الخميس ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم الهادي عرجون

قراءة في المجموعة الشعرية «و للماء ليله أيضا»

بادىء ذي بدء يقول الفيلسوف الفرنسي"غاستون باشلار":"الكتابة المبدعة إمكانية كل إمرأة لأنه فعل أنوثة"فالمرأة تمتلك الموهبة و الإمكانيات التي تجعل منها قادرة على بث شعرها و مشاعرها في جنس أدبي متميز فالإبداع يعتمد على الإحساس التعبير الجاد الخفي و المعلن نتيجة الصراع الداخلي و هو ما يجعل المرأة الأقدر على التعبير لشدة إحساسها و رقة تعبيرها عن قضاياها و همومها ومشاعرها الدفينة.

و بخصوص تجربة الشاعره هندة محمد يمكن أن نضعها ضمن عدة تجارب مرت بها في الكتابة الإبداعية من كتابة النص النثري إلى النص العمودي إلى قصيدة التفعيلة التي بثت فيها مكنون عواطفها و مشاعرها الدفينة تتآلف تارة وتتكاتف و تارة أخرى تتباعد فقد جعلت بإحساسها و تعابير نصوصها تخرج من الخطاب الذكوري المسيطر فهي ترفض هذه التبعية و تتحدى لتصبغ القصيدة ببعد أنثوي و خصائص لغوية أخرجتها من سلطة الخطاب الذكوري.

و بذلك ينطبق على شعريتها ما عبر عنه الشاعر و الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري في إحدى مقالاته حول الشعر النسوي العربي في أحد فصول مجلة"ذوات"إذ يقول:"و مع شيوع قصيدة التفعيلة و النثر عموما انعطفت الشاعرات بتجاربهن إلى مرحلة شعرية جديدة لعل أهم سماتها تجذير البعد الأنثوي للقصيدة بخصائصها اللغوية و مقوماتها البلاغية و الفنية و الإنهمام بالجسد بتفعيلاته و إيحاءاته المتنوعة و هو ما أتاح للدارسين أن يتلمسوا نشوء خطاب شعري نسائي يراهن بأنساقه و كيانه الذاتي على تحقيق جماليات مغايرة بقدر ما يرفض تبعيته لسلطة الخطاب الذكوري الفحولي التقليدي وإنطواء تحته، بل يتحداه و يتمرد عليه".

و هكذا يتراء لنا تشبع الشاعرة هندة محمد بهذه المرحلة لإنتزاع الإعتراف والإقرار بخصوص الشعر النسائي و فرض وجوده على الساحة الشعرية التونسية فهي الناطقة بإسم الإناث و أسرارهن.

تقول الشاعرة في قصيدة:"أسرار"الصفحة 50 و 51:

أجيء مع التائهين
أجيء مع التائبين
صلاة بأسرار كل الإناث
أوزع عشبك و أحنو بكل المرايا

فمجموعتها الشعرية"و للماء ليله أيضا"الصادرة عن دار المنتدى للثقافة والإعلام سنة 2014 تتحدى فيها الشاعرة هندة محمد الخطاب الذكوري وتتجاوزه، ففي المجموعة الشعرية تأخذنا الشاعرة في رحلة صبغت قصائدها بألوان عدة و لغة شعرية راقية بإستجلاء ثنائية الماء و النار/ النور و الظل / السماء و الأرض ( التراب) مع إضافة رموز توارت تارة و ظهرت تارة أخرى في جنبات النص و لا ننسى الأسلوب الفريد الذي انتهجته الشاعرة لتحريك ألفاظ النص لتراقص موسيقاه بعيدا عن الرتابة مع إضفاء فيض من الحيوية و النبض والحياة لتبث روحا جديدة على صفحات الديوان.

ثنائية الماء و النار:

تقول في قصيدة"أحلام الغائبين"صفحة 23 من الكتاب:

"هذي الريح حين حفرت كل خنادقها نحوك
فتلك النار
و هي تعبد كل مسافات
نحو قرى الماء"

و كذلك في قصيدة"كلام المرايا"صفحة 72 التي تقول فيها:

"و أسلمت قحطي
لحقل المرايا
فلا الماء في
و لا النار شطري"

ثنائية النور و الظل ( الظلام ):

تقول في قصيدة"إنزياح إلى الشرق"صفحة 44 من الكتاب:

"و أنا أعبر أرصفة الضوء
نحو متاهات ليل بك يستكين"

و كذلك في قصيدة"صحاري الروح"صفحة 30 التي تقول فيها:

"ما تلك المدن العابرة
أسماؤها سالت بين الضوء و بين الظل"

ثنائية السماء و الأرض ( التراب ):

تقول في قصيدة"لأن الحياة سعيدة"صفحة 76 من الكتاب:

"و ما كنت قبل الولوج إليك أعيش
فقد كان صوت الفراغ يرمم أجسادهم
و كنت كجمر أموت و أورق بين السماء
و بين الرصيف"

كما تتداخل هذه الثنائيات فيما بينها لنرى التقابل و التجانس و النفور بينها لتجتمع تارة و تتشتت تارة أخرى و لكن في النهاية يجمعها الماء الذي يحوم حولها يبللها يغسل حزنها و يطفىء نار وحشتها و ينير دربها صيرورة الماء ومجاز الماء الذي أذاب مسافات الشمس و غطى ظلام الليل و انساب في أعماقها كجدول يمنح الحياة.

تقول الشاعرة في قصيدة"صحاري الروح"صفحة 30 من الكتاب:

"من تلك المدن العابرة
أسماؤها سالت بين الضوء و بين الظل
لكن سماء أرهقها التيه انهمرت
لتعود للروح العطشى مزارعها
و لتينع كل لغات الماء بين معابرها"

و كذلك قولها في قصيدة"صباح بمقهى السقيفة"صفحة 69 من الكتاب:

"لا خوف من مطر قد يمر بدهشتنا
و كل الممرات تعبرني كشمس
السكر النابت في قاع يديك
أصابعك الممتدة بين اسمي و ظلي توزع ضوءها"

و مع كل هذا فالأمثلة كثيرة و بتتبع مسارات النص يمكن ذكر أكثرها و نسيان كثير منها لأن الماء هو الرابط بينها الواصل بين مفرداتها البطل الرئيسي الذي يقودنا بصيرورته من نص إلى نص و من صورة شعرية إلى أخرى.

كما أن الرمزية الجامحة و الإستحضار الزمني و اللازمني في نصوصها جعلها من الجمالية بمكان فالشعر عندها نبض الحياة و صفاء الماء يجري بنا نحو عوالم أخرى نتعشقها و نسبح معها في مدارات عية فنغعرج فيها و نتلمس أحاسيسها التي تبثها في نصوصها من شجون و خلجات و أشواق و هموم.

فشعرها ليس كشعر النساء المألوف لدى العامة المليء بالغنج الأنثوي الواضح و الدلال فهو شعر يحمل في جوانبه رسالة شاعرة متمرسة تدرك كنه الألفاظ والكلمات التي تبثها في نصوصها مع جزالة المعنى و جمال الصورة، حيث استفادت الشاعرة هندة محمد في تجربتها بالمخزون الثقافي و المعرفي بالإضافة إلى الموهبة و مهارة استخدامها في بناء المفردات فجاء شعرها مليئا بالحبكة الشعرية و الصورة الفنية الراقية التي وشحت بها نصوص الديوان و أطلقت العنان لمخيلتها لترسم عالمها الشعري الذي ترمي إليه، فشعرها له عطر خاص ومذاق خاص و جمال يتلمسه القارىء و الناقد عند تصفح"و للماء ليله أيضا".

فالشاعرة في ديوانها تتبع لغة الماء و هذه لغة أثرت على إنسابية النص عندها تأثيرا إيجابيا لتنهمر الألفاظ و تفيض مدن الروح شعرا و عطاءا و بوحا شعريا باذخا يستنهض سواكن الروح و يذيب جليذ المشاعر.

و في الختام ما على قارىء"و للماء ليله أيضا"إلا الإبحار و ترك العنان للمخيلة حتى تسرح في أجواء النص ليكتشف في الشاعرة أنها تخلق لنا لوحة تشكيلية رسمتها ريشة مبدعة ترسم دقائق الأمور بحبكة و حنكة لا متناهية برقة إحساس و رشاقة معنى.
بقلم: الهادي محمد عرجون


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى