الثلاثاء ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم إدريس ولد القابلة

المغرب على فوهة بركان

تقديم

تطرق التقرير الذي قدمه صندوق النقد الدولي عن المغرب بطلب من هذا الأخير إلى مواضيع وإشكاليات لها حمولات متعددة اقتصادية، اجتماعية، سياسية وثقافية، باعتبارها تهم الحاضر والمستقبل، كما أنها تهم القائمين على الأمور والمواطن العادي، إذ أن السؤال البارز حاليا والذي يشغل بال الجميع، حاكمين ومحكومين، هو: إلى أين نحن سائرون؟

أثار تقرير البنك الدولي الأخير حول بلدنا عدة تساؤلات بخصوص الوضعية الحالية وطبيعة الأزمة ومعيقات التنمية وعلاقة نهج تدبير الحكم بالإعداد للغد عبر تفعيل إستراتيجية للتنمية، ليخلص إلى أن المغرب سيعيش أوضاعا صعبة في ظل غياب ما يمكن خوصصته، الشيء الذي قد ينذر بانفجارات اجتماعية لا يمكن التحكم فيها. لذا عرض على القائمين على الأمور جملة من الاقتراحات، أهمها التفكير في امتصاص الغضب الشعبي المحتمل عبر اتخاذ اجراءات اجتماعية غير مسبوقة بالمغرب وعلى رأسها التعويض عن البطالة، هذا المطلب الذي يبدو بعيد المنال بحكم عجز المنظومة الاقتصادية عن توفير الشروط لتحقيق نسبة نمو تفوق 6 في المائة سنويا على الأقل وهذا ما نعته التقرير بلغز صيرورة النمو بالمغرب.

إن القارئ لما بين سطور التقرير يلمس إفلاس الدولة وعجز النخبة على توفير البديل للخروج من حال الإفلاس الذي وصلت إليه أو على الأقل التخفيف من وطأته.
ليظل السؤال القائم هو هل مازال في إمكان أوسع فئات الشعب المغربي أن تحلم بمستقبل أفضل؟ هذا هو السؤال الذي أضحى يشغل بال الجميع حاليا، باعتبار أن المغاربة ظلوا ينتظرون ولازالوا، تحسين أوضاعهم منذ أن حصل المغرب على الاستقلال، في حين سارت الأوضاع نحو التردي إلى أن وصلت إلى درجة دفعت البعض إلى دق أجراس الخطر.

و ملف هذا العدد يحاول تسليط بعض الأضواء على تداعيات التقرير الأخير للبنك الدولي وتفكيك جملة من الإشكاليات التي أثارها بغية تجميع عناصر كافية للإجابة عن السؤال: هل المغرب فعلا على فوهة بركان؟

"التقرير" بين التعتيم والتستر

من المعروف أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي دأبا على إعداد تقارير خاصة بالمغرب سواء تحت طلب هذا الأخير أو بدونه، وفي واقع الأمر تم إعداد التقرير الأخير في غضون السنة الماضية (2005).
وقد اضطلع عليه القائمون على الأمور وجملة من الفاعلين الاقتصاديين ورجال الأعمال منذ شهر يونيو 2005، لكن لم يتم الكشف على جزء من فحواه إلا في نهاية سنة 2005 (دجنبر 2005) وقد تساءل البعض لماذا لم يتم الكشف عليه في أوانه، لاسيما وأنه يتضمن تحذير وقلق واضحين بخصوص الغد.

علما أنه ساهم في أعداده جملة من الشخصيات العارفة بدواخل الأمور الاقتصادية والاجتماعية، منهم مسؤولون حكوميون وفاعلون في القطاع الخاص ومتخصصون في المجال الاقتصادي، نذكر منهم فتح الله ولعلو، صلاح الدين مزوار، رشيد الطالبي العلمي، مصطفى المنصوري، عادل الدويري، أحمد لحليمي، امحمد الكرموني، عبد اللطيف بناني، سمير التازي، حسن الشامي، شكيب بنموسى، المحجوب بن الصديق، عبد الرزاق أفيلال، نوبير الأموي، الهادي شباينو، إدريس بنعلي، عبد العالي بنعمور ومحمد حفناوي.
ورغم لباقة المفردات المستعملة والحنكة الديبلوماسية في صياغة هذا التقرير، فإن مؤلفيه لم يجدوا بدا من استخدام بعض العبارات السلبية والقاسية أحيانا للتعبير عن تصرفات الحكومة من أجل إنقاذ الاقتصاد الوطني ولم يستطع التقرير إخفاء جملة من الهفوات في تدبير القروض والعبث بمداخيل الخوصصة.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن المغاربة يكادون لا يعرفون شيئا عن الأموال التي تقترض باسم الشعب المغربي إلا عبر تقارير أجنبية أو تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي رغم أنها ديون على الجيل الحالي والأجيال القادمة تسديدها.

حلول التقرير

عموما تدخل الحلول المقترحة في المنظور المخطط له من طرف البنك الدولي منذ نهاية الثمانينات وهو المنظور الذي يعطي الأسبقية للتوازنات المالية والماكرو اقتصادية.

وفي هذا الإطار، يقترح التقرير، للخروج من الوضعية المقلقة التي من شأنها أن تؤدي إلى انفجارات اجتماعية، حلولا لا تخرج عن النمط الكلاسيكي للمؤسسات المالية الدولية الموكول لها تكريس الإستراتيجية الرامية إلى "أمركة" العالم وهكذا يقترح وصفة للخروج من وضعية الأزمة ويمكن اختزالها فيما يلي:
  الاستمرار في تقليص عجز الميزانية لجعله لا يتعدى نسبة 3 في المائة.
  أن لا تتعدى الديون الخارجية ما نسبته 65 في المائة من الناتج الداخلي الخام على أكبر تقدير.
  تخفيض رسوم الموانئ وتسعيرة عبور مضيق جبل طارق.
  المحاربة الفعلية للرشوة بإشراك جهات مستقلة عن الحكومة.
  تكييف إجراءات الاستفادة من الموارد المالية المتوفرة مع طبيعة المقاولات المغربية المتوسطة والصغيرة.
  تطوير مساحات الأنشطة التعاقدية بين الحكومة والجامعات ومعاهد التكوين.
  الاعتماد على قيادة سياسية من مستوى عال ومجلس للتنسيق برئاسة السلطة العليا.
  الحفاظ على مستوى ثابت للأجور الدنيا وإصلاح نظام الضمان الاجتماعي والإقرار بالتعويض.
  تخفيض نسبة الضرائب (الشركات، الضريبة على الدخل).
  نظام صرف مرن.
  تخفيض الرسوم الجمركية.
  تعزيز القوانين المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية.

لغز نسبة النمو

يتوفر المغرب على مؤهلات من شأنها تفعيل آليات النمو، لكن ظل عاجزا على تفعيلها، إلى أن وصل إلى حد من تردي الأوضاع قد يساهم في تأجيج الغضب الشعبي ومن شأنه أن يؤدي إلى انفجارات اجتماعية، هذا هو اللغز، بالواضح وليس بالمرموز، حسب تقرير البنك الدولي.
فبعد أن محص التقرير نقط القوة ونقط الضعف خلص إلى التحذير من حدوث أزمة اجتماعية في المغرب إن لم تؤخذ مبادرات عاجلة.
فإذا كان المغرب يتوفر على موقع جغرافي متميز، يشكل نقطة قوة على الصعيد الجيو سياسي والجيو استراتيجي، وإذا كان قد تمكن من الحفاظ على درجة مقبولة في استقرار الأسعار ونجح نسبيا في خفض نسبة الدين العمومي وفي تعزيز نظامه المالي وتطوير بنياته التحتية كما اهتم بإصلاح التعليم وإنعاش السياحة وتفعيل الخوصصة وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي إلى حد الآن، فإنه بالمقابل مازال لم يتفوق بعد في تحديد، بدقة، المعيقات الأساسية التي تحول دون تحقيق نسبة النمو المطلوبة.

كما أنه لا زال يشكو من جملة من نقاط الضعف يمكن إجمالها في محدودية وعدم مرونة سوق الشغل وثقل العبء الضريبي على المقاولات ونظام صرف غير مرن لا يساعد على تحقيق تنافسية كبيرة وارتفاع الرسوم الجمركية وغياب التنسيق بين القطاع العمومي والقطاع الخاص.
ولكي يتمكن المغرب من تجاوز عنق الزجاجة عليه تحقيق نسبة نمو تفوق 6 في المائة سنويا وتخصيص الثروات المضافة للاستثمارات المنتجة للثروات، وفي حالة عدم التوصل إلى هذا المبتغى ستبقى الأوضاع سائرة نحو التردي وباستفحالها ستتنامى شروط حدوث انفجارات اجتماعية ما دام أن صفوف الغاضبين على الوضع ستتوسع أكثر.
فلا مخرج للمغرب والحالة هاته، إلا بتحسين الأوضاع المعيشية لأغلب الفئات وتحسين دخلها.
ويزيد الطين بلة هو أن منظومة المعاشات ترتكز على صناديق كلها مهددة بعجز مستدام إلى حدود 2010، ما عدا واحد منها، علما أن منظومة المعاشات العسكرية عرفت هي كذلك عجزا قدر بما نسبته 0.20 في المائة من الناتج الداخلي الخام منذ سنة 2003 ولازالت الحكومة منشغلة بهذا الخصوص.

لا بد من تعديل دستوري

إن الجديد في تقرير البنك الدولي هي الإشارة الواضحة إلى الاهتمام بقضية تدبير الحكم وآليات صناعة القرار وعلاقتها بالمجالين الاقتصادي والاجتماعي.
فلأول مرة تطرق تقرير صادر من مؤسسة مالية دولية لنهج الحكم وتدبيره بالمغرب ليخلص إلى ملاحظة غياب إستراتيجية شاملة واضحة تعمل كل دوائر ومصادر صنع القرار على تطبيقها ومتابعة تكريسها على أرض الواقع.
وقد قال قائل: "في المغرب الجميع يشتغل في كل شيء ولا يشتغل أحد في شيء"، هناك تداخل في صناعة القرارات دون وجود رؤية واضحة المعالم ومحددة المقاصد.
إن التقرير تساءل بطريقة غير مباشرة، تكاد تكون ضمنية ومتسترة حول من يحكم المغرب فعلا؟ كما أثار في أكثر من فقرة من أجزائه جوانب متناثرة هنا وهناك للجواب على هذا السؤال وبتجميعها يتبين أن التقرير ينتقد بطريقة محتشمة زحف المؤسسات الاقتصادية، التابعة للقصر، على بعض القطاعات ووضع الملك كفاعل سياسي يرسم اختيارات الأمة ويوجه عمل الحكومة، وقد يكون الغرض من التقرير، بهذا الخصوص، هو إبراز التقابل بين الملك كشخص مقدس لا تنتهك حرمته حسب مقتضيات الدستور، من جهة ومن جهة أخرى كفاعل سياسي واقتصادي يترأس الجهاز التنفيذي.
فرغم كل ما قيل ويقال حول الليبرالية والديمقراطية، فإن المؤسسات المالية العالمية ظلت تفضل بالنسبة لدول العالم الثالث، نهج الحكم الذي يؤمن احتكار السلطة التنفيذية والتشريعية ويتحكم في الأنشطة السياسية والنقابية وتحركات الأحزاب والنقابات وقد اعتبر كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الحاكم المحتكر لمختلف السلطات أهم شروط نجاح برامج التقويم الهيكلي المبلورة من طرفيهما، وفي هذا الصدد، ظلا يقدمان المغرب في ظل عهد الملك الحسن الثاني كنموذج يقتدى به في العالم الثالث.

إن القارئ لما بين سطور التقرير يستنتج بسهولة أن خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يحثون الآن، بطريقة غير مباشرة، على التفكير الجدي في التعديل الدستوري ويراهنون كثيرا على انعكاساته على عملية التطور السياسي والاقتصادي معا، هذا بجانب الإشارة إلى إعادة التفكير الجاد في توزيع الثروات.
ومن المعلوم أن مطلب التعديل الدستوري ظل حاضرا بالمغرب وقد سبق للكثير من الجهات المغربية أن تداولت هذا الموضوع، كما قيل أن هناك خلية تابعة للقصر الملكي منكبة على دراسة مسودة بهذا الخصوص وذلك استعدادا للتطورات التي قد تعرفها قضية الحكم الذاتي في الصحراء المغربية وكذلك اعتبارا لأن التقرير اهتم بهذه القضية في نطاق يتجاوز إشكالية الحكم الذاتي ويهتم بنهج تدبير الأمور وآليات صناعة القرار بالمغرب (علما أن القائمين على الأمور ببلادنا اطلعوا على فحوى التقرير منذ صيف 2005).

إن إشكالية التعديل الدستوري ليست بالقضية الجديدة، ففي السنوات الأخيرة ارتفعت جملة من الأصوات منادية بضرورة الإصلاح والتعديل الدستوري وتغيير بعض مواده لتتماشى مع نوعية التطورات التي عرفها العالم وكذلك المغرب.
وطالبت هذه الأصوات بفتح حوار وطني في الموضوع، إلا أنه يبدو أن الهيآت الحقوقية والنسائية والأمازيغية (فعاليات المجتمع المدني عموما) هي التي بدت أكثر مطالبة بالنظر في الإشكالية الدستورية أكثر من غيرها.
وحظي الفصل 19 من الدستور بجدل واسع لم يحظ به أي فصل آخر منه، علما أن هذا الفصل ظل مفتاحا أساسيا لفهم الحياة السياسية ونهج تدبير الحكم في عهد الملك الحسن الثاني وهو فصل وضع ضمن دستور سنة 1962 بمباركة كل من علال الفاسي وعبد الكريم الخطيب.

وينص هذا الفصل على أن "الملك أمير المؤمنين ورمز وحدة الأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها وهو حامي الدين والساهر على احترام الدستور وله صيانة الحقوق وحريات المواطنين لاستقلال البلاد، وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة" وأضيفت عبارة "الممثل الأسمى للأمة" إلى هذا الفصل ضمن دستور 1970.
وقد اتضح أن هناك جهات استعملت الفصل 19 بدافع انتهازي قصد حماية مصالحها الذاتية للتصدي لمطالب الإسلاميين التي اعتبرتها (تلك الجهات) تشوش على الشرعية الدينية، كما تصدت لمطالب بعض التيارات الحقوقية التي ظلت ترى في الفصل 19 أنه يمثل عرقلة في وجه عملية فصل السلط والإقرار بديمقراطية حقة.
للإشارة، فإن الإسلاميين طالبوا بمراجعة هذا الفصل أكثر من غيرهم، كما أن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان نادت بإلغائه.
ولعل الفكرة الأكثر بروزا، حاليا، هي القائلة بأن على الدستور أن يكون بمثابة وثيقة متعاقد عليها ودستور المٌواطَنة، أي عبارة عن وثيقة متضمنة للحقوق والحريات وتعطي للمواطن حق وإمكانية المراقبة الفعلية للنظام السياسي وذلك باعتبار أن هذه الصيغة هي التي تتماشى مع مرحلة الانتقال الديمقراطي الفعلي.

فهل المقترحات المتسترة لتقرير البنك الدولي الأخير تسير في هذا المنحى؟

المغرب على فوهة بركان

عرف المغرب على امتداد سنوات ترديا على جميع المستويات، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، المدنية والسياسية ووصل هذا التردي إلى درجة تدعو إلى القلق وتنبئ بأخطار قد تكون كبيرة، ورغم هذا لم تظهر بعد أي بوادر لإعادة النظر في جملة من الاختيارات المعتمدة والتي أنتجت هذا الوضع المتأزم.
فبعد أكثر من 4 عقود من الخطابات التنموية وصلنا في نهاية المطاف إلى حصيلة سلبية، وضعية إفلاس بامتياز، فالاقتصاد الوطني أضحى فريسة للمديونية وللشركات متعددة الجنسيات، أما الممتلكات الوطنية التي تكونت من مال الشعب، فقد تم تفويتها عبر الخوصصة للرأسمال الأجنبي، هذا في وقت ظلت فيه الأسعار تزداد ارتفاعا والضرائب المباشرة وغير المباشرة تثقل كاهل المقاولات المتوسطة والصغرى وأوسع ساكنة المغرب واستمر مستوى المعيشة في التدني، وظلت شرائح قليلة محظوظة تزداد بذخا وغنى وشراسة في الاستهلاك.

ورغم الحديث عن الأزمة وجملة من المعضلات والمشاكل، لم تحضر الشجاعة الكافية للاعتراف بأن ما آلت إليه البلاد ما هو في واقع الأمر إلا نتيجة طبيعية لجملة من الاختيارات تم التصفيق لها بالأمس البعيد والقريب ولجملة من التدابير أدت في نهاية المطاف إلى إضعاف الاقتصاد الوطني وجعله على شفا الإفلاس وإلى المزيد من تردي أوضاع أغلب فئات الشعب المغربي.
إن تشجيع خوصصة قطاع التعليم وقطاع الصحة عرض المواطنين إلى المزيد من الأخطار، لاسيما وأن الخوصصة حولت جملة من القطاعات، خصوصا الاجتماعية منها، إلى قطاعات خدمات تشكل وسيلة للإثراء السريع على حساب صحة وحياة المواطنين، إضافة للارتفاع الكبير لأثمنة الأدوية التي فاقت قدرات المواطنين العاجزين أصلا عن مواجهة متطلبات العيش العادية وهذا في ظل غياب تغطية صحية واجتماعية وعلاوة على أن الاستغلال البشع لحاجة فئات واسعة إلى السكن اللائق في ظل غياب سياسة سكنية تمكن أغلب المواطنين من الاستفادة من الحق في سكن مناسب يحفظ كرامة الإنسان.
إن التردي طال جميع مجالات الحياة وزادت حدة هذا التردي بفعل إعادة إنتاج نفس الهياكل القائمة وبشكل أكثر اتساعا وأسرع وتيرة.
واتضح بجلاء أن الاقتصاد الوطني لم يعد قادرا على الاستجابة للحاجيات المحلية والوطنية.

في خضم هذا الواقع، قدم تقرير البنك الدولي تقييمه واعتبره الكثيرون بمثابة تقييم لمس عمق المشاكل والمعضلات التي تعيشها البلاد وخلص إلى أن ضعف معدل النمو وقلة إنتاج فرص الشغل وتراجع الصادرات والتدني المسترسل للأوضاع الاجتماعية سببه الرئيسي هو غياب إستراتيجية شاملة واضحة المعالم وغياب التفكير الجدي في إقامة هياكل وآليات لتطبيقها وحسن تدبيرها كما يتضح من فحوى هذا التقرير، أن المؤسسات المالية العالمية تخلت عن فكرة التصدي للفقر وتعويضها بفكرة "تدبير الفقر" لجعلة محتملا وذلك باعتبار أن المنحى هو السعي دائما نحو الخوصصة إعفاء الدولة من جملة من مهامها الاجتماعية، والجديد في التقرير هو أنه حذر من مغبة استمرار تردي الأوضاع الاجتماعية التي من شأنها إنتاج انفجارات اجتماعية واسعة، لذا اقترح بعض الإجراءات الاجتماعية، لكبح هذه الصيرورة الحتمية (التعويض على البطالة) وذلك كمهدئ ليس إلا.
الحصيلة الآن، هي أن قيام المنظومة الاقتصادية والمالية والبنكية على التبعية للمؤسسات المالية الدولية سهل الاستغلال الاقتصادي للمغاربة من طرف الرأسمال الأجنبي وأوصل البلاد إلى الباب المسدود.
ومن الحصيلة كذلك أن الكثير من المحللين الاقتصاديين والسياسيين ذهبوا إلى القول أن الشعب المغربي لم يتمكن من تقرير مصيره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، اعتبارا لأن مساهمته في صنع القرارات التي تهمه ظلت مساهمة شكلية و "مغشوشة"، لاسيما وأن الانتخابات منذ حصول البلاد على استقلالها كانت انتخابات مزورة ومخدومة بشهادة الجميع الآن.

أمام هذا الوضع، هل يمكن لأوسع فئات ساكنة المغرب أن يحلموا بغد أفضل؟
هذا هو السؤال الذي يرعب الكثيرين حاليا.

غلاء المعيشة و تردي الأوضاع

في خضم الخطابات و الأحاديث والتصريحات المتدفقة حول التغيير و الإصلاح و إعادة الاعتبار للموارد البشرية و للإنسان المغربي بعد أن سحق سحقا على امتداد ما يناهز نصف قرن ظل و لازال ينتظر معاملته كإنسان تستوجب صفته الإنسانية توفير العيش الكريم غير المهين، في هذا الخضم، نشهد موجة غلاء في الأسعار تؤثر بشكل سلبي على مستوى معيشة أصحاب الدخل المحدود، ضاربة قوتهم الشرائية المتآكلة أصلاً و غير الضامنة للحد الأدنى للعيش الكريم.

و لا يخفى على أحد، فرغم الخطابات الرنانة عن قيمة الإنسان و الاهتمام بالموارد البشرية، فإن الزيادة ستطال جميع أسعار المواد و الخدمات و السكن و مصاريف التعليم الذي ما زال يقال إنه مجاني، التطبيب، النقل، الاسمنت و... و... و بالمقابل، لا أحد يتجرأ بالحديث عن كيفية تحسين المداخيل ، المهم أن الزيادة في الأسعار واردة ولينتظر المنتظرون كما انتظروا منذ نصف قرن. و مما يؤسف حقا أن تصريحات المسؤولين الاقتصاديين لا تندرج في إطار البحث عن حلول جدية وعادلة للوضع الاقتصادي...
هذا في وقت تؤكد فيه جميع الدراسات الجدية أنه من المطلوب رفع مستوى الأجور ثلاث أو أربع مرات لكي تتناسب مع ضرورات المعيشة التي يحكمها مستوى أسعار مرتفع لا يتناسب مطلقاً مع الحالة المتدنية للأجور ودخل للأغلبية الساحقة لفئات الشعب المغربي.

إن الظروف الاقتصادية و الاجتماعية أصبحت قضية وطنية في الظروف الحالية، وهي تقتضي حل قضية الأجور و الدخل خلال آجال زمني قصير لا يتجاوز ثلاث إلى خمس سنوات، وإلا يكون حلها جزئياً و ترقيعيا بعد عشر سنوات أو أكثر، وهذا الأمر لا يمكن أن يتم باستمرار آليات الفساد التي تقتطع أجزاء هامة من الدخل الوطني مانعة إياها من التوجه إلى الاستثمار الداخلي، كشرط أساسي لتحقيق معدلات نمو عالية والتي تعتبر شرطا ضروريا لحل معضلة مستوى المعيشة، علما أنه وجب حاليا و أكثر من أي وقت مضى الأخذ بعين الاعتبار إعادة توزيع الثروات و الدخل بشكل أكثر عدلا رغم أنه قضية طال استبعادها من الحسبان.
لقد آن الأوان لصياغة سياسة أجور عادلة ومتوازنة، لأن هذه القضية لا يمكن أن تحل بإجراءات عابرة ومؤقتة ودون إستراتيجية واضحة المعالم وفي هذا السياق، لا يمكن أن يكون الرفع غير الدوري للأجور حلاً جذرياً فهو في أحسن الأحوال يمكن أن يمتص جزئياً بعض الزيادات في الأسعار دون أن يزيل آثارها السلبية المستمرة و دون أن يساهم و لو قيد أنملة في تحسين ظروف العيش و هذا أمر يعرفه الجميع لكن يتغاضى عنه الجميع.

كفانا ضحكا على الذقون ، فإن الجهد المبذول لصياغة سياسات إستراتيجية في مجالات النمو والاستثمار وغيرها، يجب أن يرافقه حتماً بذل جهد حقيقي لصياغة إستراتيجية أجور، علما أنها غير موجودة عندنا لحد الآن بالمغرب، ونعتقد أن ركائزها يمكن أن تتشكل بربط الحد الأدنى للأجور بالحد الأدنى لمستوى المعيشة، أي رفع الحد الأدنى للأجور من ثلاث إلى أربع مرات على أساس مستوى الأسعار الحالي وخلال فترة زمنية لا تتجاوز خمس سنوات واعتماد الزيادات المستمرة للأجور في حالة تسجيل أي زيادة في الأسعار، مما يتطلب تحديد شهري لمؤشر ارتفاع الأسعار وتعويض الأجور على أساسه،و تمويل الزيادات في الأجور من مصادر حقيقية تستند إلى إعادة النظر في العلاقة بين الأجور والأرباح، أي اعتماد سياسة اقتطاع من الأرباح المتزايدة المتأتية من ارتفاعات الأسعار كلما حدث ذلك، عبر سياسة ضريبية فعالة وتعويض الأجور على أساس ذلك لإصلاح الخلل في قوتها الشرائية.

إن قضية الأجور و الدخل بالمغرب هي جوهر القضية الاقتصادية ـ الاجتماعية وهدفها، والسير نحو حلها هو شرط ضروري لتأمين كرامة المواطن وتراجعها سيلعب دوراً سلبياً في تعزيز الوحدة الوطنية، لذلك يجب أن تكون على رأس سلم أولويات القائمين على الأمور ببلادنا.

هل الخوصصة أداة للتنمية أم سبيل للنهب؟

لقد قيل إن الخوصصة ستساعد الاقتصاد الوطني على تجميع شروط الإقلاع وانطلاق صيرورة النمو وتحقيق معدل نمو يُمكِّن من التصدي للمعضلات الاجتماعية القائمة.
وفعلا، قامت الدولة ببيع جملة من المؤسسات العمومية في سياق الليبرالية الجديدة، لكن رغم ذلك لم تتمكن البلاد من الخروج من أزمتها الاقتصادية، بل تفاقمت محنتها من خلال المزيد من تردي معدل النمو وتفاقم العجز الداخلي والخارجي وأصبحت البطالة ظاهرة مزمنة في تصاعد مستمر وسار مستوى معيشة أوسع فئات ساكنة المغرب نحو المزيد من التردي إلى حد أضحت فيه الفئات المتوسطة قلقة على أوضاعها المعيشية.
كان الخطاب حول الخوصصة في البداية يوحي بأن الأمر يقتصر على تصفية بعض المقاولات العمومية التي تعاني من العجز وتكلف ميزانية الدولة مبالغ مالية مهمة، لكن سرعان ما اتضح عكس ذلك منذ انطلاق العمليات الأولى للخوصصة، إذ تم بيع المقاولات العمومية الناجحة والتي تحقق أرباحا مهمة (اتصالات المغرب على سبيل المثال) وفي نفس الوقت تم فيه تأميم "القناة الثانية" (وكانت آنذاك مقاولة خاصة) كانت تعاني من العجز وذلك من أجل دعمها بواسطة الضرائب التي يدفعها المواطنون.

وأثار جملة من المحللين الاقتصاديين إشكالية الخوصصة من منظور المواطن، حيث أكد أغلبهم أن الخوصصة، شأنها شأن جميع القضايا الحساسة بالنسبة للمواطنين لم تكن موضوع استشارتهم، كما أنها لم تحظ بمساندتهم وهذا رفض موضوعي ما داموا يعتبرونها تقف وراء عطالة الكثيرين عن العمل وتدهور القوة الشرائية. وفي نهاية المطاف، اتضح أن المدافعين على الخوصصة هم كبار الأثرياء بالإضافة إلى المستثمرين الأجانب وكل هؤلاء لا يتجاوز عددهم 10 في المائة من ساكنة المغرب، لهذا اعتبر الكثيرون أن الخوصصة بالمغرب، كما تم تطبيقها، لم تشكل أداة تنمية وإنما وسيلة من وسائل النهب المتستر، بل ذهب البعض إلى اعتبارها تشريع مؤسساتي للجرائم الاقتصادية واستغلال وتحويل الأموال العمومية إلى فئة من الخواص.
لكن الخوصصة ظلت من الإجراءات التي دافع عليها بقوة خبراء البنك وصندوق النقد الدوليين، علما أن مسلسل الخوصصة بالمغرب ارتبط ارتباطا وثيقا بالمفاوضات المتعلقة بالديون الخارجية وقد اتضح منذ البداية أن المؤسسات العمومية المعروضة للخوصصة كانت من المؤسسات التي تحقق مردودية عالية وهي التي سيطر عليها الرأسمال الأجنبي. لكن أين ذهبت عائدات الخوصصة في البداية؟ إن الجزء المهم منها عاد إلى نادي لندن ونادي روما (مقرضي المغرب) وبفضلها تمكن المقرضون والشركات العابرة للقارات من التحكم في المؤسسات المغربية الرائدة المخوصصة دون القيام بأي استثمار فعلي.

ومازاد الطين بلة هو عندما فرض البنك الدولي على المغرب حرية تنقل رؤوس الأموال والتي حققت هدفين رئيسين:

1- تمكين الشركات الأجنبية من تحويل أرباحها إلى الخارج بالعملة الصعبة.

2- تشجيع تحويل الأموال الوسخة إلى المغرب وتوظيفها في اقتناء القطاعات المخوصصة كطريقة من طرق تبييضها.

نهب المال العام، جريمة كبرى في حق الشعب
لقد انكشف بجلاء أن مختلف الثروات الوطنية كانت عرضة للنهب المسترسل منذ أن حصل المغرب على استقلاله.

عات ثلة من المغاربة فسادا ونهبوا المال العام، أي ثروات يملكها الشعب المغربي وتقوم الدولة بإدارتها وتدبيرها.
نهبوا الثروات البحرية وثروات باطن الأرض، الغابات، النباتات، الوحيش، الرمال، المياه الباطنية والسطحية، الممتلكات العمومية، الشركات الوطنية، المكاتب العمومية والأموال المغترفة من الضرائب، المساعدات الخارجية والقروض المطلوبة باسم الشعب المغربي.

وقد اعتمد هؤلاء أشكالا متعددة لنهب وتبذير المال العام، فهناك سرقة أموال الدولة وهدرها وتبذيرها في إطار الحفلات والمناسبات والسفريات والمهرجانات، كما أن الإعفاءات الضريبية التي تخول لفئة معينة من الأشخاص، بدون وجه حق، تعد هي كذلك نهبا ونفس الشيء بخصوص التملص الضريبي كما يذهب البعض إلى اعتبار الأجور والتعويضات "الطيطانيكية" شكلا من أشكال النهب والهذر ويدخل كذلك في هذا الإطار خلق مناصب شغل وهمية واستعمال ممتلكات الدولة لأغراض خاصة وكذلك الأمر بخصوص تضخيم الصفقات العمومية، إذ على سبيل المثال لا الحصر أنجزت بعض السدود في عقد الستينيات بمبالغ هرقلية خيالية (15 مليار بخصوص أحدها وليس أهمها).
ليست هناك احصائيات دقيقة بخصوص حجم النهب والهذر والتبذير، لكن هناك مؤشرات دالة بامتياز. ولعل الفضائح المالية المرتبطة بأغلب المؤسسات والشركات العمومية والمكاتب الوطنية لدليل صارخ، علما أن ما تم كشفه، في هذا الصدد إلى حدود الآن، لا يعدو أن يكون بمثابة الشجرة التي تحجب الغابة.
إن النهب، يعني أولا وأخيرا، أن الأموال المنهوبة والمهدورة لم تستثمر لفائدة الشعب، مما ساهم في استشراء الفقر والبطالة والتهميش والخصاص في المرافق العمومية وانتشار السكن غير اللائق واتساع دوائر الجريمة وتزايد الهجرة الداخلية والخارجية.
كما أن من انعكاسات النهب والهذر تصاعد القمع، باعتبار أن ناهبي المال العام والمتواجدين في مراكز صناعة القرار ومراكز السلطة يحاولون حماية أنفسهم بكل الوسائل من التشهير والمتابعة، لذلك يشجعون على تصعيد القمع ضد كل جهة تسعى إلى كشفهم والمناداة بتغيير واقع الحال.

إن النهب، في آخر المطاف، يتسبب بشكل أو بآخر في سيادة وضع اجتماعي مترد لا يطاق. هذا في وقت كان من المفروض توظيف هذه الموارد من أجل تحقيق المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين وهنا تتضح المسؤولية الأولى والأخيرة للدولة ما دامت أنها هي التي تتوفر على إمكانيات المتابعة والمراقبة والمساءلة.
وبذلك يمكن اعتبار نهب وهذر وتبذير المال العام من أكبر الجرائم الاقتصادية والاجتماعية التي ارتكبت في حق الشعب المغربي من طرف فئة يعرفها الجميع وهي جريمة طالت كل القطاعات بطريقة ممنهجة.

الرشوة من معيقات التنمية

يشير التقرير بكل وضوح إلى أن الرشوة تعتبر من أهم معيقات التنمية وتحقيق نسبة كافية للنمو، كما يشير على أنه من الوهم الاعتماد على الدولة لمحاربتها.
ومما يزيد الوضع تعقيد أن آفة الرشوة أضحت منتشرة بشكل مهول، كما أنها استطاعت أن تتحدى كل الآليات القانونية والإجرائية الموضوعة للتصدي إليها أو الحد منها، إنها تمكنت من التكيف مع مختلف المتغيرات، حتى تلك المرتبطة بالعولمة، لهذا طالب التقرير بإشراك جهات مستقلة عن الحكومة في مهمة محاربتها.
ومن الأسباب التي تساهم في استمرار انتشار الرشوة، وجود ما نعته البروفسور المهدي المنجرة "بالخوفقراطية"، أي سيادة ثقافة الخوف والعلاقات التي تعلو على علاقات المواطنة بفعل شيوع الأمية والجهل وضعف التجاوب الحضاري وغياب التربية على المواطنة واستمرار غياب مجتمع المواطنة المرتكز على ثقافة المحاسبة والمساءلة وتفعيل القانون. بالإضافة لاستمرار هيمنة اقتصاد الريع والأنشطة غير المهيكلة وكذلك ضعف الأجور التي لا تفي بضروريات الحياة وبذلك يكون الأساس في تعامل الإدارة مع المواطن هو مدى قدرته على الدفع أكثر.
علما أن الرشوة بالمغرب تعتبر إحدى الآليات المستعملة من طرف الدولة لضمان إعادة إنتاج النخبة الموالية واستمراريتها (الأراضي، الرخص، التعيينات في المناصب غير السياسية...).

ضعف معدل النمو إرث الماضي

تعتبر إشكالية معدل النمو من الإشكاليات المركزية في تقرير البنك الدولي.
ففي الستينيات وصل معدل النمو إلى 5 في المائة وكان يعد آنذاك من أعلى المعدلات المحققة في المنطقة التي ينتمي إليها المغرب، إلا أنه انحدر إلى 2.5 في المائة على امتداد الثمانينات والتسعينات ولم يصعد إلى 4 في المائة إلا نادرا فيما بين سنتي 2000 و 2004 وهي نسبة ظلت ضئيلة وغير كافية للتصدي للفقر والبطالة وتردي الأوضاع المعيشية لأوسع الفئات.
ويعد تقهقر معدل النمو إرث الماضي، باعتباره كان نتيجة حتمية للاختيارات المعتمة ولسوء التدبير ونهب وهذر الثروات الوطنية، إلى أن وصل إلى نسبة أقل من نسبة النمو الديمغرافي (3 في المائة) وبذلك دخلت البلاد في متاهات وعجز اقتصادها عجزا فادحا في التأثير في آليات التنمية بعد أن تم التفريط في تفعيل مؤهلاتها ونقط قوتها.
وبذلك تراكمت عراقيل ومعيقات ومثبطات التنمية وكانت النتيجة هي تدهور الوضع إلى أن وصل المغرب إلى حافة الإفلاس وإلى وضعية تدعو إلى القلق والحالة هاته، فإن الغد القريب لا زال ضبابيا في ظل غياب بصيص الأمل يؤشر بإمكانية تحسين الأوضاع في الأمد القريب وهذا وضع لا يدعو إلى الاطمئنان ويجعل كل الاحتمالات ممكنة.
وإذا كان من الواضح الآن أنه لا يمكن التصدي لمعضلة البطالة إلا بتحقيق معدل نمو كافي لإنتاج وإعادة إنتاج ثروات مضافة تستثمر لخلق فرص شغل جديدة، فما هي نسبة معدل النمو التي من شأنها أن تجعل المغرب قادرا على التصدي للمعضلات؟
للإشارة، إن نسبة النمو الديمغرافي استقرت في حدود 3 في المائة سنويا، في حين نسبة البطالة الرسمية تقدر بـ 12 في المائة وبذلك يتبين أن التوصل إلى الشروع في تقليص حدة البطالة يستوجب نسبة معدل نمو لا تقل على 6 في المائة سنويا وهذا على امتداد 15 سنة على أقل تقدير. وفي حالة عدم تحقيق هذا الحد الأدنى من نسبة معدل النمو سنويا لا يمكن إيقاف وتيرة استفحال معضلة الفقر والبطالة واستشرائهما وبالتالي ستظل شروط احتمال انفجارات اجتماعية تتراكم والغضب على الوضع يحتد.

أخطاء الثمانينات

لقد اتضح خلال الثمانينات بجلاء أن المغرب عاش وضعية تميزت بعدم الاستقرار البين على الصعيد الماكرو – اقتصادي، كما انكشفت جملة من النواقص على الصعيد الميكرو – اقتصادي وأكد كل المحللين الاقتصاديين، سواء من اليمين أو من اليسار، أن هذه الوضعية ما هي إلا نتيجة طبيعية لإستراتيجية التنمية المعتمدة في السبعينات والتي تمحورت حول سياسة التصنيع لتعويض الواردات وسياسة فلاحية مرتكزة على الاكتفاء الذاتي الغذائي وتشجيع المراقبة المركزية للثروات الوطنية من طرف الدولة واعتماد سياسة حمائية أفقدت كل التدابير المتخذة جدواها، وتكريس مسار اقتصاد الريع والامتيازات وتسهيل النهب والفساد.
مما ساعد على استفحال الأوضاع هو اعتماد سبل للتمويل ساهمت في خلق شروط المزيد من تأزيم الوضع، إذ اعتمدت الدولة، لتمويل هذه الإستراتيجية التنموية، على موارد الرسوم المطبقة على الصادرات وعائدات الفوسفاط والمواد الفلاحية والقروض الخارجية.
وبحلول الأزمة التي عاشها العالم آنذاك انهارت أسعار التبادل وعائدات الصادرات، الشيء الذي أحدث اختلالا في الحسابات الداخلية والخارجية لم يسبق له مثيل في السابق وهذا في وقت تصاعد فيه الدين الخارجي بشكل صاروخي إلى حد خنق الاقتصاد الوطني.

آنذاك فرضت المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) على المغرب برنامج التقويم الهيكلي الذي كان بمثابة الضربة القاضية بالنسبة لطموحات المغاربة في تحسين أوضاعهم بعد انتظار طويل (منذ الحصول على الاستقلال)، آنذاك ظهرت بوادر "السكتة القلبية" الأولى.

التسعينيات وإعفاء الدولة من مهامها

لم تفكر الدولة في البلدان الليبرالية، في التخلي عن جملة من مهامها الاجتماعية التي كانت تضطلع بها إلا بعد صيرورة تمكنت خلالها من تحسين الأوضاع المادية والمعيشية لشعوبها وضمان حد أدنى للعيش الكريم.
أما عندنا، فقد تخلت الدولة عن مهامها و "التزاماتها" الاجتماعية في خضم الأزمة وبعد صيرورة تميزت باستدامة تردي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لأوسع فئات ساكنة المغرب في ظل غياب توفير شروط حد أدنى للعيش الكريم، هذا في وقت استفحلت فيه المعضلات في كل القطاعات واتضح فيه أن كل الثروات المضافة استعملت في ترسيخ الاختلالات وإنتاج المزيد من عراقيل الصيرورة التنموية. مما زاد الطين بلة هو اعتماد سياسات الدعم في جملة من القطاعات لم يظهر لها أي أثر إيجابي بموازاة مع الارتفاع المستمر في المصاريف العسكرية. واكتملت الدائرة مع فرض الانفتاح وتحرير الأسعار، بما فيها أسعار المواد الأساسية.

وكانت النتيجة هي تحقيق نسبة نمو سلبية (تحت الصفر) في وقت كان من المتوقع تحقيق نسبة 6 في المائة حسب الخطابات التي تم ترويجها.
في ظل هذا الوضع، أعلنت الدولة عن تخليها عن دورها في جملة من القطاعات الاجتماعية.

الاختلالات المالية بالمغرب

ولعلو دعا إلى التفاؤل و تقرير البنك الدولي دق أجراس الخطر
يبدو أن الهم الذي يشغل وزير المالية المغربي، فتح الله والعلو، هو البحث دائما و أبدا على التوازنات الماكروإقتصادية حتى و لو أدى الأمر إلى التضحية بالنمو و التنمية. و قد يقبل المرء بهذا مؤقتا إن كان هذا الاختيار يحقق النتائج المراد تحقيقها، أي القضاء على الاختلالات ، لكن ما لا يمكن قبوله هو التضحية بالنمو و بالتنمية دون تحقيق أي تقدم هيكلي بخصوص التوازنات الماكروإقتصادية.
فحسب أغلب المحللين الاقتصاديين، لن و لم تتجاوز نسبة النمو 2 ، 1 في المئة سنة 2005 بالمغرب. و بالرغم من ذلك أبدى وزير المالية تفاؤلا فاق الحدود بقوله أن المهم هو تحقيق التقدم في تقوية التوازنات الجوهرية. إلا أن المعطيات المتوفرة من شأنها معاكسة هذا القول بالتمام و الكمال.

فمصاريف الدولة سنة 2005 كانت ثقيلة و ثقيلة جدا، إذ أن سياسة المغادرة الطوعية كلفت خزينة الدولة ما يناهز600 مليون دولار برسم سنة 2005 فقط، أما صندوق الموازنة فعليه صرف 600 مليون دولار كذلك لتغطية الفارق بفعل ارتفاع أسعار النفط. و هذا علاوة على وجوب أداء 150 مليون دولار سنويا ابتداء من 2006 إلى صندوق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية... و هذه كلها مصاريف أثقلت كاهل الميزانية، و ستنتج عنه انعكاسات متتالية لا محالة، بل هزات مالية.
و هذه الاختلالات الظرفية تضاف إلى الاختلالات البنيوية التي أضحت معروفة الآن لدى العام والخاص، لاسيما تلك المتمظهرة في عجز الميزانية الذي ما فتئ يتعمق على امتداد 3 سنوات الأخيرة و الذي تجاوز نسبة 5 في المائة. وهناك المديونية التي وصلت إلى ما نسبته 67 في المئة من الناتج الداخلي الخام ( اعتمدا على أرقام سنة 2005 حسب مصادر فرنسية).

و عموما، إن الإشكالية الأساسية تكمن في كون المغرب يصادف صعوبات جمة في تعبئة و توسيع موارده ( المعتمدة أساسا على الضرائب) هذا في وقت تفوق مصاريفه مصاريف الدول القريبة منه من وجهة الدخل المقارن.

فمن الملاحظ أنه على امتداد 10 سنوات مثلت كتلة الأجور ما يناهز 36 في المئة من الناتج الداخلي الخام، في حين لم تتجاوز هذه النسبة 10 في المئة في البلدان المشابهة للمغرب. كما أن المصاريف العسكرية تناهز ما تفوق نسبته 4 في المئة من الناتج الداخلي الخام وهي مصاريف مازالت غير قابلة بالمرة للمناقشة بالمغرب بفعل عقلية تكرست لدى نوابنا الذين يبدو أنهم أجبلوا على اعتبار بعض المصاريف من قبيل تحصيل حاصل ما عليهم إلا المصادقة عليها جملة و تفصيلا دون النبس بكلمة و إلا كانت وطنيتهم أو ولاءهم للوطن قاب قوسين أو أدنى.
و أغلب المحللين الاقتصاديين يرى ضرورة اعتماد حلول عبر إعادة النظر في المنظومة الضريبية، لا سيما بخصوص الضريبة على القيمة المضافة عبر تحديد نسبة موحدة و التخلي عن الإعفاءات أو التقليص منها وتغيير منظومة الضريبة العامة على الدخل بالتخفيف على الأجور الدنيا و رفع نسبة الضريبة بخصوص الأجور الطيطانيكية، لا سيما تلك التي لا تتناسب و حركية آليات إنتاج الثروات المضافة بالمغرب، و كذلك الحرص على تدبير الشركات بشكل أكثر فعالية. و هذه ، في نظرهم، إجراءات من شأنها أن تحسن في القريب العاجل موارد الدولة. لكنها إجراءات لا تروق وزير المالية المغربي الذي يصر على القول بأن الوضع بخير و "العام زين" و بالتالي لا داعي للقلق، فالأمور سائرة نحو التحسن باستمرار، كما يبدو أن هذا التحسن لا يعاين معالمه إلا هو عكس ما يلاحظه عامة العباد.

و للتدليل على ذلك يقول الوزير أن متوسط نسبة النمو على امتداد 3 سنوات بلغ 6 ، 4 في المئة فيما بين 2001 و 2004 مقابل 6 ، 1 في المئة بين 1997 و 2000 و يتوقف السيد الوزير عند هذا الحد كالذي يتوقف عند "ويل للمصلين" إذ أنه يخفي توضيح أسباب ذلك حيث يتجنب توضيح أن نصف عجز الميزانية سنة 2004 قد تم تمويله بفضل مداخيل الخوصصة ( التي اندثرت بتمويل لم يساهم و لو قيد أنملة في إنتاج ثروات مضافة و بذلك ذهبت عوائد قطاعات إستراتيجية ،ضحى الشعب من أجل إقامتها على طول سنوات خلت، هباء منثورا). و بالتالي فإن التحسن الذي طبل له السيد الوزير لم يكن إطلاقا نتيجة لآلية مستديمة فعالة سوف تتكرس في اتجاه التحسن، و إنما لم يكن، حصرا، إلا نتيجة لموارد استثنائية و ليس دائمة انتهى مفعولها توا دون أن تترك أي أدنى بصمة في البنية الاقتصادية للبلاد أو في إحدى آليات حركيته الآنية أو المستقبلية. و هنا بالضبط تنكشف عورة هذا التحصيل الذي تم التشهير به يمينا و يسارا بثقة في النفس فاقت الحدود. و ذلك باعتبار أنه لا يمكن، و هذا بإجماع المحللين الاقتصاديين، الاعتماد على الثقل الضريبي و لا على الموارد الاستثنائية للخوصصة كبرهان على أن الأمور تسير نحو التحسن. و هذا ما أكده كذلك تقرير البنك الدولي في الموضوع، و الذي أقر، باعتماد طريقة دبلوماسية غير محرجة، بأنه بالرغم من النتائج المحققة فإن عجز الميزانية لا زال قائما و بقوة و سوف يسير نحو المزيد من التردي على المدى المتوسط على الأقل.
و ها هو تقرير البنك الدولي ينبئ بانفجارات اجتماعية إن استمر الوضع على ما هو عليه. و بذلك يكون قد أسقط، جملة و تفصيلا، كل ما ادعاه الوزير، علما أن الحكومة اطلعت على جانب مهم من فحوى التقرير منذ نهاية 2005.

البرجوازية المغربية، برجوازية قاصرة

من المعروف أن دور البرجوازية كان هو بناء اقتصاد وطني وصناعة وطنية، لكن يبدو أن البرجوازية المغربية مختلفة عن برجوازيات بلدان أخرى لأنها لم تنبثق من تدبير ورعاية المقاولات والمشاريع الصغرى والمتوسطة لتتحول إلى مقاولات كبرى تساهم في إرساء أسس اقتصاد وطني متحرر.

إن البرجوازية المغربية عموما، انبثقت عن الإقطاع وعن الارتباط بالاستعمار واستفادت من امتيازات لا حدود لها، الشيء الذي جعلها تتحول إلى مجرد وسيط بين الرأسمال العالمي والسوق الوطنية.
ويكاد يجمع المحللون الاقتصاديون على أن البرجوازية المغربية تطورت بفضل امتيازات وهبات وإكراميات مخزنية وأصبحت تضع يدها على أهم الإمكانيات الرأسمالية لكن دون امتلاك عقلية المقاولة والاستثمار، بل ظل هاجسها الأساسي هو استنزاف الثروات الوطنية دون استفادة الاقتصاد الوطني وأوسع فئات الشعب المغربي.

كما شاركت هذه البرجوازية في تحمل المسؤولية على الصعيد المحلي والإقليمي والجهوي وتصرفت في المال العام لخدمة مصالحها دون أن تساهم في رقي الجماعات والأقاليم عبر تحقيق تراكمات من شأنها تحسين الأوضاع المعيشية للساكنة.
وبذلك تكون قد استغلت النفوذ من خلال احتلالها مواقع المسؤولية، مما مكن السياسيين والوزراء ورجال السلطة من تكديس ثروات مهمة بفعل الفساد وعلى حساب الصالح العام المحلي والوطني.

وقد ساهم التهريب والرشوة والفساد في الإثراء السريع وغير المشروع، حيث كانت ولازالت الرشوة سائدة في جميع مجالات الحياة، كما تم استغلال المواقع لتهريب البضائع من البلدان المجاورة أو من الصحراء المغربية (المواد المدعمة) لبيعها في المناطق الداخلية والشمالية، مما مكن المهربين من وضع اليد على ثروات هائلة اغترفوها على حساب مال الشعب وحقوقه.
واستغلت شرائح من البرجوازية الاتجار في المخدرات لمراكمة ثروات هائلة استعملت في التحكم في جملة من دوائر صنع القرار.

وبذلك تكون الطبيعة الأساسية للبرجوازية المغربية قد ساهمت بشكل كبير في تردي الأوضاع وحرمان البلاد من عدة فرص للإقلاع، علما أن هذه الطبيعة هي من الأسباب التي لم تؤهلها لتكون برجوازية مُواطِنة.

ومن الطبيعي إذن، أن تتهافت هذه البرجوازية على المشاريع سريعة الربح دون الاهتمام بالصناعات الأساسية التي تركتها للشركات الأجنبية وللدولة واعتبارا لطبيعتها عملت برجوازيتنا على المساهمة وبشكل كبير، في إفساد الركح السياسي وفي مناهضة أي مسار نحو التغيير الفعلي.

وخلاصة القول أن البرجوازية المغربية تعيش الآن في مأزق، إذ وجدت نفسها في آخر المطاف أسيرة تعليمات المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي...)، لاسيما وأنها اكتفت بلعب دور الوساطة بين الرأسمال الأجنبي والشركات العابرة للقارات والسوق الوطنية.

التنمية تستوجب شروطا

لقد تحدث الكثيرون عن التنمية و لازالوا يتحدثون عنها دون أن نتمكن من معاينة ما يدل عنها على أرض الواقع المعيش، فعن أية تنمية يتحدثون ؟ و أية تنمية نريد؟
بالنسبة لواقع المغرب، فإن التنمية يجب أن تعني أولا و قبل كل شيء الإصلاح، إصلاح اقتصادي للتمكن من تحقيق تنمية اقتصادية و إرساء قواعد العدالة و التوازن و الاستقرار في المجتمع من أجل تحقيق تنمية اجتماعية و إطلاق طاقات العلم و البحث و الإبداع لتحقيق تنمية ثقافية.
و قبل هذا و ذاك، لقد أضحى واضحا أنه لا يمكن تحقيق تنمية دون الإقرار بديمقراطية فعلية. و هذا يستوجب تمثيلا صادقا لإرادة الشعب في مراكز القرار و يقتضي وجود آليات فاعلة و فعالة للمساءلة و المحاسبة في كل المجالات و على جميع الأصعدة، سياسيا، إداريا، ماليا و قضائيا.
و هذا يعني أن الناخب يحاسب البرلماني و البرلماني يحاسب الحكومة في البرلمان و الحكومة تحاسب الإدارة عبر آليات الرقابة و التفتيش و القضاء يحاسب الجميع على الالتزام بالقوانين و الأنظمة.
فهل بالمغرب يحاسب الناخب المنتخب؟ و هل البرلمان يحاسب الحكومة؟ و هل الحكومة تحاسب الإدارة؟ و هل القضاء يحاسب الحكومة على الالتزام بالقوانين؟ إنها أسئلة أجوبتها معروفة لذى الجميع بالإدراك و بالمعاينة و بالمعايشة اليومية.
و خلاصة القول، أن التنمية هي ضرب من ضروب الإصلاح و الإصلاح لا يستقيم على مستوى التنمية الاقتصادية حصرا، فهو إما أن يكون شاملا أو لا يكون و هذه هي معضلتنا بالمغرب.

من المسؤول؟

عموما إذا كان تقرير البنك الدولي يشير إلى الجفاف وتقهقر الصادرات ويعتبرها من العوامل التي ساهمت في استفحال الأزمة واتساع مداها، فإن هناك عامل أهم منهما ساهم بالقسط الوفير في إنتاج وإعادة إنتاج شروط تعميق الأزمة، إنها توجهات السياسة الاقتصادية المعتمدة والتي ألحقت أضرارا بالغة بالاقتصاد الوطني على جميع المستويات وهذا بشهادة أغلب المحللين الاقتصاديين النزهاء.
فرغم أن الأوضاع ظلت تسير نحو التردي بقيت الحكومة تهتم فقط بالتوازنات المالية لنيل رضى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي دون اعتبار انعكاساتها الوخيمة على أوسع فئات الشعب المغربي، لقد فضلت الحكومة نيل رضى المؤسسات المالية الدولية عوض السعي لتحقيق نمو آني وسريع وكانت أول هدية منحتها للشعب وللوطن آنذاك التحرير المتوحش للواردات ساهم في تصويب الضربة القاضية لجملة من الأنشطة الصناعية المغربية في السوق الداخلي وهذه هدية سوف لن تنساها لها الأجيال القادمة التي كتب لها أن تؤدي توابع هذا الاختيار وهنا تتضح مسؤولية الدولة.

خلاصة :هل يمكن الاستمرار على هذا الحال

إن الوضع الذي يعيشه المغرب حاليا يتميز بمد يسعى لتسريع وثيرة التغيير ومد آخر يقاوم التغيير السريع. فمن جهة، هناك مد ضاغط لتسريع وثيرة تفعيل آليات التغيير الرامي إلى تحسين أوضاع أغلب المغاربة وإعادة الثقة للمؤسسات العمومية ومن جهة أخرى، هناك مد يقاوم هذا المنحى إلا أن المغاربة مازالوا يعاينون إلى حد الآن سيادة رفع الشعارات والتلويح بالوعود الكبيرة لكن بمجرد ما يمر الوقت يتضح أنها لم تعرف طريقها إلى التطبيق، والأمثلة كثيرة في هذا المجال، ولعل آخر ها الإعلان عن القضاء على السكن الغير اللائق والسكن العشوائي، لكن تبين بالملموس غياب الآليات الفعلية الكفيلة بتحقيق هذه الرغبة على أرض الواقع المعيش، علما أن أغلب المجال السكاني المغربي والذي يحتضن أغلب المغاربة، مازال يعد مجالا يحط بكرامة الإنسان.

وبالرغم من كل ما قيل حول ضرورة التصدي لهذه الإشكالية إذ جاء القانون المالي ليسبح ضد التيار حيث أكد على التراجع عن صرف مبلغ 25 ألف درهم لكل موظف صغير يرغب في اقتناء سكن وهذا مجرد مثال.

ولعل هذا المثال كاف لإبراز الخلل في صيرورة تنفيذ القرارات المتخذة وبالتالي يدعو إلى ضرورة المطالبة بإعادة النظر الجذرية في النهج المتبع في تأطير الحياة العامة بالمغرب، باعتبار أن البلاد غير مسيرة جيدا بحجة أن القرارات المتخذة حتى على أعلى مستوى لا تعرف طريقها إلى التنفيذ، وهذه معضلة كبيرة لا يمكن الاستمرار في التفرج عليها لأنها تولد الإحباط تلو الإحباط لدى المواطن المغربي الذي طال انتظاره والإحباط لا يمكنه أن يولد إلا التمرد وفقدان الثقة.

الخوصصة و الفساد...هل من علاقة بينهما؟

الفساد بمفهومه العام عندنا بالمغرب نهب واسع من طرف الطفيليين و البيروقراطيين على مدى عقود لمال الشعب و الثروات الوطنية. إن أغلب التجارب التي منها البلدان التي اعتمدت على الخوصصة أظهرت بجلاء أن المفسدين الكبار، عندما تتراكم لديهم المال المنهوب يفترسون الملكية العامة ثم يدفعون إلى تحويلها إلى ملكية خاصة ناهبة. لذلك كان من الطبيعي أن يحكم من يملك و أن لا يحكم من لا يملك ، باعتبار أن الحكم ما هو، في نهاية المطاف، إلا لحماية ما يملكون.

لقد عاينا التباكي على أكثر من قطاع عام نُهبت خيراته و أمواله، لتقديمه قربانا للخوصصة كأن المشكلة تكمن في القطاع و ليس في من نهبوا أمواله و خيراته هذا من جهة، و من جهة أخرى كيف نُخوصص قطاعات مهمة من شأنها أن تساهم في تأمين أرضية نمو كاف من أجل مواجهة التحديات الكبرى من بطالة و تحسين مستوى المعيشة ؟ علما أنه على المدى البعيد تعتبر الخوصصة أداة لتفتيت المجتمع و الدولة.
و الغريب في الأمر أن المؤسسات المالية العالمية ( صندوق النقد و البنك الدوليين) وضعت جملة من البلدان – من ضمنها المغرب- أمام اختيارين لا ثالث لهما : قطاع عمومي منهوب أو خوصصة ناهبة، ربما بوتيرة أعلى.

و مهما يكن من أمر، فإن صيغ الخوصصة المطروحة لم تُظهر أي علامة إلى حد الآن على تأمين الفعالية الاقتصادية المطلوبة، و كذلك الحدود الدنيا من العدالة الاجتماعية. و بذلك يبدو أن السبيل الأكثر جدوى ليس هو التفريط في القطاع العمومي و الزج به في مزاد الخوصصة العلني، و إنما القضاء على الفساد و النهب و انقاد قطاع الدولة و العباد و البلاد من كليهما. و ذلك لتمكين القطاع العام بجانب القطاع الخاص من العمل لبناء الغد. هذا هو الطريق الذي يمكن بلادنا من مواجهة التحديات مع تحقيق كرامة الوطن و المواطن.

المغرب: هل الاقتصاد بخير؟

لا زال الاقتصاد المغربي يعاني من جملة من الاختلالات البنيوية و ما زال يفتقد إلى حد الآن، و رغم تأزم الأزمات إلى رؤية واضحة المقاصد و محددة المعالم للتعاطي مع المعضلات الكثيرة التي تعيشها البلاد منذ مدة خلت. بل هناك انعداما للرؤية بخصوص أولوية الأولويات و التي اهتمت بها الحكومة دون غيرها على حساب كل الباقي، ألا و هي إشكالية التوازنات ، إذ حتى في هذا المجال اتضح الفشل، رغم كل ما يروج له من خطابات ايجابية مئة في المئة في هذا المضمار عكسا على ما هو عليه الواقع فعلا و هذا أمر يدعو إلى التساؤل بخصوص مصداقية خطاب الحكومة المغربية في هذا المجال. فالأكيد، بشهادة كل الأرقام الحقيقية و ليس المسوقة في التصريحات الرسمية، أن التوازنات لم يتم تحقيقها و أن المديونية الداخلية تفاقمت إلى درجة أنها أضحت تؤثر سلبا على الموارد المتاحة للاستثمار. و لا زال و سيظل ثقل ميزانية التسيير (بفعل الرواتب الطيطانيكية و الامتيازات غير المنتجة و التبذير في البهرجة و المظهر) و أداء مستحقات، يجتم على عنق الميزانية العامة للدولة على حساب ميزانية الاستثمار. فكيف و الحالة هذه يمكن تحقيق ما يتم الترويج له من إعطاء دفعة قوية للاستثمار و انجاز المرافق الاجتماعية قصد تلبية الحاجيات الحيوية و الأساسية لأوسع فئات الشعب المغربي.

فلا سبيل الآن أمام المغرب إلا ترشيد فعلي و ليس كلامي لميزانية التسيير قصد الاهتمام أكثر بتقوية النسيج الإنتاجي و تفعيل المزيد من آليات إنتاج الثروات المضافة. و لن يتم هذا إلا من خلال تعزيز نسيج المقاولات الصغرى و المتوسطة و ليس عبر الخوصصة التي تذهب مداخيلها مهب الرياح دون استثمارات فعلية منتجة. و كان الأولى أن تستثمر تلك المداخيل في تنمية الموارد البشرية عوض تفريقها كالكعكة هنا و هناك.

لقد اتضح للجميع الآن أن المرض العضال الذي أنهك الاقتصاد الوطني المغربي هو النهب و سوء استخدام موارد البلاد الطبيعية و المادية و البشرية، و هو مرض عضال لأن سوء الاستخدام لم يكن خطأ أو نتيجة لخطة أو رؤية غير سديدة، و إنما كان مقصودا من أجل خدمة مصالح كمشة لا تكاد تبين. لقد أنهك هذا المرض العضال جسم الاقتصاد الوطني. و عندما فرضت عليه الخوصصة و إلغاء الدعم و فتح الأسواق على مصراعيها على الرأسمال الخارجي و الاستثمارات الأجنبية و تحرير التجارة وجد نفسه قد أنهكه المرض العضال و بدا منهكا، و تبين بجلاء أن المغرب أضاع، بفعل فاعلين معلومين و معروفين، أكثر من موعد تاريخي لتقوية الصناعة الوطنية ، و بذلك أجهضت مختلف فرص التنمية المستقلة القائمة على قاعدة الاعتماد على الذات.

و هكذا وصل المغرب إلى حالة مزرية تتميز بالأساس بتعميق الشروخ الاجتماعية و اتساع دوائر التهميش و فضاءات الفقر في صفوف أوسع فئات الشعب المغربي و استفحال الثراء الفاحش و البذخ غير المبرر. فهناك ما يفوق 8 ملايين من الفقراء أغلبيتهم تحت عتبة الفقر المطلق. أما البطالة فأضحت تنهك أكثر من جيل، و قد همت الأغلبية الساحقة لجيل بكامله، و هي تفوق نسبة 20 في المئة في العالم القروي و 18 في المئة في الحواضر. و الحقيقة أن الواقع يشير بأن النسب هي أكثر من ذلك باعتبار أننا نعتبر ماسح الأحذية غير عاطل و كذلك بائع السجائر بالتقسيط و ماسح زجاج السيارات عند الإشارات الضوئية بالمدن و اللواتي يمارسن الدعارة و غيرها من المهن المهمشة التي لا تدر على ممتهنيها ما يمكن أن يسدون به رمقهم بانتظام...فهؤلاء يعتبرون بالمغرب غير عاطلين رغبة في التخفيف من نسبة البطالة و هذا عن علم و لغرض في نفس يعقوب.

و عموما فإن الاقتصاد المغربي عجز، عمليا و فعليا، عن توفير الحد الأدنى من الدخل و الخدمات الاجتماعية للتصدي لأدنى متطلبات الحياة الكريمة. و الغريب في الأمر هو عندما تأكد هذا العجز، و زادت حدته كان جواب الدولة هو تخليها التدريجي، لكن بوتيرة سريعة عن أدوارها الاجتماعية و التوزيعية، و هذا من شأنه لا محالة أن يعرض البلاد الانفجارات اجتماعية، لاسيما و أن الشباب المغربي أضحى على يقين أنه محكوم عليه ببطالة ممنهجة مزمنة.

معضلة البنية الاقتصادية المغربية
لقد أضحى من المؤكد أن الدولة المغربية تخلت في واضحة النهار على جملة من مهامها الاجتماعية. و غالبا ما يتم ربط هذه الإشكالية بقضية العلاقة بين الاقتصادي و الاجتماعي في ارتباطها بموضوع التنافسية. فهل الدولة المغربية صاغت لنفسها دورا اجتماعيا جديدا؟ و هل هناك مشكلة في هذا الصدد؟

و يبدو أن هذا الإشكال هو بالأساس مرتبط بإنتاج القيمة المضافة. و بالنسبة للمغرب هناك مستويين اثنين. المستوى الأول و هو متعلق بإنتاج القيمة المضافة، أما المستوى الثاني فهو مرتبط بتوزيع القيمة المضافة المنتجة على مستوى الاقتصاد الوطني. إذ أن المنتج الحقيقي هو الخاسر الأكبر في هذا التوزيع، أما الذي لا علاقة مباشرة بالإنتاج هو الرابح الأكبر من عملية توزيع القيمة المضافة، و هنا تكمن المعضلة الكبير بالنسبة للمغرب.

كما أنه من جهة أخرى، لازال الاقتصاد المغربي ينعت بالاقتصاد الريعي يملك قدرة تنافسية كامنة لم تتحول بعد إلى قدرة تنافسية جارية و مستدامة. و بالتالي فإن ضعف القدرة التنافسية التي يعاني منها حاليا الاقتصاد المغربي تجد أسبابها في ضعف الأداء الاقتصادي سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص.
كما أن من أسبابها اللهت وراء الاستثمار الأجنبي عوض تشجيع الاستثمار الداخلي، علما أن الاستثمار الأجنبي يأتي إلى البلاد للمشاركة في الأرباح و جنيها و ليس لتحقيق التنمية.

و مهما يكن من أمر إن إشكالية تنافسية الاقتصاد المغربي مرتبطة بإصلاح فعلي و جذري لجملة من العوامل المؤثرة في عملية التنمية و منها التعليم و سياسة التوطين التكنولوجي و البحث العلمي و تفعيل محددات النمو الاقتصادي بغية تحقيق استدامة تطور معدل الدخل الفردي الحقيقي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى