية سجلت حروبهم مع الآشوريين جيرانهم. وكانوا يصنعون التماثيل المجنحة والمشغولات البرونزية. وقد حكم أوراتو الآشوريون أوائل القرن الـ13 ق.م وكانت ثقافتهم متأثرة بشرق وشمال الهلال الخصيب وكما كتبوا لغتهم القزقازية بالكتابة المسمارية. والمعابد تشبه المعابد الإغريقية وهناك جبل أرارات ويقال أن به بقايا سفينة نوح) (الويكيبيديا).

(11). يقول المؤلف:

ص 154: (ولو كانت يد أوروبية بدلاً من يد تورانية قبضت على بلاد الفراتين في مدة هذه العصور الأخيرة لما رأيناها في هذه الحالة المنكرة التي نراها عليها اليوم)

وهو رأي "نرجسي" يخالف منطق التاريخ ويحاول ان يغطّي، بالغربال، شمس العنصرية الأوروبية وتدميرها الوحشي الاستعماري لحضارات شعوب الشرق. نحمد الله أن بلاد الفراتين – في ذلك الوقت – لم تصلها اليد الأوروبية التي – على سبيل المثال – قتلت 6 ملايين مواطن في الكونغو في فترة الاستعمار الأوروبي "الذهبية".

ملاحظة:

هذا العرض هو التسلسل (88) ضمن سلسلة عروض الكتب من الناقد حسين سرمك حسن لعامي 2017/2016.

تأليف: أدون بفن

 نقله من الإنجليزية إلى العربية: الأب انستاس ماري الكرملي
 ساعده: الأب لويس مرتين الكرملي
 أخرجه ووضع فهارسه: حكمت توماشي
 إصدار دار ضفاف (الشارقة/بغداد) للطباعة والنشر- 2016


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى