الخميس ٢ شباط (فبراير) ٢٠١٧
رواية عذارى في وجه العاصفة

ونكبة النّساء المضاعفة

هناء عبيد

صدرت رواية عذراء في وجه العاصفة للأديب المقدسيّ جميل السلحوت بداية العام 20177 عن مكتبة كل شيء في حيفا، تقع في 329 صفحة من الحجم المتوسط، غلاف المقدمة من تصميم الفنان والأديب الفلسطيني محمود شاهين.

لعل ما يميز الروايات الفلسطينية هو ذلك الألم الذي تبثه في أرواحنا من خلال سرد رحلة الشقاء التي يقطعها الفلسطيني سواء على أرض الوطن أو المنفى.

وقد كانت رواية عذارى في وجه العاصفة للروائي المقدسي جميل السلحوت إحدى هذه الروايات، التي تنقلنا إلى أرض الحدث والمعاناة والشقاء، ولكن من باب آخر فقد تعرضت الرواية إلى موضوع لم يطرح سابقا، ويبدو ذلك بوضوح من خلال عنوان الرواية، فقد تناولت العناء الذي تعرضت له المرأة الفلسطينية إبّان نكبة عام 1948وما بعد ذلك، إضافة إلى الظلم الذي يقع عليها بسبب العادات والتقاليد وسيطرة المجتمع الذكوري، فهي دوما الضحية التي تتأثر بالتغيرات الاجتماعية والحروب وتدفع الثمن مضاعفا.

استفاد الروائي من فترة زمنية مهمة في حياة الشعب الفلسطيني، وصاغها في قالب سردي أدبي وأسلوب شيق رغم مرارة الألم التي تغلف أحداثها. وقد بنيت أحداث الرواية على عدد من القصص المتداخلة التي وجدت من الأسى والعذاب والتشرد الذي واجهته العائلات الفلسطينية رابطا يجمعها. استهل الكاتب روايته بقصة عائلة رحاب التي هاجرت مع آلاف المشرّدين إلى الأراضي السورية هربا من بطش الإحتلال، متأملة بالعودة لاحقا إلى قريتها بعد أن تنتصر الجيوش العربية على المحتلين، وتسترد الأرض المغتصبة، ترحل رحاب وهي حامل بشهرها السادس، وفوق الثقل الملقى عليها تضع على رأسها سلة مواد غذائية لا تكفي سوى ليومين وتجوب بها عبر رحلة الشقاء، يرافقها الرحلة زوجها الذي كان يحمل على ظهره ما لا يقل عن خمسة عشر كيلو غرام من الطحين، وفي يده قربة ماء، صورة لا تقل شقاء عن بقية معاناة الشعب الفلسطيني المهجّر في بقاع الأرض. يرافق عائلة رحاب الآلاف من الفلسطينيين، بينهم العجزة والمرضى والأطفال الرّضّع الذين يتعرض الكثير منهم إلى العديد من المخاطر والمرض والموت. تتوفى إحدى السيدات في الطريق مخلفة وراءها ثلاثة أطفال، فتجد العون من خلال أسرة سورية يعيلها محمد معروف الذي يقوم بواجبات دفن الأمّ ورعاية أسرتها. تواصل القوافل المشرّدة مسيرها في الطريق إلى هضبة الجولان السوريّة وهي مثقلة بذكرياتها المؤلمة ووجع قلبها من أهوال مذبحة دير ياسين والطنطورة.

يسلط الكاتب من خلال قصص التشرد والمعاناة على كرم السوريين وحسن معاملتهم لضيوفهم الفلسطينيين، فقد استقبل كمال السوري عائلة رحاب وأولادها، وعائلة فليحة في بيته، بل ووهب لهم المنزل والأرض، صورة تدل على مدى التعاون الذي اتّسمت به العائلات العربية قديما، خلافا لما نراه اليوم من حقد وغل وكراهية. تسترجع رحاب قصتها من خلال سردها على زوجة كمال، فقد حدثتها عن زواجها الأوّل الذي تم دون رضاها لطارق ابن العائلة الثرية، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد كانت أمّ طارق امرأة سيئة السمعة، عاملت رحاب بسوء وكانت تقدحها بأبشع الصفات، وتكنّيها بابنة الصياد، فأنجبت من هذا الزواج الطفل عليّ، تقوم الحماة بتحريض ابنها على طلاق رحاب وهي حامل، ويختطفون ابنها من حضنها وهو ابن ستّة أشهر. يتزوج طارق من امرأة أخرى تكيل كل ألوان العذاب لعليّ، لينتهي الحال به عند بيت عمته التي تربيه مع أولادها. لكن مع الأيّام يتذمر علي من وضعه الذي حرمه من العيش بين كنفي والديه، ليهرب من بيت عمّته في مخيّم الجلزون قرب رام الله إلى أريحا، ومن ثم إلى الأردن. وهناك يتمّ استغلاله من قبل صاحب محلّ لتصليح السّيّارات، لكنه يهرب ويعمل مع رجل طيب ليصبح فيما بعد صاحب ورشة مستقلة، ويعيش في رغد حال.

ميسون لا تزيد حظا عن رحاب، فهي الفتاة التي أحبت وأخلصت لخطيبها ناصر أمين، تفرق النكبة بينهما ويصبح من المستحيل اجتماعهما في بلد واحد، فيتزوج ناصر باعثا الحسرة في قلب ميسون، هو حال الأنثى المظلومة دوما. أما مريم فقد فرقت النكبة عائلتها، زوجها زياد المفلح حطت به الرّحال في لبنان، بينما بقيت هي وأبناؤها الثلاثة في عكا. يتمكن زياد من التسلل إلى عكا مرتين اسبوعيا ليقابل زوجته، فإذا بطفل يتكون ليعلن قدومه إلى الحياة، تاركا مريم مضغة بين فكي الناس الذين يتهمنوها بانجاب ابن الخطيئة. وحينما عرفت الحقيقة، ساومها المحتلون وعرضوا عليها أن يعود زوجها إلى عكا بشرط أن تصبح وزوجها جاسوسين لهم، لكنها رفضت بشدة. لم يستطع زياد العودة إلى عكا لهذا تزوج بامرأة أخرى تاركا مريم بحسرتها، قصص نتيجتها واحدة ظلم وقهر ومعاناة تنفرد بها المرأة دوما. ثم تأتي حكاية فليحة وزوجها الذي فضل الانتحار بسبب الأحوال السيئة التي لم يستطع أن يتجاوزها، لتبقى فليحة مسؤولة عن عائلة لا حول ولا قوة لها إلى أن قام الرجل الطيب كمال بمساعدة العائلة وتوفير كل مستلزماتها.

تعرضت الرواية إلى عدة نقاط إنسانية ، فقد ركز الكاتب على شهامة أهل سوريا ومساعدتهم للعائلات الفلسطينية وإكرامها، بحيث أصبحوا وكأنهم جزء من عائلتهم، أسكنوهم بيوتهم وأعطوهم قطع أراض تساعدهم في عيشهم، وكأن الكاتب يريد أن يوصل رسالة إلى الأمة العربية، أين كرمكم وشهامتكم وتعاونكم الذين أصبحوا ماضيا مأسوفا عليه؟ كذلك تتطرق إلى الحياة التي كانت لا تعرف طائفية ولا عنصرية، الجميع يتعامل بكل أريحية مع جميع جنسيات البشرعلى العكس من حالنا الذي مزقته الطائفية والعنصرية والقبلية.

لغة الكاتب اعتمدت السهل الممتنع، لم تكن متكلفة، تخللها بعض العبارات الجمالية والصور البلاغية البديعة. اعتمد الراوي في السرد على لغة الحوار التي استطاعت أن تعطي المساحة الكافية لأبطال الرواية للتعبير عن أنفسهم، ورغم أن الرواية تعددت فيها الشخصيات والقصص، إلا أن الكاتب استطاع أن يصهر الأحداث في بوتقة واحدة؛ ليجعل من الأحداث نسيجا واحدا متجانسا. وكما عودنا الاستاذ جميل فقد تخلل السرد أمثلة شعبية من اللهجة الفلسطينية المحكية تبين مدى التصاق الكاتب ببيئته. مكان الرواية كان في عدة مدن وقرى فلسطينية تعرضت للبطش الصهيوني إضافة الى بلدان الجوار كسوريّا، الأردنّ ولبنان التي هاجر إليها شخوص الرّواية. ومن الملاحظ جدا أن الكاتب على دراية تامّة بالأماكن، فهو يستطيع أن يأخذنا من حارة إلى حارة، ومن قرية إلى قرية حتى يصل بنا إلى حدود فلسطين بكل أريحية ودراية، وكأنه يسير هناك ومعه كاميرا تصور كل شبر من الأرض.

وكمعظم روايات الأديب السلحوت فإن هذه الرواية تعرضت إلى فترة مهمة في حياة الفلسطينيين؛ لتكون مرجعا وشاهدا على تلك الحقبة. الرواية إضافة قيمة إلى المكتبة العربية، نتمنى أن يتم ترجمة هذ الرواية إلى اللغات الأجنبية حتى تصل معاناة الفلسطيني إلى مسمع العالم أجمع.

هناء عبيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى