الجمعة ٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

الشعراء والنرجسيــــــة

الأدب في اختزال التعاريف ذاتي أنوي شخصاني ، يمثل الموقف والحياة . وإذا لم يكن كذلك كان هشًا تذروه الرياح.... وكأنه لم يكتب بالأمس . والشعر أولاً وقبلاً هو التكثيف للمشاعر الذاتية والمنطلق الشخصي ، ولذا اتُّهم أصحابه بالنرجسية ، وكأن النرجسية – في هذا التفسير – سبـّة ومعرة .

بيد أن استعمال مصطلح ( النرجسية ) لا يشي بالتقليل من شأن من نتهمهم بها ، فهذا مذيع معروف قد استعمل المصطلح في برنامجه الثقافي في التلفزيون فقال : " الشاعر نرجسي بطبعه ... "

وهذا نزار قباني يكتب أسود على أبيض :
" .... أيامي مع حورية الشعر لم تكن كلها أيام شهر عسل . كانت أحوالنا تشبه أحوال البحر مدًا وجزرًا وصحوًا ومطرًا وطقسًا جميلاً وعواصف مجنونة ... وكنت مشغولاً بأوراقي وكتاباتي ونرجسيتي " ( الناقد – عدد آذار 1990 ، ص5 ) .

فالمذيع الذي أكد نرجسية الشعراء ونزار قباني لا يحمّلان التعبير أية دلالات سلبية .
ويبقى السؤال : إذن ، لماذا هذه الظلال السلبية في دلالة ( النرجسية ) ؟
أسأل ذلك بعد أن طلب مني أحد المستمعين في برنامج ( معلم في الأستوديو ) أن أوضح له معنى المصطلح ، والله يعلم إن كان في سؤاله بعض مكر قصده أحدهم ، فجاء السائل ووضعه بين أذني .
والآن لا بد من العودة إلى النبع :
نرسيوس في الأسطورة اليونانية فتى وسيم الجمال ، خلب قلوب العذارى ، ومنهن إيكو التي لم يبادلها حبا بحب . فحكمت عليه ربة الجزاء والحساب أن يتعذب كما تعذبت عشيقاته ، وذلك بأن يفتتن بجمال صورته في الماء ، فذوى جسده تدريجيًا وهو يتلاشى لهفة وشوقًا إلى صورته . وعندما ذهبت عرائس الماء تطلب رفاته لم يكن هناك إلا نرجسة مطرقة ترنو إلى الماء .
ومن هنا فما زلنا نرى زهر النرجس أبدًا مفتوح العينين لا يشبع من النظر إلى خياله على حوافي مجمعات المياه .

وقد أدخل الدكتور (هافلوك أليس ) أستاذ الأبحاث الجنسية هذا المصطلح إلى دائرة علم النفس التحليلي - بمعنى افتنان المرء أو إعجابه المتناهي بجسده - حتى إنه يعجز عن إقامة علاقات عاطفية مع غيره ، فيؤْثر أن يشبع رغائبه بطرق غير سوية .

ووقف عباس العقاد في دراسته عن أبي نواس على النرجسية عند هذا الشاعر فرأى فيها :
" شذوذ دقيق يؤدي إلى ضروب شتى من الشذوذ في غرائز الجنس وبواعث الإخلاص " ( أبو نواس ص 33 ) ثم وقف على تفريعات النرجسية من ( اشتهاء ذاتي ) و ( توثين ذاتي ) و ( تشخيص ) و ( ارتداد ) .

وفي العام نفسه (1953) الذي صدر به كتاب العقاد صدر كتاب د. محمد النويهي ( نفسية أبي نواس ) الذي عمد فيه كذلك إلى مصطلحات علم النفس مطبقًا إياها على شعر الشاعر .

غير أن طه حسين احتج على الكاتبين في مقالته : " بؤس أبي نواس " - التي أعيد نشرها في كتاب ( خصام ونقد ) :
أولاً لأننا نخرج من ميدان تخصصنا المشروع فنقحم أنفسنا في موضوع لم نتعمقه ولم نتخصصه ، ونكون مجرد مقلدين لأشياء لا نفهمها ولا نتقنها .
وثانيًا لأننا لا نستطيع أن نفحص أجسام الموتى أو نحلل أشخاصهم ، ولا نستطيع أن نحلل منهم إلا كلامهم وكلام الناس عنهم . ( انظر الرد الرائع على طه حسين الذي كتبه النويهي في كتابه المذكور ص198 ).

لنعد إلى موضوعنا :
إن الشاعر متهم – غالبًا - بتمجيد ذاته ، بينما هو في الواقع يتقصّاها ويتقرّاها . وما دامت القصيدة لا تُحقق إلا باستقبال الجمهور لها فإن عدوى النرجسية لا بد واقع على المتلقي . بعبارة أخرى - إنها نقل من المبدع إلى المبدع إليه ، والقارئ الذي لا يجد أنا ه - هو - في القصيدة لا يحقق نرجسية ما ، وبالتالي ينعدم التواصل والتماثل . وإذا اعتبرنا الشاعر زعيمًا أدبيـًا فإن الأدبي والسياسي يرغبان في كسب عواطف الناس وتأييدهم . الأول يهمه العواطف العميقة الأصلية ، ويقتنع بالميسور من ضحك الجمهور أو دموعه ، وحسبه ذلك . بينما الثاني ( السياسي ) لا يعنيه أن تكون عواطف الناس ضحلة أو زائفة ، نبيلة أم كليلة ، المهم أن تؤيد نرجسيته لبناء شخصيته هو .

فشتان بين نرجسية الفنان الذي يحب ذاته ويصهرها ويقدمها للآخرين ، وبين نرجسية السياسي الذي يهمه انا ه أولاً وأخيرًا .

حاور ( بيتر فرستراتن ) محرر مجلة (علم الجمال ) – عدد تموز – كانون الأول 1965 – سارتر ، فقال المحرر :
" نرجسية الشعر هي إذن نرجسية مضاعفة لا أكثر ولا أقل . نرجسية لا تتعلق بالمؤلف وحده بل بالقارئ أيضًا . فالقارئ يقيم مع الشعر على أساس هذا الغرض علاقة مماثلة لعلاقة الشاعر حين يكتب . ومن هنا يكون التواصل قد نحي جانبا إذا جاز التعبير ، ما دام الشعر في كلا المنظورين ينتج لحساب عجب الذات بالذات " .
يجيبه سارتر : " هذه على ما أعتقد حقيقة الشعر ، وعلى الأقل منذ ظهور الرومانسية " .
فرستراتن : " إن نظرتك إلى الشعر هي إذن تنتقص من قدره " .
سارتر : " بل هي نظرية وصفية " .
فرستران : " لكن بمقدار ما نستخدم فكرة النرجسية فكرة اللاتواصل أو فكرة الوسيط الجمالي الأكبر بين الوجدانات لتحديد وظيفة الشعر فإن في هذا الاستخدام موقفًا سلبيًا ، فكيف تتصور في هذا الحال خلاص الشعر " ؟
سارتر : " خلاص الشعر إنما في أن يوجد نثر إلى جانبه ".
( انظر نص الحوار في كتاب سارتر - دفاع عن المثقفين ، ص 233 )
نخلص إلى القول إن النرجسية في الأدب في مفهومنا اليوم تختلف عن النرجسية في علم النفس ، ولنزار قباني ما يشفع له وهو يعتز بنرجسيته .....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى