الأربعاء ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم نجلاء البقالي

تبا...هل نمت؟

استيقظت فزعة، وشعور بالرضى وعدم الرضى قبعا في جوفي المتهالك. سعلت قليلا. كانت عيناي مغمضتين. فتحتهما بتثاقل. رأيت مسحة من الضوء تسبح في الغرفة، وتناهى إلى سمعي عواء الحافلات الصباحي. نهضت مسرعة وعلى غير عادتي لم أقصد المطبخ لأدخل في وجهي ما تيسر من أكل بارد وأرتشف عدة فناجين من القهوة السوداء حتى يستقيم عقلي. ذهبت إلى الشرفة. رأيت النادل يوزع الكراسي على جنبات المقهى المقابل للعمارة التي أقطن بها. فكرت في أول يوم جئنا نزور هاته الشقة. بدت لي جميلة حد الحلم. تنزهنا في أركانها الفارغة والسمسار يمجد طلائها وخزاناتها الحائطية ويعدد علينا الأوراق الإدارية وتكلفة الوكالة العقارية وتزويد الماء والكهرباء والشهر الملزم الدفع سبقا...أرقام زوجية تلتها أصفار لا حصر لها. أصفار سحبت من تحت قدمينا فراش الحلم وطارت إلى حيث الشاطئ القريب ربما.
نخصته من تحت معطف الكشمير الذي كنت أرتديه مساءها لكنه بدا منشغلا ببعض التفاصيل التافهة.

" لمحت مصعدا في السلم "
" المصعد معطل مؤقتا يا سيدي...الجيران طيبون...وحضاريون كوجوهكم "
" زوجتي تسأل عن السطح.."
لكني لم أسأل عن أي شيء. رمقته بنظرة عتاب عاضة على شفتي السفلى. أدرك أنني في قمة امتعاضي. غادرنا الشقة بعدما أنهى الحديث بطريقة ذكية وخرجنا إلى الشارع تبللنا زخات مطر شتوية.

في تلك الليلة دخلناها مستأجرين. كيف تم ذلك؟ هو الله...

بل لا أدري. ربما وقف الله بجانبنا وتيسرت كل الأمور. مع أنني كنت أراهن على ليلة مبيت ثالثة في العراء. فعلناها هذا الأسبوع. توجهنا إلى مقهى المحطة واقتنينا قهوة سوداء ورحنا نتسامر ونحلم. نوجه اعتذارات صامتة لمن اقترحوا علينا خدماتهم ونعود إلى أحاديثنا الخالية إلا من الصقيع والمهانة المغلفة.

انتبهت إلى المقهى من جديد. لمحت ظلال بعض الزبناء على أطراف المقاعد. والنادل يضع على طاولة ما براد شاي وفطيرة يفضح طراوتها الدخان المتصاعد. كل الأمور تبدو على ما يرام في هذا الحي المحيطي...لكنني لست كذلك...تنهدت تنهد يتيم بائس وقصدت المطبخ.

غضنت شريحة خبز بزيت الزيتون ووضعت الماء يغلي. تذكرت أمي. حياتنا غير متشابهة. يؤلمني أن تتشابه. أرفض ذلك. الوالد المبجل كان محافظا حد التزمت وزوجي حضاري. لست ملزمة أن أقبل يديه بعد كل اجتماع سري في غرفتهما. عيناها المورمتان كانتا شفافتين. كنا نعلم أشياء كثيرة. لون أحمر الشفاه المبعثر على شفتيها وأنينها الخافت كان يفضح ضعفها ويعري أبانا...

أجل زوجي حضاري!!!...ربما يحب التصعلك مع السكيرين في بارات رخيصة أحيانا...ربما قد انهال علي ضربا ليلة الثامن من مارس العام الماضي بعدما شتمته ووبخته على استهتاره. لكنه عاد في الغد وبكى واعتذر وسامحته.
وضعت حبات نسكافيه في فنجان أزرق وقطعتي سكر ثم سكبت الماء المغلى. رججت يدي اليمنى في الهواء. لفحني الدخان الرمادي. مصصت رسغي بعدما لمحت احمرارا عليه. عضضته باكية غير عابئة بالألم. استحليته. لم أكن أريد أن أفكر فيه. فعلها للمرة العاشرة وسأكون حاسمة..

" لا يهمني...سوف أرتاح من عذابات الانتظار...سأعيد ترتيب ما تبعثر من أوراقي وسأحيا. حتما لن أموت "
رفضت آلاف الأسئلة التي توالدت في ذهني وأنا أرتشف القهوة الصباحية.
" فيلبرر مبيته هذه المرة بما شاء. الحرية شجاعة عقلية "
رن هاتفي الخلوي وعلى شاشته كانت صورته الضاحكة تظهر ثم تختفي. فكرت أن أتجاهل ندائه. وعدلت عن ذلك قائلة أن الأمر سيتطلب كثيرا من الشجاعة وبضع ذرات من الحسم المتآكل في داخلي.

جاء ترحيبي باردا وتعمدت أن يكون صوتي نعسانا. كدت أن أصرخ به أن ينسى رقمي كما ينسى أو يتناسى المرأة التي أكون في خضم لياليه وسهراته التي لا تنتهي لولا الصوت الغريب الحاد القادم إلي من الطرف الثاني. لم يكن صوته. أعرف نبراته عن ظهر سنين طويلة. في جل حالاته الشخصية....
" سيدة م.ع "
قفز قلبي من بين ضلوعي. وضعت يدي على الجانب الأيمن أو الأيسر من صدري لا أذكر. المهم أنني اتكأت عليه.

" أجل "
"هنا الشرطة. زوجك معتقل. اجلبي معك ملابس جديدة له وبعض الأكل والسجائر"
حدثني كأني على عهد بالمخافر والذهاب والإياب. ماذا سأجلب له؟. كل ملابسه متسخة بعدما أقسمت قبل أسبوع ألا أنظف شيئا من وسخه حتى يتمسأل. تجلدت. كان صوتي واضحا متزنا وأنا أقول :

" طيب. سآتي بعد قليل"
"اسألي عن س."
"إلى اللقاء"
تسمرت في مكاني. ويلاه ماذا فعل؟. ويلاه ماذا سأفعل؟

فتشت في مستودع الملابس المتسخة عن ثبان ذكوري غير متسخ تماما. ضمخته بعطره. أخرجت من خزانة ملابسه أكواما من الثياب. بعد دقائق بطيئة, استقر لاوعيي على قميص صيفي وسروال جينز. منشفة. مناديل ورقية. ماء عطر. بطاقة هويته. قهوة في كظيمة لم أستعملها بعد. عجة بالجبن. خبز. مناديل ورقية مرة أخرى وكؤوس بلاستيكية تستعمل كل إجازة صيفية لمشروبات غازية على شاطئ البحر.
بحثت عن "س" فوجدته ينتظرني عند مدخل المخفر. قبل أن أدلف الباب استرقت النظر إلى الشارع الرئيسي وجلا من أن يرمقني أحد المعارف. دعاني الشرطي إلى الانتظار ثم اختفى حاملا معه الحقيبة. مر أمامي رجل طويل القامة. وقف قبالتي يتفحصني باهتمام.

 "هل تسألين عن شخص ما؟
 " أجل "
 "أخوك؟
 "بل زوجي"

غمزني ودعاني باقتضاب إلى مكتبه للانتظار. لعنته في نفسي. لو كنت في ظرف غير هذا لصرخت في وجهه واتهمته بالتحرش الجنسي. ركزت على الشامة الكبيرة التي تعلو خده وغبت بعدئذ في هم الصباح إلى أن عاد "س".
" لم تجلبي سجائر كافية. الغذاء لأربعة أشخاص على الساعة الثانية بعد الزوال. ليس من حقي أن أتحدث إليك لكن حالتك لا توحي بالألفة مع هذه الأماكن. سأعتني به. لا تقلقي"

 "إنما...ما تهمته؟"

جرني بلطف إلى المدخل الرئيسي ثم أمرني بإشارة منه أن أغادر.
عند الدرجة الثالثة سمعته يصرخ :
" الغذاء لأربعة أشخاص. السكر العلني وتبادل الضرب "
اللعنة عليك يا "س". الفتاة التي تصاحب والدتها تستدير متنبهة. الرجل ذو البطن المترهل ينظر إلي بازدراء. والشرطي الذي يتباهى ببذلته أمام المارة يهمس لي حين حاذيته.

 " لا تقلقي. سيخرج قريبا "
 كل جملك جاءتني هامسة فلم صرخت عالنا تهمته. أيها الملعون !!!!
ثم...الغذاء لأربعة أشخاص؟؟؟
 كيف؟؟؟

أجرجر الأيام الأخيرة من هذا الشهر البائس ذو الواحد والثلاثين يوما ولا أملك نقودا...لو كنا في فبراير !!!

هنا المغرب. بلد الإسلام وبوابة أوربا الإفريقية. أمام مرفأ سيارات الشرطة التابع للمخفر دكان يبيع السجائر والكحول علانية. على عشرة أمتار حانة لا يرتادها إلا المغاربة المنهكون. وعلى الشارع الرئيسي الموازي حانات منذ عهد الاستعمار, لا تغلق أبوابها إلا شهرا في السنة للصيانة.
قلت له من يأسي، مرارا، إني سأتنكر ذات يوم وأدخل الحانات التي تمنع على النساء. خمارات بئيسة الداخل إليها صاح والخارج منها سكران. علق على حلمي بكلام لا أتذكره وغصت بعدئذ في اليومي...في انتظارات الليل الطويلة وشتائمي التي لا تنتهي ومحطات حب هي كل ما أملك من هذا الزواج.
قابلت ضابطين وتحدثت مع الثالث في الهاتف. جميعهم قالوا إنهم يسكرون ويتأخرون ويتصعلكون. طمأنوني...
 " سيخرج "
فكرت في عجرفته وكبريائه العظيم.

كلامهم متشابه كما لحظة المقابلة الأخيرة. غمزة وابتسامة تبدي أفكارهم المؤجلة عمدا ثم أرقام هواتف تتهاطل علي، ويختبأ حينها القلم والأوراق وترجف يدي باحثة في ظلام الحقيبة اليدوية...

صرفت الكثير على بطون رجال الأمن الجشعة. علب السجائر والساندويشات والحلويات وقنينات الكوكا كولا والمياه الطبيعية زيادة على "القهوة". الوريقات الزرقاء التي اقترضتها لم يبق منها سوى بضع قروش رمادية...

في المساء وجدت وجوها جديدة لا تتشابه مع من عرفت نهارا إلا في الزي الأزرق. لم أكن أملك سوى الأكل الفخم الذي جلبت، وعلبتي سجائر ورواية لغادة السمان لم أقرأها بعد وجاكيت دافئة فكرت أنها ستحميه من برودة الليل والحيطان.
تلكأ الشرطي وراح يعدد على سمعي قوانين الإدارة والأمن وأهوال الوطن وبؤس الرواتب..

فهمت لكنني لم أكن أملك قرشا. توسلت إليه. دمعت عيناي بعد يوم شديد وثقيل. قسمات وجهه المتجمدة صفعتني. فرغت الكيس أمام عينيه. رحت أعدد، بدوري، مزايا طبخي. أغريه بالرائحة المنبعثة من الأكياس الصغيرة. قبل على مضض. غاب لحظة في السرداب الذي تخفيه الباب الجانبية الحديدية. عاد حاملا سجلا ضخما ثم فتحه بيد بينما انشغلت يده الأخرى في لم الكيس البلاستيكي الذي فرغت محتواه قبل قليل.
سجل اسمي وعنواني ومهنتي بخط أزرق. التهم كومة من شرائح البطاطس المقلية. شفتاه لامعتان على جانب منهما ضوء يشع. سألني عن السجائر. وضعت العلب على المكتب الخشبي المهترئ. كتب في قائمة عريضة بخط رديء :
 " خبز. فرماج (جبن). حليب "
"معذرة ولكن...لم أجلب هذا. انظر...لحم متبل يكفي لأربعة أشخاص. لوز. بطاطس مقلية. مرق. علبتا سجائر ماركة فاخرة لك وله.."
تجاهل توضيحي..أو أنه لم يسمعه.

" روماااج نقطة حليب نقطة. إبهامك "

بصمت بإبهامي ثم دلفت إلى الخارج. استدرت. كان يعبث بالأكل مع زميل له. ويضحكان...

نسيم الليل البارد، وجوه المواطنين ورائحة هذا البلد الفائحة كونت في حلقي غصة مؤلمة. لون إبهامي أزرق. الخاتم المشع في البنصر. قدماي المتعبتان. رائحتهما تصل إلى أقصى شقة في هذا الحي. استسلمت لضعفي الذي واريته. دمعات حرى على خدي. صعدت السلم. غبطتهما وأنا أمرر يدي على بطني الضامر. وأفكر في المجلد المليء بالبصمات الأنثوية وبالخبز والفرماج والحليب...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى