الأحد ٢٨ أيار (مايو) ٢٠١٧
مسائل خلافية نحوية بين الكوفيين والبصريين
بقلم كريم مرزة الأسدي

واندماجهما بالمدرسة البغدادية

لقد سيطرت المدرسة البغدادية منذ بداية القرن الرابع الهجري، وطغت على المدرستين الكوفية والبصرية، ولا نعني من حيث الرقعة المكانية، فبغداد كانت ساحة للكوفيين من أيام المهدي، وعهد الرشيد، ثم أصبحت حلبة السباق والتنافس بين الكوفيين والبصريين خلال عهدي الواثق وأخيه المتوكل، وإنّما نقصد سيطرة العقلية البغدادية، وهيمنة الفكر البعدادي ومجتمعه، فلم تعد هنالك هيمنة لأحد على أحدٍ، بل لم يعد النحو بحد ذاته لب الصراع ومحور التنافس، وأساس المصالح، لذلك خفّ بريقه، وقلّ خيره المادي، ولكن لم ينقص شعاعه المعنوي، فما زال هو المرتكز الأساسي للأديب والشاعر والفيلسوف والفقيه والعالم، والقاسم المشترك لكلِّ مؤلف ومصنف يحترم لغته ويعتز بأمته.

المهم لم يعد النحوي البغدادي يهتم كثيراً للتفريق بين النحويين وعمّن يأخذ نحوه، والحقيقة أن أبا إسحاق إبراهيم ابن الشري الذي كان يخرط الزجاج، ولقب بـ (الزجاج)، ولد و توفي في بغداد (ت 316 هـ / 928م)، عالم باللغة والنحو، وعلـّم القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد الذي سمَّ ابن الرومي، ولابن الرومي يذكر الزجاج عندما كان يقول له في مجلس الوزير القاسم اخرج وافسح المجال لغيرك !!:

ليت شعري عن الفراسي والزجـْ
ـجاج هل يرعيان مني الإخاءَ ؟
فيقولان: إنّ موضع مــــــولا
كَ عميراً أشـــف ُّ منهُ خلاء
يا لقوم ٍأأثقلَ الأرض شخصيَ
أم شكتْ من جفاء خلقي امتلاءَ؟ (1)

هذا السيد الزجاج ترك شيخه ثعلباً في حياته عندما سحره المبرد بمنطقه وتحليلاته، ولمّا لاموه على تركه ثعلباً إلى رجل مجهول غير معروف لدى البغداديين قائلين:

"تأخذ عن مجهول لا تعرف اسمه وتدع من هو شهر علمه وانتشر في الأفاق ذكره ؟

فقال لهم: لست أقول بالذكر والخمول ولكني أقول بالعلم والنظر" (2).

وانتهت رئاسة النحو في بغداد إلى هذا الرجل الزجاج بعد المبرد، وأصبح يدرس المذهبين حتى توفي في بغداد بالتاريخ المذكور سالفاً، وكذلك كان أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان (ت 299 هـ / 911م) (3) كان بصرياً كوفيأً يحفظ القولين، ويعرف المذهبين، لأنه أخذ عن المبرد وثعلب "وكان أبو بكر بن مجاهد المقري يقول: أبو الحسن بن كيسان أنحى من الشيخين - يعني ثعلباً والمبرد - ومزج النحوين، فأخذ من كل واحد منهما ما غلب ظنه صحته" (4).

يستطيع الباحث المتتبع أن يستطلع على ما له قد وافق به الكوفيين في كتاب (المدرسة البعدادية...) رسالة الدكتور محمود حسني (5)، ومثلهما أبو بكر محمد بن سراي ابن السراج النحوي (ت 316 هـ /928 م)، أخذ عن المبرد، كان ثقة، قد ألف كتاب (الأصول)، انتزعته من أبواب (كتاب سيبويه) إلا أنه عول عليه على (مسائل الأخفش) ومذاهب الكوفيين، وخالف أصول البصريين في أبواب كثيرة، وروى عنه أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي، وأبو سعيد السيرافي، والزجاجي المذكور قد لازم الزجاج الأول وأخذ منه، فنسب إليه، ولله في خلقه شؤون، وكان منهجه وسطاً، فلا يفضل نحواً على نحو إلا بالصواب، توفي المنسوب في دمشق (337 هـ / 949 م)، له كتابان (المجمل في النحو) و (الإيضاح في علل النحو) (6).

إذاً المدرستان قد شرعتا بالتلاشي، أو بكلمة أدق بالانصهار تدريجياً لتتركب منهما سبيكة واحدة، طليت بمصطلحات المدرسة البصرية، ولكن الدكتور حسني يرى في (مدرسته البغدادية) أن بعض النحويين ظلت لديه ميول نحو إحدى المدرستين، ولا نرغب في تعداد أعلام البغداديين الكوفيين، والبغداديين البصريين منعاً للإطالة والملل، المهم أن المدرسة البغدادية انتخابية خلطت بين المدرستين السالفتين، وأخذ المجددون من الكوفيين والبصريين دون تميز أو تعصب إلا أبا بكر بن الأنباري الذي ترسم خطا الكوفيين، إذ تأثر يأستاذه أبي العباس ثعلب، بل عرف بتعصبه لمدرسته، ونقوله الكثيرة من شيوخها.

الشيخ الطنطاوي في (نشأة النحو) يصنفهم إلى من غلبت عليه النزعة البصرية كالزجاج وابن السراج والزجاجي وابن درستويه، وممن غلبت عليه النزعة الكوفية كأبي موسى الحامض و ابن الأنباري، وممن جمع بين النزعتين، وممن جمع بين النزعتين كابن قتيبة وابن كيسان والأخفش الصغير وابن شقير وابن الخياط ونفطويه (7).

ومن وجهة نظرنا من كان يتمع بقوة الحافظة، وحفظ الروايات وتشعبها، والاقتناع بشواذها حُسبَ أقرب إلى المدرسة الكوفية كابن الأنباري، ومن كان يتفلسف تحليلاً، ويتكلم منطقاً بقياس كالزجاج حسب على المدرسة البصرية، ومن جمع الطريقتين واجتهد، صعب تحديده، فنسب إلى مدرسة جديدة، هي المدرسة البغدادية، ومن الجدير ذكره أن أغلب المصطلحات الكوفية استبدلت بالمصطلحات البصرية وذلك لأقدميتها، ودقة توافقها للتعبير عن المضامين النحوية، بالرغم من أن هذه المضامين كادت أن تكون واحدة لدى المدرستين، يقول الزجاجي في (إيضاحه)، "إنما نذكر هذه الأجوبة عن الكوفيين على حسب ما سمعنا مما يحتج به عنهم من ينصر مذهبهم من المتأخرين، وعلى حسب ما في كتبهم إلآ أنّ العبارة عن ذلك بغير ألفاظهم والمعنى واحد" (8)، ويكرر استخدامه للمصطلحات البصرية عندما يحتج للكوفيين قائلاً " وأكثر ما أذكره من احتجاجات الكوفيين إنما أعبر عنها بألفاظ البصريين " (9).

والغرض من توحيد المصطلحات تسهيل الدراسة، وتعميم الفائدة، ثم أن بعض المصطلحات الكوفية جاءت من بعد لردود أفعال غير مدروسة ضد البصريين، وحدث العكس أحياناً أمثلة:

1 - مثل (قائم) عند البصريين (اسم فاعل)، وعند الكوفيين (فعل دائم).

2 - أسماء الأفعال ماضية مثل (هيهات)، مضارعة مثل (آه)، أمر مثل (صه)، عند الكوفيين أفعال حفيفية يجوز تنوينها.

3 - حروف المعاني عند البصريين مثل (بل) و (هل)... يطلق عليها الكوفيون (أدوات) والحق معهم لكي يفرقونها عن حروف الهجاء.

4 - المصطلحات المعنوية كـ (الخلاف) لنصب الظروف، و(الصرف) لنصب المفعول معه عند الكوفيين حذفت لا توجد عند البصريين، عللت بتأويلات أخرى.

5 - ونوجز عند البصرين: اسم الإشارة، الضمير، ضمير الفصل، المفاعيل (المطلق، لأجله، فيه، معه)، الظرف، البدل، التمييز، الصفة، حروف النفي، لام الابتداء، العطف، مبني للمجهول، واو المعية، التنوين، الجر، حروف الجر، الحال،...إلخ.

عند االكوفيين: التقريب، المكنى، العماد، أشباه مفاعيل، الصفة أو المحل، الترجمة، التفسير، النعت، حروف الجحد، لام القسم، النسق، لم يسم فاعله، واو الصرف، النون، الخفض،الإضافة، القطع... إلخ.

وهنالك مسائل خلاف بين المدرستين في الإعراب وفلسفته، والصرف واشتقاقه، بقى لدينا كتابان يعتمد عليهما، قابلان للنقاش والتمعن والتأمل لمسائل الخلاف والبقية انقرضت، الأول لأبي البركات ابن الأنباري (ت 577 هـ / 1181م)، وكتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وبالرغم من أنّه تبرع أن يفرض على نفسه ميثاق العدل والإنصاف للحكم بين المدرستين قائلاً:

"واعتمدت في النصرة على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة أو البصرة على سبيل الإنصاف، لا التعصب والإسراف " (10)، ولكنه لم يكن منصفاً، ولم يستطع إمساك نفسه من نصرة أصحابه أهل البصرة، فقد تعصب وأسرف تحت لذة التفلسف وسيطرة أهواء المنطق، فمن بين "121".

مسألة طرحها لم يرجّح إلا سبع مسائل للكوفيين، وهي المسائل ذوات الأرقام:

 "10" حول سبب رفع (لولا) لما بعدها.

 "18" إذ لم يجز الكوفيون تقديم خبر (ليس) لأنها فعل غير منصرف.

 "26" وتدور حول اللام الأولى في (لعل) أنها أصلية فوافقهم عليها.

- رقم "70" إذ ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترك صرف ما ينصرف في موضوع الشعر، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز،فوافق الكوفيين، وللمتنبي أبيات من الشعر على رأي الكوفيين في هذه المسألة، ومسائل أخرى حتى أنه حسب عليهم، والجواهري سار على درب سلفه المتنبي في أبيات من شعره ومنها هذه المسألة.

- وفي المسألة "97" وافق الكوفيين في أنّ الياء والكاف في (لولاي، لولاك) في موضع الرفع، لا في موضع جر كما قال البصريون.

- وفي "101" أصرّ الكوفيون على أن الاسم المبهم نحو (هذا و وذاك) أعرف من الاسم العلم، فلا يعرف إلا بالقلب.

والمسألة رقم "106" جوّز الكوفيون على نقل حركة الفتح للاسم المنصوب المعرف بـ (الـ) إلى الحرف الساكن ما قبل آخره نحو (رأيت البكـَرْ)، ومثلها في حالتي الرفع والخفض مثل (هذا البكـُرْ، و مررتُ بالبكِرْ) وذلك لعدم التقاء الساكنين، والبصريون لا يوافقون على نقل الفتحة.

فالأنباري وافق الكوفيين في هذه المسائل السبع فقط من أصل "121" مسألة، وهذا ليس بإنصاف بل إجحاف، إذ اعتمد على الفلسفة والمنطق في حكمه، وهذا منهجه البصري منذ مطلع دراسته، فكيف ينصف يا منصف ؟!! (11).

وهكذا ذهب الطنطاوي في (نشأته)، و د. المخزومي في (مدرسته)، و د. العثيمين في (تحقيقه...) (12). والكتاب الثاني لأبي البقاء العكبري (ت 616 هـ / 1219 م)، وكتابه (التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين)، يشتمل على على خمس وثمانين مسألة من (الكلام والكلمة) بداية حتى (ترخيم الرباعي) نهاية، ذكر فيه مسائل خلافية عامة وعددها ثمان وعشرون مسألة، وبعض مسائل خلافية بين البصريين والكوفيين تفرد بذكرها العكبري وعددها مسألتان " المسألتان رقم " 27 - 28"، ومسائل خلافية بين المدرستين النحويتين ذكرها العكبري كما ذكرها ابن اٌنباري وعددها خمس وخمسون مسألة، ولم يكن أبو البقاء أكثر إنصافاً من صاحبه ابن الأنباري، لأن العصر لا يحتمل الوقوف مع الروايات السماعية و اللغات العفوية أمام الفلسفة الكلامية، والحوارات المنطقية.

وعذر العكبري معه، لأنه لم يرشح نفسه حكماً عدلاً بين الفريقين وأحصى الدكتور العثيمين في تحقيقه لكتاب (التبيين) سبعة عشر كتاباً قد ذكرت في بطون المصادر، وكلها تبحت في موضوع الخلاف بين المدرستين. (13)

اجتهد البغداديون، وتحيروا أحياناً أي شيء يفضلون حسب تفكيرهم وإبداعاتهم، وأتلف الزمان ما أتلف من التصانيف الكوفية كـ (معاني القرآن) للفرّاء، و (مجالس ثعلب)، و (التبيان في شرح الديوان) شرح ديوان المتنبي، ولو أنه منسوب خطأً إلى أبي البقاء العكبري.. هذه الحلقات هي مدخل من كتابي " نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية - مقارنة بين النحو البصري والنحو الكوفي " يوضح بإيجاز ما بذله الأجداد والأحفاد في سبيل رفعة وديمومة لغتنا الجميلة و آدابها، ومن أراد التوسع والتعمق عليه مراجعة الكتب والمصادر ذات الاختصاص الرصينة والموثوقة، والله فوق كل ذي علم عليم وأعلم.

المراجع والمصادر دون ذكر أرقام الصفحات

(1) (ابن الرومي حياته وشعره): بحثه كمال أبو مصلح ص المكتبة الحديثة.

(2) راجع (طبقات النخويين واللغويين): ص، (المدرسة البغدادية) ص م. س.

(3) راجع ترجمة ابن كيسان (إنباه الرواة...): ج ص ص -، (طبقة النحويين واللغويين) ترجمته.

(4) (إنباه الرواة): ج ص - م. س.

(5) (المدرسة البغدادية في تاريخ النحو العربي): محمود حسني ص -مؤسسة الرسالة - 1986م - بيروت.

(6) (إنباه الرواة...): ج ص م. ص. (المدرسة البغدادية...) ص م. س.

(7)(نشأة النحو...): ص - م. س.

(8) (الإيضاح):للزجاجي ص دار العروبة - 1959 - القاهرة.

(9) (الإيضاح): ص م. س

(10) (الإنصاف في مسائل الخلاف): ج1 ص 5 م. س.

(11) المصدر نفسه , راجع أرقام المسائل.

(12) راجع (نشأة النحو..): الطنطاوي ص، (مدرسة الكوفة..):- (التبيين):ص م. س. (13) راجع كتاب (التبيين): ص - تحقيق الدكتور الدكتور عبد الرحمن سليمان العثيمين - 1986م - بيروت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى